الأمة والجماعة والحزبيات لدى المؤرخين

رضوان السيد

TT

عاد النقاش فاشتد لدى الدارسين في الغرب وعند العرب، بشأن صورة أو صور الإخباريين الأوائل والمؤرخين عن العهد الإسلامي الأول. والطريف أن بين أسباب ثوران النقاش والجدال المسلسل التلفزيوني الرمضاني عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، والذي كتب نصه الدكتور وليد سيف. وكانت مجلة «الدوحة» القطرية قد أصدرت مع عددها الرمضاني كتاب «الشيخان» لطه حسين، والشيخان كما هو معروف هما الخليفتان أبو بكر وعمر (رضي الله عنهما). ومن المصادفات أنه في الشهر نفسه نشر الأستاذ المعروف ولفريد مادلونغ مقالة يعيد فيها ويكرر إدانة الإخباري سيف بن عمر الضبي الذي بدأت إدانته مع فلهاوزن في أواخر القرن التاسع عشر، بسبب مروياته عن الفتوحات وعن الصراع على عثمان والصراع مع علي (رضي الله عنهما)، وهي المرويات التي اعتمد عليها الطبري إلى جانب مرويات أبي مخنف لوط بن يحيى.

وقد عاش الإخباريان سيف وأبو مخنف في العصر العباسي الأول، وكتبا عن أحداث القرن الهجري الأول أو أحداث النصف الأول من القرن الهجري الأول. وهناك خلاف بين الباحثين حتى اليوم، هل نقلا عن مصادر مكتوبة، أم أنهما اعتمدا على الرواية الشفوية. والمعروف أن جد أبي مخنف قاتل مع علي بالجمل وصفين، في حين لا تعرف الميول السياسية لسيف، بيد أن الدارسين المحدثين يتهمونه بالعصبية لقومه من بني تميم، كما أن من بين التهم أنه يملك نظرة سنية توحيدية تريد تخفيف كثير من حدة الخلافات بين الصحابة. والذي أذكره على سبيل المثال أنه عندما أصدر طه حسين كتابيه «الفتنة الكبرى» و«الشيخان»، في الأربعينات؛ فقد كان من ضمن ما انتُقد به من جانب المستشرقين، أنه - بخلاف صيغه في كتاب الشعر الجاهلي في العشرينات - أخذ برواية سيف بن عمر لأحداث «الفتنة»، حفظا لصورة الراشدين وعهدهم، والصورة القدسية للمسلمين الأوائل! والواقع أن حملة المستشرقين وتلامذتهم من العرب على سيف بن عمر لا تقتصر على الأسباب النقدية في المنهج التاريخي المعروف، بل هناك من جانب المؤرخين العرب الأسباب العائدة للآيديولوجيات الحديثة اليسارية، والأخرى العائدة للخلافات التقليدية بين المسلمين سنة وشيعة حول صورة الصحابة. فأهل السنة لا يتعرضون بالطبع لعلي (رضي الله عنه) ولا ينتقدونه، ويعتبرون أنه إمام حق، لكنهم لا يكفرون خصومه أو يفسقونهم، بل يعتبرون أن الخلافات كانت سياسية وانتهت. بينما يُدين المؤرخون والمتكلمون الشيعة دينيا كثرة من الصحابة في الفترتين: فترة بدء الخلافة على أثر وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم).. وفترة النزاعات في خلافة علي (رضي الله عنه).

لدى سيف بن عمر مشكلة إذن مع الفريق الذي يعتبر أنه يملك رؤية أخرى عن عهدي الشيخين، وعن الخروج على عثمان (رضي الله عنه)، والصراعات في عهد علي (رضي الله عنه). فبحسب هذا الفريق؛ فإن عليا هو صاحب الحق في تولي الأمر بعد وفاة الرسول (صلوات الله وسلامه عليه). بينما يروي سيف وغيره أحداث السقيفة كما تمت، والروايات المختلفة في بيعة علي لأبي بكر (رضي الله عنهما)، وهل كان ذلك قبل وفاة فاطمة (رضي الله عنها) أم بعد ذلك. بينما تعتبر الروايات الشيعية أن بيعة أبي بكر (رضي الله عنه) ما جاءت مصادفة، بل كانت بناء على اتفاق بين الثلاثة: أبو بكر وعمر وأبو عبيدة (رضي الله عنهم)، وقد انتهزوا انشغال علي والعباس (رضي الله عنهما) بتجهيز رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ودفنه. وبالطبع ما انفرد سيف بن عمر بين الإخباريين برواية السقيفة، ولا كانت مرويات الإخباريين هي العمدة في صورة أهل السنة عن السقيفة. بل المعروف روايات الزهري وعروة بن الزبير، والتي استوعبتها كتب السنة النبوية، أكثر مما أوردتها كتب المؤرخين وعلى الخصوص البلاذري والطبري. بيد أن رأي فريق «المؤامرة» ليس قصرا على المتحزبين ضمن الإسلام؛ بل وافقهم على ذلك عديدون، وبينهم المستشرق اليسوعي المشهور لامنس، ليس لأنه مع وجهة نظر الشيعة، بل لأنه ضد الإسلام كله. وقد كان يحب الأمويين، ولا يحب «أولاد فاطمة»، لأنه كان يعتقد أن الأمويين «قليلو الدين»! ولدى أنصار علي (رضي الله عنه) مشكلة أخرى مع سيف ومع الرواية السنية. وهي أنه أو أنهم يخترعون صحابة كثيرين ليزيدوا عدد الذين وقفوا مع أبي بكر وعثمان (رضي الله عنهما) أو كانوا ضمن من اعتزل ولم يقاتل مع علي (رضي الله عنه). فسيف - بحسب مرتضى العسكري صاحب كتاب «مائة وخمسون صحابيا مختلقا» - عظم من شأن التميميين بأن اخترع من بينهم صحابة كثيرين شاركوا في الفتوحات، وكانوا أساسيين فيها، أبرزهم القعقاع بن عمرو التميمي. لكن هذا أمر مستبعد جدا. فكتب الصحابة تذكر أسماء معظم من ذكرهم سيف، ومن مصادر أخرى غير سيف. وتنص على ردة بعضهم مع سجاح وتوبته وعودته. فلا يستطيع سيف أن يخترع، ولا حتى أن يزيد من أدوارهم مع أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما) وفي الفتوحات لأن مصادر الكتابة عن الفتوحات متعددة، وهي لا تختلف إلا في التفاصيل الدقيقة. وباستثناء حالات قليلة هناك اتفاق شبه تام حتى على أدوار القعقاع بن عمرو في الفتوحات، لكن أبا مخنف والإخباريين الآخرين لا يذكرونه كثيرا في الدور الإصلاحي الذي يعطيه له سيف بن عمر بين علي وعائشة (رضي الله عنهما) قبل موقعة الجمل. والذي ينبغي أن يُذكر هنا أن التميميين قاتلوا بكثافة مع أم المؤمنين (رضي الله عنه)، لكن زعيمهم الأحنف بن قيس اعتزل كلَّ النزاع منذ محاصرة عثمان (رضي الله عنه) وإلى مقتل الإمام علي (رضي الله عنه)، وليست له علاقة معروفة بعثمان (رضي الله عنه)، أما علاقته بعلي فكانت جيدة.

إن أكبر مشكلات المؤرخين المُحْدَثين مع سيف بن عمر تتصل بالدور الضخم الذي ينسبه لعبد الله بن سبأ، أو ابن السوداء، في إحداث الفتنة على عثمان، وفي التظاهر بنصرة علي إلى حدود الدعوة لعبادته، وفي منع التصالح بين علي وخصومه قبل موقعة الجمل بالبصرة، ثم في منع التصالح بعد التحكيم بين علي ومعاوية. وسيف بن عمر بالفعل هو الراوي الرئيسي لقصة عبد الله بن سبأ وشخصيته الغريبة والمثيرة وأدواره الكبيرة. وله وظيفتان عند سيف، وظيفة مباشرة هي التآمُر وصنع الفتن لتفرقة كلمة المسلمين لأنه تظاهر بالإسلام وبقي على يهوديته، ووظيفة غير مباشرة وهي معذرة الصحابة والناس الكبار الذي شاركوا في الاقتتال، لأنهم كانوا في الغالب مغلوبين على أمرهم بسبب هيجان العامة الذي أحدثه ابن سبأ، واضطروا للمشاركة دفاعا، ثم إنهم ما لبثوا أن تابوا وعادوا واعتزلوا سراعا، واستغفر بعضهم لبعض. فقد استقر في أخلاد أولئك الأبرار أن حب عثمان وعلي (رضي الله عنهما) معا لا يجتمع إلا في قلوب أحرار الرجال. فعثمان لم يخطئ، وإن كان قد أخطأ فإن خطأه أو أخطاءه القليلة لا تبرر قتله. وعلي كان يكره سفك الدم والنزاعات، ولذلك مال للتصالح بالبصرة وبصفين وفي كل مكان. لكن كما كان ابن سبأ والشبان الهوج مذنبين في أحداث المدينة وقتل عثمان (رضي الله عنه)، فكذلك كانوا مذنبين في إنشاب القتال بين علي (رضي الله عنه) وخصومه في كل الأوقات، وكانوا يحبطون في كل مرة محاولات الوساطة والمصالحة.

اختلف المؤرخون مستشرقين وعربا منذ أيام فلهاوزن في الموقف من مرويات سيف بن عمر؛ وبخاصة ما اتصل منها بموضوع عبد الله بن سبأ. فالرجل ذو دور هائل بحسب تصوير سيف، إنما لا يظهر منه أو عنه شيء بعد استشهاد علي (رضي الله عنه). ثم إنه يغيب في اللحظات الحرجة مثل التحكيم أو مسألة الحرورية ونهوض علي للقتال بعد فشل التحكيم. كما أن وجهات نظره تبدو متناقضة وتتراوح بين تقديس علي والتآمُر عليه. وصحيحٌ أن سيفا هو صاحب الرواية الوحيدة شبه المتماسكة عنه، لكن الإخباريين الآخرين يذكرونه أيضا بمن في ذلك أبو مخنف إنما من دون أن يعطوه دورا بارزا. ويواجه الرأي الذي يُنكر وجود ابن سبأ التاريخي مشكلة من نوع آخر. فهناك فرقة متطرفة نُسبت إليه تحت اسم «السبئية» ذكرها الحسن بن محمد بن الحنفية في رسالته في الرد على القدرية، ورسالته في الإرجاء، بعد وفاة جده علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) بثلاثين أو أربعين سنة. والمفروض أنه ما دام الحسن من الأسرة الطالبية فإنه يعرف الكثير عن عهد جده من أبيه محمد ومن غيره. وربما ما سمى هؤلاء أنفسهم بذلك بل كانت تسمية نابزة، إنما الذي يبدو أن الحسن بن محمد بن الحنفية كان يعرف بعض هؤلاء الذين يقدسون جده عليا أو يؤلّهونه، كما يقدسون والده محمد بن الحنفية، وقد عمل بعض هؤلاء مع المختار بن أبي عُبيد عندما احتل الكوفة وتتبع قتلة الحسين (رضي الله عنه) وأنصار بني أمية.

ما فائدةُ هذا الكلام كلِّه في «تصحيح» أو تحقيق جديد ونقدي لصورة عهد الراشدين في الأخلاد والوعي والكتابة التاريخية؟ لا شأن لهذا كله بشيء من ذلك. فقد قُتلت هذه الموضوعات بحثا ونقدا ونفيا وإثباتا، بحيث نستطيع أن نذكر من نصر هذا الرأي أو ذاك بمجرد ذكر الدعوى! لكن الذي يبعث على العجب أن يثير هذه الحساسيات مسلسل عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، فيندفع للكتابة فيه على المواقع وفي وسائل الاتصال الأخرى آلاف الشبان، وينقسموا طوائف ومذاهب من حول عمر (رضي الله عنه) وعهده وعلائقه بغيره من الصحابة، ويندفع من ورائهم مستشرقون كبار فيعودوا للقراءة «النقدية» لخلافة الراشدين، وليس ذلك من النقدية في شيء؛ بل هو مشاعر دفينة ومعلنة ضد هذه الشخصية العظيمة في تاريخ الإسلام.