والقمر قدرناه منازل

صالح بن عواد المغامسي

TT

قبل يومين، أعلنت أسرة رائد الفضاء الأميركي نيل أرمسترونغ أنه توفي عن اثنين وثمانين عاما. قدر لهذا الرائد الفضائي أن يكون أول إنسان تطأ قدماه أرض القمر، وهي بلا شك منجز بشري هائل، وقد قال حينها: «إنها خطوة صغيرة للإنسان، ولكنها قفزة كبيرة للإنسانية»، وحسن أن تقرأ الأحداث ولو بعد حين، بل ربما كانت القراءة المتأخرة زمنا، أشد وطئا وأقوم نظرا.

القمر في القرآن العظيم آية ممحوة تدل على عظمة الله وجلال قدرته، وهو في الوقت نفسه مواقيت للعبادات، وأمارات على أجل الطاعات، (والقمر قدرناه منازل) [يس: 39]، (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) [البقرة: 189]، (فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة) [الإسراء: 13].

وفي سياق جداله مع قومه وإقامة الحجة عليهم، أظهر الخليل إبراهيم عليه السلام أن القمر أشد عجزا أن يكون إلها يعبد، (فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين) [الأنعام: 77]، وما أشرك الخليل في عمره كله طرفة عين ولا أقل من ذلك، لكنه قال ذلك على سبيل إقامة الحجة وإظهار المحجة، فما أجلّه من نبي، وما أكرمه من رسول، وما أزكاه من خليل! والقمر في أدبنا العربي عنوان جمال ورمز صفاء إن كان بدرا، قال عمرو بن معد يكرب:

* وبدت لميس كأنها - بدر السماء إذا تبدَّى

* وهو كذلك رمز شقاء إن كان هلالا، يقول ذلك العربي التعيس:

* تزوجتها قبل المحاق بليلة - فكان محاقا كله ذلك الشهر

* عجوزٌ تُرَجَّى أن تكون فتيَّةً - وقد لَحِبَ الجنبان واحدودب الظهر

* تبيع إلى العطار سلعة بيتها- وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر!

* وأبلغ من وصفه قول رب العالمين (والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم).

وفي الذاكرة المعاصرة عرف البشرية الأقمار الصناعية، وتعددت أغراضها وتنافست الدول في إطلاقها، وما كان ذلك ليكون لولا أن الله جل ذكره أذن به قدرا، ومع ذلك ما أسرع أن تتعطل تلك الأقمار! أن تخرج حينا من مدارها، وحينا يفقد من أطلقها السيطرة عليها، يرينا ربنا ضعفنا لنفيء إليه، ويلهمنا أحيانا علما ليرينا فضله علينا، محال أن يعارض القرآن الحقائق العلمية، لكن الحقيقة التي لا تدلك على الله تبقى حجة عليك.

إن القرآن نفسه أعظم الحقائق، وأجل الكتب، وأصدق القصص، وأعدل الأوامر والنواهي، ومع ذلك أخبر الله أنه لا يزيد الكافرين إلا خسارا، وقال: (وهو عليهم عمى) [فصلت: 44].

لذلك، من أخطاء بعضنا إذا رأى أحدا لم تدله حقيقةٌ ما على الله، بادر إلى نفي تلك الحقيقة، وعدّها من الباطل، وهذا تجنّ علمي ومنهج غير سوي يقود إلى نفي حقائق كثر، وعدم الاستفادة منها أو الاستعانة بها على طاعة الله، وبهذا نحرم أنفسنا من الخير الشيء الكثير.

بالأمس، صعد نيل آرمسترونغ إلى القمر، وهبط عليه، والملايين ترقبه وتكبر صنيعه وتفاخر به، وقبل يومين فارقت روحه جسده، فلم يستطع أن يرجعها، وأدخل القبر فلم يستطع أن يمتنع. إنه لا يصح أن تمنعنا حقيقة الموت من أن نقوم بإعمار الأرض كما أراد الله، ولا يصح أبدا أن يجعلنا إعمار الأرض نغفل عن آخرتنا والحياة الحقة التي أخبر الله عنها، وتلك رسالة الإسلام الخالدة وحقيقته النقية.

ومما يؤسف له، انشغال بعض المسلمين بقضايا جزئية غير ذات أثر، وأسوأ من ذلك احترابهم من أجلها وتقاتلهم دونها، وتكفير بعضهم بعضا بسببها، وثمة حقائق قرآنية ووصايا نبوية ومقاصد شرعية لو أدركها المسلمون حقا لما آل بهم الأمر إلى هذا الحال.

فإذا عُدّ من يقوم بهذا الأمر الشنيع، ويرفع رايته، رجلا ذا شأن وجلال، فمن أين لك بمن يصلح الحال؟

بالملح نصلح ما نخشى تغيره فكيف بالملح إن حلت به الغِيَرُ إلى الله المشتكى، وعليه التوكل، ولن يضيع الله دينه.