مؤسسات دينية جديدة أكثر نجاعة في التأثير على العقول والنفوس

سعيد بنسعيد العلوي

TT

هل نحن في العالم العربي أمام «مؤسسات دينية» جديدة؟ (والمزدوجتان للتحفظ، بطبيعة الأمر).

هل نحن، على أقل تقدير، أمام ميلاد (إن لم نقل تطور) صيغة جديدة معاصرة ذات تكنولوجيا هائلة من صيغ مراقبة وتأطير الحقل الديني في العالم العربي؟

مما لا جدال فيه أننا، منذ عقد ونصف العقد، أمام ظاهرتين جديدتين تمتلك كل منهما قوة هائلة وتتوفر على نجاعة فائقة في التأثير على العقول والنفوس. الظاهرة الأولى هي الفضائية الدينية (وربما أيضا القناة الوطنية أو المحلية)، والظاهرة الثانية هي ظاهرة المواقع الإسلامية على الشبكة.

الحق أن السؤال كان موضع انشغال شخصي في دراسة كنت قد أعددتها ونشرتها في مطلع عام 2009 تحت عنوان «المؤسسة الدينية والتجديد في العالم العربي» وبالتالي سنة واحدة على الأقل قبل الأحداث الأولى للربيع العربي وفي «فيس بوك» في استعماله العربي. ولأسباب كثيرة أجد اليوم أن السؤال الذي طرحته في حينه لا يزال اليوم سؤالا ملحا ومعاصرا معا، ومن ثم فإنني أجدني في حاجة إلى الرجوع إليه.

لنقف برهة وجيزة عند كلتا الظاهرتين قبل المغامرة بتقديم جواب ممكن عن السؤال المطروح.

لا مغالاة في القول إن التلفزيون يشكل اليوم أداة فاعلة، شديدة الخطورة والتأثير، في تكييف الوعي وفي بناء شخصية كل من الطفل والمراهق بل والإنسان الراشد أيضا. ففضلا عن كيفيات التأثير التي تمارسها التلفزة من الناحية السيكولوجية وخارجا عن الدرس الذي يفيده علم النفس الاجتماعي في الصلة بين مشاهدة التلفزيون والواقع المعيش يلزمنا أن نضيف، إذا كنا في حاجة إلى ذلك، أن ذلك الأثر يكون أكثر قوة حيث ترتفع نسب الأمية، من جهة أولى، وتقل أو تتضاءل عادة القراءة من جهة ثانية. والعالم العربي، بحمد الله، يدخل في عداد هذه الفئات. في واقع، مثل واقعنا العربي، يغدو التلفزيون أداة مهمة، بل أكاد أقول الأداة الأولي لاكتساب المعرفة الدينية وقناة خطيرة لتكييف الوعي الديني على النحو الذي تريده الجهات المسؤولة عن مختلف وسائل الإعلام في العالم العربي - ولذلك كانت، على وجه الخصوص شديدة الحساسية لما يقدم في التلفزيون من برامج ومواضيع تمت إلى الدين بصلة.

في المشهد الإعلامي العربي، منذ ما يربو الآن على عقدين من الزمان، فضائيات إسلامية دينية متخصصة، سنية وشيعية، وفضائيات دينية عربية (أو ثبت باللغة العربية) مسيحية. أغلب هذه الفضائيات والقنوات في ملك الحكومات، ولكن فيها من تعود الملكية فيها إلى الخواص أيضا. مدار الحديث في مختلف تلك القنوات والفضائيات هو الدين وما يتصل به من قضايا: وعظ ديني، وندوات ولقاءات تتصل بالدين، وقضايا ينظر إليها من وجهات النظر الدينية التي يصدر عنها أصحابها وتتبناها الجهات التي تملك أن تقرر في شأن المضامين والهداف. في هذا الصدد يصح الحديث عن مؤسسات دينية جديدة قائمة الذات ويتعين النظر إليها من حيث أنها كذلك. مؤسسات تتنامى شرعيتها وتتسع دوائر نفوذها على نحو قد لا تمتلكه المؤسسات التقليدية متى قورنت بما تستطيعه التلفزة وتطيقه من أسباب الفعالية والنجاعة وقوة التأثير في النفوس والوجدان.

إذا كان من نافلة القول حقا أن الشبكة قد أحدثت ثورة عارمة في التواصل وأن المواقع الاجتماعية على الشبكة قد كان لها من الأثر في الوجود العربي المعاصر ما كان لمجمل الأحداث التي أعقبت الرجة العنيفة التي أحدثتها وقائع تونس ومصر واليمن وليبيا وسورية..، إذا كان كذلك فإن من الضروري أن ننتبه إلى ما كان للشبكة ولتطورها السريع وغير المتوقع في العالم العربي من تأثير على تكييف الوعي الديني من جهة أولى وعلى ما استطاعت الحركات الإسلامية (في تجلياتها المختلفة) أن تنتزعه من مكاسب وهذا من جهة ثانية. يجوز الحديث عن عالم افتراضي ديني في مقابل العالم الديني كما نجدنا في الواقع أمام وجوب النظر بكيفية جديدة، مختلفة، إن لم نقل مخالفة، إلى ما اعتاد علماء الاجتماع السياسي (في بلدان المغرب العربي خاصة) نعته بالحقل الديني. لنقل إن الحقل الديني، إدارة وتكييفا بل وتركيبا، قد جعل الأدوات التقليدية تغدو متجاوزة وبالتالي فإن الجهات الحكومية خاصة لم تعد تملك الرقابة والسيطرة على وسائل التبليغ والتوجيه. خفت صوت القنوات التقليدية وضعف في مظاهر شتى منه، لا بل إنه في طور مجاوزته والتطويح به إلى مناطق الظل والفعل الضعيف، إن لم يكن العجز والقصور.

لنعد الآن إلى السؤال الذي طرحناه في البداية: هل يصح القول إننا أمام صيغ جديدة في تأطير ومراقبة الحقل الديني في العالم العربي؟ الحق أن الأجدر بنا أن نتساءل ما إذا كان المسؤولون عن الشأن الديني في العالم العربي في مستوى إدراك التحديات والمسؤوليات التي يطرحها هذا الواقع الجديد؟

الحق أننا، مع الواقع الجديد الذي فرضه تطور الشبكة وتطور الفضائيات واتساع مداها، أمام تحول كيفي في وظيفة المؤسسة الدينية في العالم العربي. لا شك أن من شأن المسالك الجديدة أن تحدث جديدا في طرائق العمل والنظر معا، طرائق نظر وعمل الخطاب الديني في العالم العربي - طرائق المفروض فيها أن يكون لها انعكاس واضح ومباشر على أشكال ذلك الخطاب وعمله.

أما نحن فنجد أن الخطاب الديني في العالم العربي لا يزال مشدودا إلى عزلة ليس يعرف كيف يخرج منها: لا يزال في حال الدهشة والحيرة في حين أن خطاب الغلو والإقصاء يكسب المواقع في كل يوم ويعرف كيف يظفر من المكاسب التكنولوجية بأقوى ما فيها خدمة لأهداف ما أشد بعدها عن الدين السمح وعن العقل معا.