الفقه في الدين

سعيد بنسعيد العلوي

TT

الفقه في الدين درجة عالية من مراتب الوعي الديني في الإسلام، لا بل إنها المرتبة العليا التي لا تضاهيها منزلة أخرى. نقول هذا بالاستناد إلى قول المصطفى (صلوات الله وسلامه عليه) في الحديث الذي يورده البخاري ومسلم وابن حنبل في ألفاظ متقاربة: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين». ونقوله أيضا اعتبارا لما يقضي به أحد المبادئ العليا في التشريع الإسلامي: «لا يعبد الله بجهل». وهذا المبدأ يعني أن أمر الدين لا يستقيم إلا بالمعرفة الدينية الصحيحة. وأحسب أننا، في العالم الإسلامي اليوم، وفي وطننا العربي، أحوج ما نكون إلى استحضار هذه الحقيقة الأولية: وجوب الفقه في الدين والتدبر في معنى الفقه المطلوب وفي مقتضياته. وفي رحاب الشهر الفضيل هذا، وتفكرا في مناح من وجودنا الراهن، سياسيا واجتماعيا وثقافيا، نود أن نقف وقفة تفكر في الدلالة البعيدة للفقه في الدين وفي مستلزماته.

تكتسي الوقفة هذه صفة الضرورة القصوى متى تبينا أن أحد مظاهر الاضطراب والسوء في وجودنا المعاصر، نحن أهل الإسلام، يقوم بالضبط في هذه الجراءة على الدين التي تجعل من زمرة كبيرة العدد من الأميين في المعرفة الدينية أو من كان زادهم قليلا ليس دعاة ووعاظا ومرشدين فحسب، بل تحملهم، دفعة واحدة، إلى رتبة الإفتاء في الدين والحكم بالتحريم آنا وبالتفكير آنا آخر. هنالك «تلبيس» شديد على الناس وخلط كثير، مؤلم، بين ما كان متصلا بالدين وما كان يمت إلى السياسة وإلى غيرها بسبب. لذلك فنحن ما نفتأ نقول، ونكرر مع غيرنا القول، إن الإسلام يعاني من معاداة من كان ينتسب إلى المسلمين أكثر مما يصيبه من أذى من يجاهر بعداوة الإسلام والمسلمين. يكفي في ذلك أن ننظر في جوانب كثيرة مما لا نزال نشاهده في الساحة العربية ويتم التلويح به من شعارات وأحكام تدل على جهل يكاد يكون تاما بالدين الإسلامي وبالمبادئ الكبرى وبالقواعد العامة التي توجه أهل الإسلام.

حالنا اليوم، في الوطن العربي الإسلامي خاصة، يستوجب في هذا المقام التذكير بحقائق أساسية ثلاث، يبدو أننا ننساها، أو بالأحرى، نتناساها.

الحقيقة الأولى هي أن القول في الدين يقتضي العلم الضروري والكافي لذلك، فليس لأي كان أن يفتي في الدين أو يقول فيه كما يحلو له. ليس عبثا أن المعرفة الدينية (المطلوبة شرعا) تستوجب بدورها تصنيف المؤمنين في خاصة وعامة، وغني عن البيان أن هذه القسمة لا ترجع إلى تمايز اجتماعي يكون التصنيف على أساسه؛ فيكون الأغنياء في جهة والأقل غنى أو الفقراء في جهة أخرى. لا علاقة بـ«الخاصة» في الخطاب الديني للإسلام بمال ولا بغنى أو فقر. يتساوى الخلق جميعهم في الطبيعة الإنسانية وفي الحق في التمتع بحقوق الإنسان كاملة، ولكنهم يتفاوتون في المدارك وفي القدرة على إدراك مرامي الخطاب الديني. لنقل في عبارة واضحة إن الخطاب الإلهي واحد، وكذا القول النبوي، ولكن المخاطبين لا يتساوون في استيعابه. الخاصة هي بالتالي تلك الفئة التي تمتلك من أدوات المعرفة الشرعية ما يجعلها في وضع مغاير لما تكون عليه «العامة». هذا التفاوت في الفهم والإدراك لا ينال في شيء من المساواة في الطبيعة الإنسانية ومن الحق في الكرامة والحرية، وبالتالي من الحق في التمتع بحقوق الإنسان، كما ذكرنا قبل قليل. ما يلزم الخاصة من واجبات هو غير ما يلزم العامة: فللعامة معرفة في الدين تلزمها وليست مطالبة بمعرفة أعلى منها، ومتى حاولت ذلك فإنها تقع في الإثم وتسقط في التطاول.

وللخاصة (علماء الإسلام في نهاية الأمر) مسؤوليات تجاه الخاصة. هذا نظام معرفي - وجودي يقتضيه ترتيب الوجود الإسلامي بطبيعته، وفي الخروج عنه يكون القول في الدين عن جهل، وتكون بداية الفتن والشرور. هل نحن في حاجة إلى القول إن الوجود العربي - الإسلامي يعرف من الخروج عن هذه القاعدة البسيطة الكثير فينتج عن هذا الخروج وعن ادعاء المعرفة الشرعية مصائب وأهوال؟ أليس الغلو (أو التطرف كما يقال في الغالب) سندا للإرهاب وتمهيدا له في الأغلب الأعم؟ ما تظهره لنا مشاهدة الواقع المعيش هو أن كل حركات الإرهاب والعنف الجسدي العنيف كانت تجد خلفها دوما دعامة من الجهلة بالدين ومن أنصاف المتعلمين. الحفاظ على القدرة على التمييز بين ما يلزم العامة وما كانت الخاصة مطالبة به هو ذاته نمط أول، ضروري، من أنماط المعرفة الدينية في الإسلام. لنقل، في عبارة واضحة، إنه الشرط الأول (الضروري والكافي كما يقول علماء المنطق) لإمكان الفقه في الدين وتحققه في الوجود الإسلامي حقيقة أولية يجمل التذكير بها، وأمر بديهي تلزم مراعاته وصونه من العبث به.

الحقيقة الثانية هي أن الوجود الديني في الإسلام، بل إمكان تحققه على الوجه الصحيح، يعتبر من شروط الفقه في الدين ومن مستلزماته، متى أحسنا الاستماع إلى الآمر الشرعي، يؤول بنا إلى مراعاة مبدأ شرعي كبير آخر، مبدأ ضروري، هو مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والأمر بالمعروف، متى ظهر تركه، والنهي عن المنكر، متى ظهر فعله، هو التعريف الذي يقدم للحسبة كما نعلم. ونحن إذ نتحدث عن الحسبة والاحتساب فنحن نقف على عتبة حد فاصل بين المعرفة والجهل. فمن جهة أولى ليس كل أحد يملك أن يقرر ما المنكر القبيح المنهي عنه وما المعروف الواجب فعله. لعل أول ما يلزم البدء به في هذا الصدد (خلافا لما يتوهمه الكثيرون) هو أن المنكر الأكبر هو الظلم بكل صوره وتجلياته. والظلم، شأنه في ذلك شأن العدل، لا يظهر أو يختفي إلا في الوجود الاجتماعي للبشر، وليس يتجلى إلا في الممارسات السياسية. لنقل، استنادا إلى ما ذكرناه أعلاه، إن البت في أمر يعتبر «معروفا» وفي آخر يعد «منكرا» أمر يخص «الخاصة» ويرجع إليها، وهذا من جانب أول، وهو يستوجب وجود القانون واعتباره السلطة العليا التي يكون الاحتكام إليها. هل حركات الإرهاب، في مختلف صورها وهي تحتمي خلف ادعاء الحفاظ على الشريعة ومراعاتها، شيء آخر سوى الجهل بالدين والخلط الشنيع بين ما يلزم كل فئة في مرتبتها وما يستدعيه الآمر الديني من وجوب إيلاء القانون الدرجة العليا في الوجود الاجتماعي. متى غابت القدرة على هذا التمييز فإن أعمال النهب والسرقة والقتل تجد كل المبررات التي تكون في حاجة إليها. كيف يكون لنا، مثلا، أن نفهم ما حدث في الشهور الأخيرة من جرائم ارتكبت باسم الدين و«الحسبة»؟! الحقيقة الثالثة هي أن من شروط الفقه في الدين ومن دلالاته في الوقت ذاته القدرة على التمييز بين ما كان يتصل بالدين ويرجع إليه ضرورة ووجوبا وما كان من أمور الدنيا ومقتضيات الوجود فيها، ومن مظاهر التحول والتغير التي ليس لها أن تمس جوهر الإسلام في شيء. الفقه في الدين يقتضي جملة مبادئ وكليات. منها المبدأ الأسمى الذي يقضي بأن شرع الله يكون ويتحقق حيث تكون المصلحة، وهذه بطبيعتها متحولة متبدلة في تجلياتها. ومن نتائج هذا المبدأ وتجلياته العمل على التماس مقاصد الشريعة والأهداف البعيدة التي تروم تحقيقها.

الفقه في الدين هو فيصل التفرقة بين الغلو والاعتدال وهو، في زماننا هذا، الحصن المنيع الذي يقوم في وجه الظلم والفساد والتوسل إلى الفتنة باسم الدين.