البابا بيوس الثاني عشر والهولوكوست.. نصوص وحقائق

إميل أمين

TT

في مقدمة الملفات التي كانت ولا تزال تعوق جريان العلاقات على وجه أفضل بين إسرائيل وحاضرة الفاتيكان، يأتي ملف البابا الراحل بيوس الثاني عشر (1939 - 1958)، أما لماذا وما السبب؟ فذلك لأن إسرائيل تتهمه بأنه صمت إزاء المحرقة التي تعرض لها يهود أوروبا على يد النازي أثناء الحرب العالمية الثانية. وفي الأعوام الأخيرة، تعقد المشهد بصورة أكبر عندما أبدت إسرائيل اعتراضا واضحا على نية الفاتيكان تطويب البابا بيوس، وهي الخطوة الأولى التي تسبق إعلانه قديسا في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية.

كيف نفكك هذه القصة المعقدة والمتشابكة تاريخيا، وما الذي طرا عليها مؤخرا واستدعى هذا الحديث؟ طوال سنوات عمر متحف «ياد فاشيم» في القدس، بقيت هناك لوحة محفورة عليها اتهامات واضحة تذكر العالم بتقصير الفاتيكان والبابا بيوس الثاني عشر.. هذه اللوحة، وفي يوليو (تموز) الماضي، تقرر تغيير نصها، الذي تسبب من قبل في عدة أزمات دبلوماسية بين الفاتيكان وإسرائيل.

هل النص الجديد الذي وضعته إسرائيل يلغي في الأساس التهم التي وجهتها منذ الستينات للبابا بيوس الثاني عشر؟ الجواب نجده في طي البيان الذي صدر عن بطريركية اللاتين، أي الكنيسة الكاثوليكية في القدس، وفيه أن «النص الجديد يحافظ على حجج منتقدي بيوس الثاني عشر الموجودة في النص القديم، أما الجديد، فهو يضيف حجج من دافع عنه».

والشاهد أن بطريركية اللاتين وإن رأت في تغيير النص على هذا النحو تعبيرا عن التفاتة من جانب إسرائيل للأبحاث التاريخية التي تمت في السنوات الأخيرة بشأن علاقة البابا الراحل بالمحرقة، إلا أنها ترى في الوقت ذاته أن تنقيح النص غير كاف. وترى البطريركية في واقع تلطيف النص الدليل على أن «ياد فاشيم» شعرت بأنه لم تكن الحقيقة مبينة بالكامل. ومن المؤسف أن تشوه بيوس الثاني عشر بهذا الشكل طيلة هذه المدة دون تقديم أي اعتذار.

يتناول النص الجديد حديث الحبر الأعظم بيوس الثاني عشر خلال رسالة عيد الميلاد عام 1942، وفيه أن «مئات الآلاف من الأشخاص، دون ذنب، فقط بسبب جنسيتهم أو عرقهم، قد حكم عليهم بالموت والانقراض التدريجي». ويؤكد النص الجديد على العديد من نشاطات الإنقاذ التي قامت بها الكنيسة الكاثوليكية لمساعدة اليهود، وتشير إلى العديد من الحالات التي تدخل فيها البابا بيوس الثاني عشر بذاته للتشجيع على المساعدة وإنقاذ اليهود.

هل يمكن للكنيسة الكاثوليكية القبول بنصف الحقيقية التي لم يتم التوصل إليها بعد؟

بالقطع لا، بل يتحتم توفير الوقت الكافي لدراسة الوثائق المحفوظة في الأرشيف السري لحاضرة الفاتيكان، التي تبلغ عدة آلاف وتبقى الحقيقة قابعة بين سطورها.. هل هناك متطلبات حتمية ينبغي أن تلتزم بها إسرائيل في هذه الأثناء؟

بحسب مسؤولي الكنيسة الكاثوليكية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فإن فترة الانتظار هذه تحتم على إسرائيل وقف الضغوطات التي تمارسها لإرغام الفاتيكان على فتح أرشيفه السري حسب رغبتها ولتحقيق مأربها من جهة، وكذلك إنهاء الضغوطات السياسية المستمرة من قبل إسرائيل، التي تمنع الفاتيكان من إعلان تطويب بيوس الثاني عشر بسبب اتهامات منقوصة تنافي وتجافي الحقائق التاريخية.

هل قصر بيوس الثاني عشر بالفعل في حماية يهود أوروبا؟ وكيف كانت علاقة حبريته بالنازية؟ ثم هل كل يهود العالم يجمعون على الاتهامات الموجهة إلى البابا الراحل؟

يكشف الكاتب الإسباني إريك فراتيني في كتابه المهم «الكيان» عن أبعاد النظرة النازية للفاتيكان، فيتحدث في الفصل الخامس عشر وعنوانه «ألف عام للرايخ» عن نوايا هتلر لسحق ومحق الفاتيكان، لا سيما بعد أن سرت شائعات في روما عن اقتناع الفوهور بأن بيوس الثاني عشر وأجهزته ساهموا في إسقاط موسوليني. وفقا لفراتيني، لم تكن السلطات البابوية متوهمة في شان الاحترام الذي يبديه هتلر للحياد الفاتيكاني أو لصورة الحبر الأعظم، وفقا لتقارير أجهزة الفاتيكان الدبلوماسية، فقد كان وزير خارجية هتلر يواكيم فون ريبنتروب قد اقترح في ربيع عام 1941 أثناء اجتماع مع وزير الشؤون الخارجية الإيطالية الكونت غاليازو شيانو، إمكانية طرد بيوس الثاني عشر من روما لأنه «لا مكان للبابوية في أوروبا الجديدة. وفي أوروبا الجديدة التي تهمين عليها الاشتراكية القومية سيغدو الفاتيكان مجرد متحف».

وعلى الرغم من الرسائل المطمئنة التي وجهتها الحكومة الإيطالية، فإن الشائعات بدأت تتحقق في أواخر عام 1943 في الذكرى العاشرة للحكم النازي.. في ذلك الوقت، كان المظليون الألمان يسيطرون على محيط ساحة القديس بطرس تحت الأنظار القلقة للحرس البابوي.

يعكس ما تقدم أن النازية كانت ترى في البابوية الضد الأول والمنافس الروحي الأقوى لها في أوروبا، وتمنت أن تزول من نطاق الوجود الأوروبي.

في هذه الأجواء، يتساءل العقلاء: هل كان من الحكمة المطلقة لبيوس الثاني عشر إطلاق تصريحات نارية ضد هتلر والنازية أم العمل في هدوء وصمت وصبر لإنقاذ يهود أوروبا؟ تاريخيا؛ ظل بيوس الثاني عشر ولسنوات عديدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية يحظى بقدر عظيم من الشعبية حتى بين أفراد الجاليات اليهودية، غير أن هذا التوجه الحميد لم يلبث أن انقلب في ستينات القرن الماضي، بعد نشر مسرحية رالف هوكوث وعنوانها «النائب»، التي شكلت نقطة الانطلاق للتشكيك في سمعة البابا بيوس الثاني عشر، وموقفه من المحارق.

والواقع أن المسطح المتاح للكتابة يضيق عن أن يبين الجهود التي كان بيوس الثاني عشر وراءها لإنقاذ يهود أوروبا عامة وإيطاليا خاصة، والراغب في المزيد من البحث والقراءة عليه الرجوع إلى كتاب «البابا بيوس الثاني عشر - مهندس معماري من أجل السلام» (المطبعة البولسية - بيروت 2000) أو كتاب «الراعي من أجل النفوس: حياة تصويرية للبابا بيوس الثاني عشر» (المطبعة البولسية - بيروت 2002).

من أحدث القصص عن الدور الذي لعبه البابا بيوس الثاني عشر في هذا السياق، الشبكة السرية التي أنشاها من أجل إنقاذ اليهود المضطهدين من قبل النازية، ولا يزال أحد أعضائها حيا حتى الآن.. إنه الكاهن الإيطالي جيانكارلو لوتشينتيوني الذي كان مرشدا عسكريا في ميليشيا الأمن الوطني الاختيارية في روما، وعاش في بيت كهنة ألمان ضموه إلى الشبكة لإنقاذ الأرواح.

كانت الشبكة تؤمن جوازات السفر والمال للعائلات اليهودية لتتمكن من الهرب. كما كان المسؤول العملاني للشبكة هو الأب أنطوان فيبر، وضمن آلياته إعطاء الأوراق الثبوتية والأموال التي كان يتلقاها مباشرة من دائرة وزارة الخارجية الفاتيكانية، باسم بيوس الثاني عشر، الذي يقول في أحد تصريحاته: «لقد حملت المال مرات عديدة إلى بيت اليهود.. كنت أحظى بمساعدة 12 كاهنا كاثوليكيا ألمانيا على الأقل في روما، وقد بدأت تدخلات هذه الشبكة قبل الاجتياح الألماني لإيطاليا، وبدأوا المساعدة قبل الحرب، واستمرت على حد علمي إلى ما بعد سنة 1945».

هل من أصوات يهودية شهدت بالحقيقة تجاه مواقف بيوس الثاني عشر؟ حكما أن هناك بين يهود العالم من شهد بالحقيقة؛ من بينهم الحاخام الفرنسي آندريه زاوي المرشد والقائد في الحملة العسكرية الفرنسية، الذي وجه بتاريخ 22 يونيو (حزيران) 1944 رسالة إلى الحبر الروماني مثار النقاش، يشكره فيها وعددا من الكهنة الكاثوليك على المساعدات التي قدموها لليهود خلال المحرقة. هذه الوثيقة عرضت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2008 في الفاتيكان ضمن الوثائق الأكثر أهمية في المعرض الخاص بسيرة حياة بيوس الثاني عشر.

يشير الحاخام الفرنسي في رسالته إلى حضور كاهن فرنسي، وهو الأب بنوا الذي هرب من فرنسا «الواقعة تحت الاحتلال النازي»، ونذره نفسه لخدمة العائلات اليهودية في روما، تحت رعاية البابا بيوس الثاني عشر، وينقل الحاخام قول الكاهن الذي ترك انطباعا كبيرا لدى الجماعة التي عرفته واحتفت به: «أحب اليهود من كل قلبي». هذا القول يذكر الحاخام بقول البابا بيوس الحادي عشر: «نحن ساميون روحيا». وختاما يجمل زاوي مشاعره تجاه البابا بيوس وجماعته بالقول إن إسرائيل لن تنسى أبدا ما فعله لأجل اليهود من إيجابيات.

ضمن إطار الشهادات اليهودية للبابا بيوس الثاني عشر يأتي الحديث الذي أشار إليه المؤرخ الأميركي غاري كورب في نوفمبر من عام 2011، بشأن عثوره على رسالة كتبتها امرأة يهودية قالت إن عائلتها أنقذت من الموت المحتم خلال الحرب العالمية الثانية بفضل تدخل الفاتيكان. تقول المرأة اليهودية التي تقيم حاليا في شمال إيطاليا إنها التقت بالبابا بيوس الثاني عشر في عام 1947 مع أمها وأقرباء لهما، وتم اللقاء بحضور المطران جوفاني مونتيني الذي أصبح لاحقا البابا «بولس السادس». وتقول إنها سمعت عمها يقول للبابا: «أنقذتنا من الموت، وقد رأيتك بزي راهب فرانسيسكاني». ثم نظر إلى مونتيني الواقف إلى جانب البابا وقال له: «وأنت كنت ترتدي زي كاهن وتمكنت من إخراجي من الجيتو اليهودي في روما، واصطحبتني إلى الفاتيكان». وأجابه مونتيني: «أرجو منك أن لا تكرر ما قلت».

يقول المؤرخ الأميركي عن نفسه: «أنا يهودي تربينا على كره اسم بيوس الثاني عشر. كنا مقتنعين بأنه معاد للسامية، وبأنه عميل نازي. كنا نصدق كل ما قيل عنه» ويتابع كورب قائلا: «عندما بدأت أطلع على الوثائق العائدة لتلك الحقبة، أصبت بصدمة، ثم تحولت هذه الصدمة إلى غضب شديد؛ إذ عرفت أنني كنت ضحية لكثير من الأكاذيب».

الشهادة الأخطر التي يأتي على ذكرها المؤرخ اليهودي الأميركي غاري كورب تتعلق بحقيقة تاريخية ستميط الوثائق التاريخية السرية في الفاتيكان اللثام عنها، وهي أن البابا بيوس الثاني عشر استخدم شبكة البعثات الدبلوماسية التابعة للكرسي الرسولي حول العالم لمساعدة اليهود على الهروب من أوروبا المحتلة، وتؤكد على أن الفاتيكان طلب سرا الحصول على تأشيرات دخول من جمهورية الدومينيكان وهي خطوة أدت إلى إنقاذ أرواح أكثر من أحد عشر ألف شخص بين عامي 1939 و1945.

لماذا تغير إسرائيل النص الخاص بـ«بيوس الثاني عشر» في «ياد فاشيم»؟ هل لأنها بدأت تعي الخطأ التاريخي الذي ارتكبته في حق الحبر الذي ستعلن قداسته عما قريب ولا شك مهما اعترضت إسرائيل؟ أم لأنها بدأت تشعر بعزلتها الشديدة في أعين العالم وتريد أن تصلح وترمم ما يتيسر لها من صورتها في نظر كاثوليك العالم؟

السؤال الذي يحتاج حقيقة إلى جواب: هل ابتكرت إسرائيل إشكالية بيوس الثاني عشر من الأصل لتعزز إحكام قبضتها على أوروبا أدبيا وماليا بعد الحرب العالمية الثانية؟ ثم الأهم: هل إسرائيل بصدد مراجعة نقدية لقضية المحرقة التي تبقى في حقيقة الأمر جريمة في حق الإنسانية برمتها في القرن الماضي لا في حق اليهود فقط مهما كان من شأن الخلاف حول عدد ضحاياها؟

* كاتب مصري