مشكلة الشر والوعد والوعيد

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

دار الاختلاف بين أهل السنة والمعتزلة حول قدرة المولى عز وجل: هل هي كاملة ومطلقة، فله أن يخلق ما يشاء من خير أو شر، وليس للإنسان أن يستقل وحده بخلق أفعاله، أم أنه من الاستحالة بمكان تصور إرادة الله للشر؟! فعلى حين يذهب الأشاعرة إلى القول إن الله تعالى يخلق الشر كما يخلق الخير؛ لأنه تام القدرة، يؤكد المعتزلة أن الله لا يخلق الشر ولا يريده؛ لأنه عادل كل العدل وكامل كل الكمال. وفي الأحوال كلها يتفق الفريقان على أن الله تعالى يعلم أزلا كل ما سيكون من خير أو شر، وعلى أنه يريد الخير ويأمر به، وأنه في مقدوره لو أراد أن يمنع حدوث الشر.

وبحسب محمد يوسف موسى؛ فإننا إذا تركنا الإنسان إلى الله، كان لنا أن نقول إن الله يريد الخير وهو محب له، وإنه يريد الشر أيضا!! - حتى إن هذا الشر لا يمكن أن يوجد لو لم يرده - وهو كاره له !!، بمعنى أنه يريد منا أن نطيع وأن نكون أخيارا، وهو محب لما يكون منا من طاعة وعمل خير، ويريد من بعض الناس المعصية وبعض الأعمال التي نعتبرها شرا، وهو كاره لهذا الذي يكون من المعصية والشر، ولكنه قدره وأراد أزلا أن يوجد لخير العالم بصفة عامة.

والواقع أن هذا التأويل أكثر فسادا برأيي مما ورد على لسان الأشاعرة من التصريح بخلق الله للشر، فضلا عن أنه لا يحل الإشكال أصلا على الرغم من زعم محمد يوسف موسى أن هكذا تأويل يحفظ لله عدالته وكمال إرادته وقدرته، وأن أحدا لم يزعم حتى الآن أنه وفق إليه في هذه المشكلة التي تتعلق بذات الله وصفاته البعيدة عن الإدراك والإحاطة بها!! لأن المسألة لا تخرج عن أحد احتمالين: إما نسبة خلق الشرور في العالم إلى الله تعالى، وهو ما يعد نقصا بحقه سبحانه، أو نسبتها إلى الإنسان أو أي شيء آخر (على سبيل المثال القبول بالتفسير العلمي للكوارث الطبيعية ككون الزلازل ناتجة عن ضعف في القشرة الأرضية... إلخ).

أما التسليم بأنها منسوبة إلى الخالق عز وجل مع تأويل ذلك بأنه لحكمة قدّرها منذ الأزل! فتأويل لا يستريح له العقل؛ خاصة أن الرأي القائل بنسبة المعاصي والشرور للخالق سبحانه وتعالى قد أجبر القائلين به على التصريح بتأويلات فاسدة منها على سبيل المثال تأويل المجاعات والأعاصير والفيضانات (بل والهزائم العسكرية!) بأنها ابتلاء من المولى عز وجل، أو تأويل الأوبئة والأمراض بأنها تكفير عن ذنوب الخلق! ولكن إن صح ذلك فيما يتعلق بالكوارث الطبيعية – مع أنه غير صحيح تماما - أو فيما يتعلق بإصابة شخص بالغ مكلف بمرض ما، فكيف يتم تأويل إصابة الأطفال الصغار الذين لم يرتكبوا ذنوبا بعد بأمراض مستعصية؟! ومن جهة أخرى، إذا صح نسبة خلق المعاصي إلى الله سبحانه وتعالى فما دور إبليس إذن؟ وكيف يتم تأويل الكثير من الآيات القرآنية التي تنسب المعاصي والشرور إلى فعل الشيطان كقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام «فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان»؟! وأخيرا، فإن محمد يوسف موسى الذي عاب على المعتزلة قياس أمور الآخرة على ما يجري في هذه الحياة الدنيا، نظرا للفارق، يقيس هنا فعل الله سبحانه وتعالى بفعل الإنسان! أضف إلى ذلك أيضا؛ أن القول بإرادة المولى عز وجل المعصية من بعض الناس وهو كاره لما يكون من المعصية يضع الخالق سبحانه وتعالى في خانة المكره والمجبر! تعالى عن ذلك علوا كبيرا! أخيرا - وليس آخرا - كيف يستسيغ الشيخ قول ما سبق مع إنكاره ما ذهب إليه الأشاعرة من نسبة الإضلال والهداية إلى الله عز وجل، ومع تأكيده أن وجود الضالين الأشرار دليل على اختلاف الطبائع في قبول ما منه يكون الهدى أو بالإعراض عنه، لا على أنه بمثابة ظلم أو إكراه من الله تعالى؟! الواقع، أن تناول المعتزلة لهذه المسألة (مسألة خلق المعاصي والشرور) لم يكن بمعزل عن الهم الأكبر ألا وهو «العدل الإلهي» أحد أهم أصول مذهبهم الخمسة. ومن ثم جاء تصورهم لمدى قدرة الله وعموم خلقه، ولكماله وعدالته، وفيما يتصل بهذا وذاك من العلاقة بينه وبين الإنسان متسقا مع هذا المبدأ الكلامي الخطير.

ومن هنا أيضا جاء تساؤلهم: هل الله عام القدرة والخالقية، فهو يخلق كل ما يصدر عن الإنسان من عمل حتى ما كان معصية وشرا؟ أم أنه منزه لكماله عن خلق الشر والآثام؟ وهل يترتب على ذلك أنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، أو أنه ليس لنا أن ننسب إليه إغراء أحد وإضلاله؟ وأخيرا هل عدالة الله التي وصف نفسه بها توجب تحقيق ما وعد به من ثواب المطيع، وأوعد من عقاب العاصي الشرير؟ أو أن له، لأنه مطلق الإرادة وتمام القدرة وعظيم الرحمة، أن يعذب من يشاء، ويغفر لمن يشاء؟! أما مسألة الوعد والوعيد؛ فإنها تشتمل على شقين أساسيين ألا وهما: جواز ألا يثيب الله الطائع، وجواز ألا يعاقب العاصي. والواقع أن خلاف الأشاعرة والمعتزلة في الشق الأول ليس كبيرا حيث يرى المعتزلة أن الله سيثيب المطيع لأن الطاعة عِلة لاستيجاب الثواب على الله تعالى، على حين يرى أهل السنة أن الله سيثيب المطيع على ما عمل، لا لأن العمل سبب وعلة لاستحقاق الثواب على الله كما يقول المعتزلة، بل لأن الله تفضّل ووعد بذلك في القرآن ومن أوفى بعهده من الله! أما العمل فهو كما يقول الرازي بمثابة «علامة حصول الثواب، لا أنه علة موجبة له».

أما الشق الآخر من هذه المسألة؛ ألا وهو وجوب عقاب العاصي في رأي المعتزلة، أو جواز تخلّف وعيد الله بأن يعفو عنه في رأي الأشاعرة، فالخلاف فيه بين الفريقين كبير. وكما هو الحال دائما، فقد لجأ كل من الطرفين إلى الاستدلال على صحة مذهبه بالقرآن والحديث كقوله صلى الله عليه وسلم: «أتاني آت من ربي فأخبرني بأن من مات من أمتي لا يشرك بي شيئا دخل الجنة. قلت (أبو ذر راوي الحديث): وإن زنى وسرق؟ قال: وإن زنى وسرق». وإلى جانب هذا الحديث الذي استدل به الأشاعرة ثمة حديث آخر يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من فعل شيئا من الذنوب فأخذ به في الدنيا فهو له كفارة وطهور، ومن ستره الله فذلك إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له». على أن المسألة برأينا أعقد من أن نقسمها مثل هذا التقسيم مع مخالفة المعتزلة في القول بتخليد مرتكب الكبيرة الذي لم يتب في النار، وعدم موافقة الأشاعرة في أن الله يغفر الذنوب جميعا بغض النظر عن طبيعة الطرف الذي انتهكت حرمته! بمعنى آخر؛ إن الحل برأينا لا يكمن في هكذا تقسيم وإنما في نوع المعاصي والذنوب التي يكون للمولى عز وجل مطلق الحرية في أن يعاقب مرتكبها أو يغفرها له. ومن ثم يكون من المنطقي أن يكون التقسيم مرتبطا بنوع المعصية لا بإثابة المطيع وعقاب العاصي. خاصة أن المعصية على ما لاحظ الإمام الغزالي بحق تنقسم إلى: لازمة ومتعدية، والفسق لازم لا يتعدى، وكذا الكفر، وأما ظلم الولاة فهو متعد. بمعنى أن من المعاصي ما يكون مرتبطا بحق الله تعالى، كإهمال المسلم في أداء العبادات، ومنها ما يكون مرتبطا بحقوق العباد كالظلم والقهر والخيانة.. إلخ. ونحن نرى أن النوع الأول أمره موكول إلى الخالق عز وجل إن شاء عفا عن هذا النوع من المعاصي وإن شاء عذّب عليه، أما النوع الثاني - نقصد المعاصي التي تتعلق بحقوق الناس - فهذه مما لا يجوز في حقه تعالى أن يتجاوز عنها أو يتدخل فيها ويبقى أمرها معلقا بالطرف الآخر من المعادلة، كالمظلومين، وهو ما يدل له، أو عليه، حديث للنبي (صلى الله عليه وسلم) يخبر فيه أنه إذا كان لعبد مظلمة يوم القيامة خيّره الله إما أن يأخذ حقه ممن ظلمه (بأخذ حسناته أو بإضافة سيئات عليه) أو أن يعفو عنه ويأخذ بيد أخيه إلى باب الجنة! ويبقى القول إن كلاما كذلك الذي نسوقه هنا لا يقلل من قدرة المولى عز وجل الذي أخبر في كتابه الكريم أنه «كتب على نفسه الرحمة» وبمنطق الرحمة والعدل الإلهي تبقى المعاصي المتعدية خارجة عن الإطار الذي وضعت فيه تلك المسألة. ومن ثم لا يجوز قبول رأي المعتزلة القاضي بخلود مرتكب الكبيرة الذي لم يتب في النار، كما لا يجوز قبول رأي الأشاعرة القاضي بأن ما ورد من آيات قرآنية بخصوص الوعد والوعيد إنما جاء على سبيل الإنشاء!

* كاتب مصري