الصيام وتغيير سلوكياتنا.. لما بعد رمضان

في الصوم أيضا مداومة على بعض السلوكيات الغذائية الصحية المفضلة

جانب من صلاة عيد الفطر المبارك في أحد المساجد بالهند (أ.ف.ب)
TT

تعد فريضة الصيام بالشروط والأحكام والآداب التي حددها الله تعالى والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم - مؤسسة تربوية تعليمية فعالة، تقدم الكثير من الدروس والدورات التدريبية الجادة لتهذيب وتدريب النفس البشرية وتعليمها قواعد وآداب السلوكيات والأخلاقيات الحميدة.

ففي الصوم إخلاص ومراقبة لله، وتقوية لإرادة الفرد المسلم، من خلال مجاهدته لرغبات وشهوات النفس والجسد، فعلى مدى شهر كامل يتم تهذيب النفس وتدريبها على الكثير من مكارم الأخلاق، فتصوم الجوارح عن الآثام وكل ما حرم الله، ويكتسب الصائم خلق الصبر الذي يعينه على التقرب إلى الله وتخطي التحديات والعقبات، لمواصلة مسيرة حياته، كما يتعلم خلق الحلم وضبط النفس وسعة الصدر، فإذا خاصمه أو سابه أو استثاره أو أغضبه أحد، يكظم غيظه ويقول: «اللهم إني صائم»، والصوم يربي في قلب الصائم خلق الجود والإكثار من الصدقات والعطف على الفقراء والمحتاجين، والشعور بآلامهم وأحزانهم، فيسارع إلى نجدتهم ومد يد العون والمساعدة لهم، الأمر الذي يقوي رابطة ومشاعر المودة والمحبة والإخاء والتكافل بين جميع أفراد المجتمع على الدوام، والصوم يعلم الصائم الفرح الحقيقي المتمثل في فرحه بتوفيق الله وعونه لأداء هذه العبادة، وليس الفرح والسعادة عندما تقبل علينا أعراض الدنيا الزائلة، التي نحزن عند افتقادها. هذا بالإضافة إلى المظهر الإيماني الرائع في شهر رمضان، من كثرة المساجد بالمصلين والعابدين والذاكرين والقارئين للقرآن، التي تحقق جميعها الغاية من صيام هذا الشهر الكريم، ألا وهي التقوى.

وفي الصوم أيضا مداومة على بعض السلوكيات الغذائية الصحية المفضلة، التي منها إفطار غالبية الصائمين على التمر، ولو عرفوا فوائده، ما خلت منه موائدهم طوال العام.

ولكن السؤال المهم الذي يطرح نفسه سنويا، هو: لماذا لا يستمر البعض على سلوكيات وأخلاقيات الصيام، لما بعد انتهاء شهر رمضان؟

البعض قد يتعامل مع شهر رمضان، بالعاطفة وحدها، التي تكون غير قابلة للاستمرار لفترة طويلة، فتكون العاطفة قوية لدى جميع الأفراد في بداية الشهر، حيث تدفعهم للذهاب للمساجد والحرص على أداء الصلوات الخمس في جماعة والإكثار من الطاعات، ولكن هذه الهمة والعزيمة، قد تفتر قرب انتهاء الشهر، ليتناقص أعداد المصلين، وليعود حال المساجد كما كانت عليه قبل رمضان وتختفي الوجوه التي كانت تتزاحم في أول أيام الشهر الكريم.

فبعد انتهاء شهر رمضان، قد تعود النفس لما كانت عليه قبل رمضان، فتضعف العزيمة لدى البعض في أداء العبادات والطاعات، وتعود سلوكيات وأخلاقيات البعض لما كانت عليه قبل رمضان، حيث لم يستفد من صومه في تغيير النفس نحو الأفضل، وفي حسن تعاملاته مع الآخرين. كما قد تختفي التمور من على الكثير من موائد الأسر، فغالبية الأفراد قد لا يعرفون التمر إلا في شهر رمضان، ولو عرفوا فوائده الجمة في الوقاية والعلاج من كثير من الأمراض، وأنه منجم غني بالمعادن والفيتامينات، ما خلت منه موائدهم ووجباتهم الغذائية على مدار العام، مصداقا لقول الرسول الكريم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم: «يا عائشة، بيت لا تمر فيه جياع أهله، بيت لا تمر فيه جياع أهله».

ولكن الفرد المسلم الصادق المخلص مع الله المجتهد في طاعة الله ورسوله، لا تفتر عزيمته ولا تنطفئ همته دائما في أداء سائر العبادات والطاعات، ويتحلى دائما بمكارم الأخلاق، يفعل ما يرضي الله ورسوله طوال مسيرة حياته، تعطيه فريضة الصيام دفعة جديدة قوية لإحداث تغييرات نحو الأفضل دائما في جميع جوانب حياته وسلوكياته، طمعا في الفوز برضوان الله ومغفرته، فنجده بعد رمضان، مستمرا في أداء الصلوات في جماعه، وقيام الليل، وقراءة وختم القرآن، وفعل الخيرات واجتناب المنكرات، ويستمر على سلوكياته وأخلاقياته أثناء شهر الصيام، فنجده يتحمل ويصبر على أذى البعض في الأفعال والأقوال.

فالإخلاص والصدق وإحضار النية في جميع الأعمال الظاهرة والخفية، هو الذي سيؤثر ليس فقط على عباداتنا، وإنما أيضا على تغيير سلوكياتنا وأخلاقياتنا، قال تعالى: «وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين» (البينة: 5)، وقال تعالى: «فاعبد الله مخلصا له الدين» (الزمر: 2)، وفي الحديث الصحيح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه». وقال الإمام الشافعي رحمه الله: يدخل هذا الحديث في سبعين بابا من الفقه.

انتهاء شهر رمضان، بداية حقيقية لفتح صفحة جديدة مع الله، وأن ننتفع بعباداتنا في تغيير سلوكياتنا وأخلاقياتنا نحو الأفضل، والتحلي دائما بمكارم الأخلاق، قال تعالى: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» (الرعد: 11).