لماذا يشكك غالبية المسلمين في دفاع أميركا عن الديمقراطية؟

إميل أمين

TT

في خضم الأحاديث السيارة عن دمقرطة العالم العربي والإسلامي، لا سيما تلك التي واكبت ظاهرة ما عرف باسم الربيع العربي، يتوقف المرء كثيرا أمام العلاقة الجدلية القائمة بين الشعوب الكائنة في تلك الدول وهي إسلامية في مجملها إلا قليلا، وقليلا جدا، وبين الدور الذي تدعي الولايات المتحدة الأميركية أنها تقوم به في زخم الوليد الديمقراطي الجديد، إن كان بالفعل وليدا وليس سقطا.

في هذا الإطار تأتي نتيجة استطلاع الرأي الأخير الذي أجراه معهد «بيو» لقياسات الرأي العام في واشنطن نهاية شهر يوليو (تموز) الماضي، لتلفت الانتباه إلى واقع حال تلك العلاقة.. ما الذي أسفر عنه الاستطلاع الذي جرى في ستة بلدان مسلمة؟

بحسب ما أعلنه المركز الجيد السمعة، فإن غالبية المسلمين في ست دول ترى أن الولايات المتحدة الأميركية ورغم الأحاديث الطنانة والتصريحات الرنانة الداعمة للتحول الديمقراطي فيها، تشكل في واقع الحال عقبة كؤودا أمام تطلعاتهم للديمقراطية.

الاستطلاع المشار إليه جرى في الفترة الواقعة بين منتصف مارس (آذار) إلى منتصف أبريل (نيسان) الماضيين، وذلك باعتباره جزءا من سلسلة دراسات «بيو» السنوية بشأن الاتجاهات العالمية على مدى السنوات الاثنتي عشرة الماضية.. لماذا يشكك المسلمون في رغبة أميركا الحقيقية في سيادة مفاهيم الديمقراطية في دولهم؟ ربما يجدر بنا قبل الجواب البحث في مفردات الاستطلاع والتطلع إلى الشأن الأهم «هل يرغب المسلمون حقا في قيام أنظمة ديمقراطية في بلدانهم لا سيما الثائرة منها أم لا؟».

الشاهد أن الدراسة بينت أن المسلمين في مصر والأردن وباكستان وتونس ولبنان وتركيا لا يرغبون فقط في قيام حكومات ديمقراطية، بل يتطلعون إلى بلورة مفاهيم محددة وواضحة وغير ملتبسة مرتبطة بالحكم الديمقراطي، بما في ذلك إجراء انتخابات حرة، وحرية الدين والعقيدة، وحرية التعبير والحقوق المتساوية للمرأة. على أن الاستطلاع الذي شمل مقابلات مع نحو 26 ألف شخص في 21 بلدا قاد كذلك إلى الإقرار بوجود مفاضلات بين رغبات الجماهير الإسلامية لجهة الديمقراطية من ناحية، والاستقرار السياسي والاقتصادي من ناحية أخرى. فعلى سبيل المثال تبقى الرغبة في دول مثل لبنان وتركيا ومصر في الحكم الديمقراطي تحظى بشعبية واسعة، في حين قال معظم المستطلعين في الأردن وتونس وباكستان إنهم يفضلون «اقتصادا قويا» على «ديمقراطية جيدة»، وانقسم المصريون حول هذه القضية، في حين فضل الأتراك واللبنانيون الديمقراطية على الاقتصاد القوي.

هل من عودة إلى جواب لعلامة الاستفهام السابقة: لماذا يشكك مسلمو تلك الدول في رغبة واشنطن الحقيقية في ما يخص نشر ملامح وسمات وشيوع النموذج الديمقراطي في أنظمة الحكم الجديدة؟

واقع الحال أن حالة الوعي التي تجتاح سكان تلك الدول أو على الأقل النسبة الغالبة بينهم، تستدعي، وقد استدعت بالفعل، طرح علامات استفهام عديدة من عينة: لماذا تتجه الإدارة الأميركية الحالية، إدارة باراك أوباما، إلى التعاون مع التيارات الإسلامية في كل من مصر وتونس وربما سوريا؟ وما معنى ومبنى المفاوضات واللقاءات السرية والعلنية الجارية بين واشنطن وجماعات بعينها لا تزال مدرجة على القائمة الأميركية السوداء للتنظيمات الإرهابية حول العالم مثل الجماعة الإسلامية في مصر؟

الشاهد أن تلك الأسئلة باتت تمثل إزعاجا حقيقيا للتيارات الليبرالية والعلمانية واليسارية، وغير الإسلامية في تلك الدول، ولسان حالها يقول «هل هي صفقة أميركية جديدة للهيمنة على مقدرات العالم خاصة في تلك الدول عبر تسخير أدوات ورجالات الإسلام السياسي هناك؟».

المفارقة الحقيقية التي تدعو للشك في مواقف أميركا والتي تجلت في نتائج استطلاع رأي «بيو»، هي أنه وحتى عدة سنوات قريبة كانت الولايات المتحدة تخشى من تزايد نفوذ الإسلاميين ناهيك عن تسلمهم مقاليد الحكم وإن بصورة ديمقراطية، أما الآن فقد تبدل المشهد بالمطلق. وهنا تبقى علامة لماذا كائنة لحين معرفة نوايا واشنطن الحقيقية.. من يرشدنا إلى فهم النوايا الأميركية الحقيقية؟

بلا شك التاريخ، والتاريخ وحده عبر ثنائية التجربة والحكم، ولعل أفضل من تحدث مؤخرا في هذه الجزئية تحديدا كانت البروفسورة الروسية فرونيكا كراشينيكوفا التي تشغل منصب المدير العام لمعهد بحوث ومبادرات السياسة الخارجية بموسكو، والتي كتبت تقول «حقا إننا الروس قد تربينا على تولستوي وتشيخوف، ويجب أن نتمكن من تفادي الألاعيب اللفظية لمدرسة واشنطن الابتدائية». حكما، فإن البروفسورة الروسية تضع في خلفيتها الفكرية ما يطلقه المسؤولون الأميركيون من تصريحات رسمية متناقضة في أحيان كثيرة، متضاربة وغير منسجمة مع الواقع التاريخي لها دائما، وكأكاديمية متميزة تنتقل من مستوى التكتيك إلى مدار الاستراتيجية وتتساءل مع الكثيرين بالقول «إن الإنسان العادي حين ينظر إلى الزعماء الذين يفرضون سلطتهم في العالم العربي بدعم الولايات المتحدة تصيبه الحيرة ويتساءل: لماذا تعمد الولايات المتحدة بمساعدة عملائها المحليين إلى إقصاء الحكومات المعتدلة وتضع في الحكم بدلا منها في بلد بعد الآخر المتطرفين المتشددين؟»، وعلى حد قولها فإن هؤلاء المتشددين «هم من ذلك الطراز من الناس الذين نفذوا في 11 سبتمبر (أيلول) 2001 أكبر مأساة في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية».

جرس إنذار الأكاديمية الروسية يدق بقوة ويدعونا للعودة إلى ثلاثينات القرن الماضي، عندما عملت الولايات المتحدة الأميركية والحلفاء الأوروبيون الموسومون بأنهم عقلاء ومتحضرون على تقديم الدعم المالي والصناعي والسياسي الذي شجع الحزب النازي والمتطرف جدا والحركات الفاشية في أوروبا، وقد كان مقصدهم آنذاك توجيه العنف ضد روسيا، وبموجب خطتهم كان المبتغى أن تستنزف ألمانيا وروسيا قواهما بغية أن تفرض الولايات المتحدة الأميركية هيمنتها على العالم الإسلامي.. هل يكرر التاريخ ذاته؟

يخبرنا «كارل ماركس» بأن التاريخ لا يكرر أو يعيد نفسه، ذلك لأنه لو فعلها لأصبح الأمر في المرة الأولى مأساة وفي الثانية ملهاة.. هل تقود واشنطن العالم إلى المأساة الجديدة؟

يرى الروس ومعهم نفر غير قليل حتى من المحللين الأميركيين الثقات أمثال البروفسور جيمس بتراس صاحب الكتاب الجديد والمثير «الثورة العربية.. والثورة المضادة.. أميركية الصنع»، أن واشنطن التي استغلت التيار الإسلامي في ثمانينات القرن الماضي في أفغانستان، تشجع اليوم مختلف المتطرفين الإسلاميين ضمن خطة تشكيل حركة في المنطقة.. إلى من توجه سهام تلك الخطة؟ غير واضح بالتحديد من، لكن الخيارات لا تخرج عن ثلاث دول: إيران وروسيا والصين.

ويذهب الروس ومن سعى مسعاهم إلى أن أتون الحرب والفوضى هذا في الشرق الأوسط والقوقاز وآسيا سينهك باستمرار هؤلاء المنافسين الاستراتيجيين الثلاثة لأميركا، ويسمح لواشنطن بفرض الهيمنة على العالم. والمقطوع به أن هذا الحديث له وجاهته، لا سيما مع التوجه الاستراتيجي الأميركي الجديد نحو الباسفيك لحصار الصين وروسيا من جهة، ولعزفه على وتر - تريد واشنطن قولا وفعلا وإن لم تعلن ذلك علنا - تقسيم العالم الإسلامي إلى معسكرين شيعي وسني.. هل بات علينا إذن أن نتمكن من فك رموز شفرة ليست لغة الولايات المتحدة فقط بل استراتيجيتها أيضا؟

لندع الجواب لتطورات الأحداث، غير أن المؤكد بجانب ما استجد على سطح الأحداث من نوازل هو وجود حالة من عدم الثقة والشك المستمر في كل ما هو أميركي عند العرب والمسلمين، ولهم في الحق ألف حق بناء على معطيات التاريخ والجغرافيا طوال العقود الستة المنصرمة.. هل يمكن إرجاع هذه الحالة إلى أسباب بعينها؟

من بدون تطويل ممل أو اختصار مخل نشير إلى البعض منها على سبيل المثال لا الحصر:

القضية الفلسطينية: ماتت عملية السلام في واشنطن والجثة موجودة على الأرض العربية الفلسطينية، في حين يتبارى المرشحان الأميركيان للرئاسة القادمة 2012 على استجلاب عطف إسرائيل واللوبي الداعم لها في واشنطن، فرومني يعد بالاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل الموحدة، وأوباما يقر قوانين تكفل لإسرائيل مساعدات مالية وعسكرية غير مسبوقة.. وفي ظل هكذا حال من قضية ليست نسبية بل مطلقة فأرض فلسطين أرض رسالات وأديان، ولهذا فهي دوغمائية الطابع، كيف للمسلم والعربي أن يثق في أن واشنطن تحمل له خيرا ما، إذا كانت في الأصل تعمد إلى تقوية المحتل الرئيسي للأرض المقدسة؟

مآل العراق والحرب على الإرهاب: لعل نتيجة استطلاع «بيو» تلفت وبأثر رجعي إلى زيف الدعاوى الأميركية التي تشدقت بأن غزو العراق في 2003 كان بدافع نشر الديمقراطية، والناظر اليوم يدرك بعين لا تخطئ كيف تشظى بلد الرشيد، وكيف أن السعي إلى وحدته السابقة صار حلما بعيد المنال، ومن خلف الذي جرى بقي التذرع بالحرب على الإرهاب والإرهابيين في العراق وفي غيره من البلدان الإسلامية.

الإسلاموفوبيا في الداخل والخارج: يمكن كذلك إرجاع حالة عدم الثقة في واشنطن ونواياها إلى النمو المطرد لظاهرة الإسلاموفوبيا في داخل أميركا تحديدا، وما يتردد صباح مساء كل يوم عن التجسس على المسلمين هناك، وما يشاع عن قراءات لتحجيم حضورهم عطفا على مطاردات أوباما السرية للكثير منهم حول العالم، جميعها تجعل من الصعوبة بمكان الاعتقاد في نوايا أميركية حسنة، لا سيما أنهم يدركون ارتباط المسلمين بعقيدتهم ارتباطا وجدانيا مطلقا.

لماذا تشكك الشعوب الإسلامية من جديد في نوايا واشنطن؟ خذ إليك المثال المصري كدليل وبرهان على الازدواجية الأخلاقية الأميركية المعهودة، فقبل عدة أشهر حاولت استخدام قضية الجمعيات الأهلية والمدنية كمخلب قط في الجسد المصري، فهي من جهة تزودها بملايين الدولارات لجمع كل ما يمكنها جمعه من معلومات عن طبيعة الحياة السياسية المصرية، ولكن عندما تعترض مصر كحق أصيل لها على أفعال تمتهن سيادتها وأمنها القومي لا تجد واشنطن إلا حديث التهديد والوعيد بقطع المعونات العسكرية من جهة وتضييق فرص حصول مصر على قروض بنكية دولية من جهة أخرى.. أين هي إذن ملامح الديمقراطية؟ أم أنها ديمقراطية قشيبة الثوب تلائم وتناسب الجسد الأميركي فقط؟

مثال آخر يعزز الاتجاه الداعي لتغليب الشكوك على حسن النوايا، ففي حين تغازل إدارة أوباما تيار الإسلام السياسي المصري بغالبية إن لم يكن كل أطيافه وأطرافه، وهذا حديث طويل قائم بذاته، فإنها في الوقت ذاته تنفخ الرماد في ملفات الأقليات وفي مقدمتها أقباط مصر، وفي الحالتين يجزم المرء صادقا أن المصلحة الأميركية أولا وأخيرا هي الهدف الأهم الواضح لواشنطن حتى ولو اقتتل المصريون من بيت لآخر ومن حارة لثانية.

وتلفت النظر في هذه الجزئية تحديدا عودة الحوادث الطائفية في مصر في توقيت مواكب تماما لصدور تقرير وزارة الخارجية الأميركية بشأن الحريات الدينية، والذي تعرضت فيه مصر للوم وتقريع بالغين بسبب أوضاع الأقباط بحسب ما ورد في ثنايا التقرير. هل يكفي ما تقدم لإثبات صدقية استطلاع رأي «بيو»؟ ربما يكون شهر سبتمبر المقبل والمواجهة الجديدة المتوقعة بشأن القضية الفلسطينية والموقف الأميركي من قيام الدولة تأكيدا جديدا على موضوعية وصدق هذا الاستطلاع، ما لم تغير واشنطن وجهتها الحقيقية، ولا يحسب المتخصصون أنها ستفعل، بل يرجحون أنها ماضية في تنفيذ أجندة المحافظين الجدد «القرن الأميركي» وإن بأدوات باراك أوباما الناعمة، عوضا عن حروب جورج ووكر بوش الخشنة.

* كاتب مصري