الشريعة الإسلامية وحديث الرئاسة الأميركية

إميل أمين

TT

يبقى السياق المسيطر على الأجواء الفكرية في الولايات المتحدة الأميركية هذه الأيام مجالا خصبا للكثير من القضايا الخلافية السياسية والثقافوية المتعلقة بمسار انتخاب رئيس أميركي جديد للبلاد.

ومن بين القضايا التي يلعب عليها تيار اليمين الأصولي الداعم للمرشح الجمهوري ميت رومني تأتي قضايا الإسلاموفوبيا بتفرعاتها المختلفة، ومن بينها قضية تطبيق الشريعة الإسلامية بدرجة أو بأخرى في الأحكام القضائية المتعلقة بتسيير حياة الأميركيين المسلمين في البلاد، والتي بدا وكأنها تستخدم مؤخرا كخنجر في خاصرة المرشح الديمقراطي الرئيس باراك أوباما، الذي تطارده حتى الساعة تهمة إخفائه لعقيدته الدينية الأصلية كما يتقولون.. ما الجديد الذي أثار هذه القضية في هذا التوقيت الحساس مرة أخرى؟ «إن باراك حسين أوباما ينوي أن يجبر المحاكم على قبول العمل بقانون الشريعة الإسلامية لحل الخلافات العائلية» وإنه «ينوي أن يفرض على الشرطة الأميركية وأجهزتها السماح للإخوان المسلمين بالانتساب لسلكها».. هكذا وجد إعلانا بمساحة صفحة كاملة طريقه إلى عدد كبير من الصحف الأميركية الأسابيع الماضية لا سيما في ولايتي فلوريدا وأوهايو حيث الغالبية الغالبة من مواطنيها لم تحسم أمرها بعد أي إلى من تصوت للجمهوريين أم للديمقراطيين؟

مشاهد الإعلان تحمل رسما كبيرا للرئيس الأميركي وبجانبه اسمه العائلي (حسين) في دلالة لا تخطئها العين لأصوله الإسلامية كما يريد تأكيد ذلك من يقف وراء تلك الحملة وهي جماعة يمينية متطرفة تدعى «الحكومة ليست الله». ولعل الإعلان المذكور يقودنا إلى الحديث عن إشكاليتين باتتا تؤثران على الناخب الأميركي في زمن الانتخابات الرئاسية، الأولى هي قضية الشريعة الإسلامية في الولايات المتحدة وأبعادها الحقيقية وحدود الزيف التي يروجها البعض. والثانية هي الاتهامات المتعلقة بكون باراك أوباما رجل الإخوان المسلمين في الولايات المتحدة والذي دعم وصول أنظمة الحكم الإسلامية إلى عروش وجيوش كانت حتى الأمس من الخلان الخلصاء لواشنطن بامتياز كما الحال في مصر وتونس وليبيا حتى الساعة.

ولعل الجدل احتدم بشكل علني في عام 2010 عندما ألغت محاكم اتحادية تشريعا أقرته ولاية أوكلاهوما ووافق عليه الناخبون ويمنع القضاة من الرجوع إلى الشريعة الإسلامية وذلك بعدما كان عدد من القضاة الأميركيين قد لجأوا إلى نصوص في الشريعة الإسلامية للفصل في قضايا الطلاق والميراث الخاصة بمسلمين أميركيين.

في ذلك الوقت صدر عن مكتب حاكم ولاية كانساس المنتمي للحزب الجمهوري (سام براونباك) بيانا تمت فيه الإشارة إلى أن الحاكم وقع على مشروع قانون يهدف لمنع محاكم الولاية وهيئاتها من الاستعانة بالشريعة الإسلامية أو أي قوانين أخرى غير أميركية في قراراتها.. هل جرى انقسام حتى بين الأميركيين أنفسهم تجاه هذا القرار لحاكم كانساس؟ هذا ما حصل بالفعل، فهناك فريق ذهب إلى أن الارتكان إلى الشريعة الإسلامية في القضايا الشخصية كالمواريث والزواج والطلاق والميلاد وغيرها من شأنه أن يطمئن الأجانب في كانساس لجهة أن قوانين الولاية والدستور الأميركي ستحميهم كما أن هناك بالفعل مطالبات تصل إلى حد التطبيق العملي في بريطانيا لإعمال مبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية في الحياة الخاصة للمسلمين هناك، وقد دعمها بقوة رئيس أساقفة الكنيسة الإنجليكانية وقتها روان ويليامز. غير أن التيار المتربص بالإسلام والمسلمين في أميركا كان يقف بالمرصاد لمثل هذه الدعوة وفي هذا الإطار كتب دانيال بايبس في 16 نوفمبر (تشرين الثاني) 2010 وهو أحد أساطين اليمين الأصولي الأميركي على يهوديته يقول «أوكلاهوما تقول كلا للشريعة» ومعروف عن بايبس عداؤه الشديد للإسلام والمسلمين، ولهذا ففي متن مقاله يحدثنا بأنه: «لا شك أن الشعب الأميركي لم يواجه صعوبة تذكر في استيعاب الجوانب الروحية للدين الإسلامي، ولكنه يلاقي صعوبة في قبول التشريع القانوني للدين والمعروف بالشريعة، والتي بخطوطها العريضة تميز المسلم عن غير المسلم، والرجال فيها قوامون على النساء، مما يتعارض مع المفاهيم العصرية الحديثة».

ويبدو أن قانون براونباك وانتقادات بايبس قد حاولت استباق واقع جديد يتشكل اليوم في إطار الجماعة الوطنية في الولايات المتحدة، وهي أمة قوامها مهاجرون من أعراق وأديان شتى ولكل جماعة توجهات عقائدية مختلفة، وإن احترمها الدستور الأميركي وكفلها، إلا أن تطبيقات ما على الأرض تدخل في سياق ما يعرف بفقه النوازل أو المستجدات ومنها على سبيل المثال قضية الربا المتعلقة بالفوائد البنكية لا سيما وأن عددا متزايدا من المصارف وشركات الاستثمار الأميركية تتجه اليوم إلى تقديم خدمات مالية تتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية بخصوص الربا لخدمة سوق المستهلكين من المسلمين في أميركا وفي العالم ممن يرون أن الفوائد البنكية لا تتفق مع الدين الإسلامي. وقد أعلن مؤخرا فرع لأحد البنوك بولاية ميتشغان توسيع نطاق خدماته بتوفير ما يتاح لديه من خدمات تتناسب مع المسلمين في ثلاث مناطق أميركية كبرى خارج نطاق ولايته. هل كان لهذه لتطورات الجديدة على صعيد الحياة الأميركية أن تمر دون أن تستغل في زمن الانتخابات الرئاسية الأميركية والإعداد لها في الانتخابات التمهيدية بنوع خاص؟ تجلى الجواب في الهجومات المكثفة التي أعلنها رئيس مجلس النواب الأميركي السابق نيوت غينغريتش والذي أخفق في الحصول على ترشيح الحزب الجمهوري له لسباق الرئاسة الأميركية الحالية ومع ذلك فقد رأيناه من قبل يدغدغ المشاعر الوطنية ويغازل الأوتار الدينية بالتهجم على الشريعة الإسلامية معتبرا أنها «تهديد مميت أخطر من الإرهاب على الولايات المتحدة».. كيف ذلك؟

في أواخر ديسمبر (كانون الأول) المنصرم كانت صحيفة «نيويورك تايمز» تذكر بالخطاب الذي ألقاه غينغريتش في يوليو (تموز) 2010 بواشنطن أمام معهد المشروع الأميركي، وضمن ما قاله: «أعتقد أن الشريعة تمثل تهديدا مميتا على استمرار الحرية في الولايات المتحدة والعالم كما نعرفه وأعتقد أن هذا مباشر وحقيقي». وقد أضاف غينغريتش في الخطاب عينه: «الجهاديون الخفيون يستخدمون أدوات سياسية وثقافية واجتماعية ودينية وفكرية، أما الجهاد العنيف فيستخدم العنف ولكن حقيقة الأمر كلاهما مشترك في الجهاد وكلاهما يسعى لتحقيق هدف واحد وهو تبديل الحضارة الغربية بالشريعة».

هل جاء الدور الآن على باراك أوباما ليحمل وزر السعي إلى إعمال الشريعة الإسلامية في أميركا كما يحاول اليمين الأميركي الأصولي بلورة المشهد في حملة مشابهة لتلك التي تعرض لها في عام 2008 وتسعى إلى تقذيعة متهمة إياه باعتناقه الإسلام سرا وبإخفاء خطة تنوي استبدال القانون الأميركي بالشريعة الإسلامية؟ الثابت أنه رغم تصريح أوباما العلني أكثر من مرة بعقيدته الدينية علما بأن أحدا لا يستطيع إرغامه على ذلك دستوريا، فإن السؤال الذي لا يزال يتردد صداه ويعلو كثيرا من جديد: هل باراك حسين أوباما مسلم؟ السؤال في حقيقة الحال لا جدوى منه ولا طائل من ورائه سيما بعد شهادة القس فرانكلين غراهام بأن أوباما ولد مسلما على دين والده، لكنه الآن مسيحي. وفرانكلين هذا ليس رجل دين اعتياديا بل هو الابن المخلص لوالده المبشر الإنجيلي الأشهر في تاريخ أميركا الحديث بيلي غراهام المستشار الديني القريب جدا من قلوب وعقول رؤساء أميركا في العقود الخمسة الأخيرة. لكن تلك الشهادة في حق الرئيس أوباما لم تكن لتمنع تقولات مجلة «أميركان ثينكر» American Thinker المحافظة اليومية والتي تنتمي للتيار الأصولي الأميركي تجاه أوباما، وقد نشرت مؤخرا تقريرا يؤكد أن الرئيس أوباما أقسم أمام وزير الخارجية المصري السابق أحمد أبو الغيط بأنه مسلم ومن أب مسلم وأن حماه مسلم كما أن له إخوة غير أشقاء في كينيا مسلمين، إضافة إلى أنه مخلص للأجندة الإسلامية.

وتشير المجلة ذاتها إلى أن «العالم تغير بعد قيادة باراك أوباما للولايات المتحدة، وأنه إذا كان أوباما يدين بالإسلام أم لا، فلا شك أنه يميل بشكل لا يمكن إنكاره نحو مساندة الإسلام والشريعة الإسلامية». تكاد التهمة الأولى إذن عند غلاة اليمين الأميركي أن تتلبس أوباما أي أنه الرجل المسؤول عن دعم اعتبار الشريعة كقانون بديل في ولايات أميركية، وهي تهمة تدعمها قراءات أخرى ترى أن الرجل هو من يسهل للإخوان المسلمين اختراق المجتمع الأميركي.. على أي أساس يعتمد هؤلاء؟ واقع الحال يمكن أن يشير إلى كثير من القراءات المطروحة هنا وهناك ولا يجزم أحد بصحتها حتى الساعة، ويعتمد مروجوها على القرائن والظروف الزمنية التي جرت بها المقادير ليس أكثر. من هذه ما روجته أيضا مجلة «أميركان ثينكر» بأن جماعة الإخوان المسلمين قد نجحت في التوغل في إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما واخترقتها، أما كيف جرى ذلك فالأمر له علاقة بـ«ميشيل» زوجة أوباما التي يقول تقرير المجلة غير الثابت من مصادر أخرى إنها «تعرفت على منظمات إغاثية يقودها أفراد من جماعة الإخوان المسلمين في بداية انشغال أوباما وزوجته بالعمل السياسي». وتشير المجلة إلى أن ميشيل أوباما اعترفت في أكثر من لقاء صحافي لها بأنها استفادت بشكل مباشر من الفكر السياسي لجماعة الإخوان المسلمين.

ويطول الحديث عن رعاية مباشرة للبيت الأبيض لمنظمات تهتم بحوارات الأديان، منها جماعات يتدخل الإخوان المسلمون في تركيبتها. وعليه فهناك ثلاثة نشطاء، على الأقل، من الجماعة استطاعوا التوغل واختراق إدارة أوباما. يعن للمحلل المتخصص في الشأن الأميركي وبعيدا عن ضوضاء وجلبة التصريحات والقراءات المتخفية في ثوب الوطنية الأميركية ووراءها دون مراء تقبع الإسلاموفوبيا البغيضة، هل المشهد أبعد من مجرد صدامات معركة انتخابية رئاسية تفعل فيها كافة الأسلحة لا سيما غير المشروع منها؟

في تقدير كاتب هذه السطور أن ما يجري على الصعيد الأميركي من نقاشات محورها الإسلام والمسلمون والشريعة والإخوان وغيرها، وإن التبس فيها الحابل بالنابل إلا أن القضية الجوهرية التي تتخلق وبسرعة شديدة في الرحم الأميركي، تلك المتعلقة بتحديد هوية واضحة للمسلمين الأميركيين، فيها احتفاظ بعقيدتهم وشرائعهم ومباشرة طقوسهم الإيمانية، وتدبير شؤونهم الحياتية من جهة، ومن الجهة الأخرى ودون فصل بل في وصل متصل الاندماج في المجتمع الأميركي كمواطنين أصلاء لا دخلاء عليهم، والمهارة الحقيقية والإبداع الكامل، بل إن التحدي الذي يقع على عاتق مسلمي أميركا في مواجهة افتراءات زمن الانتخابات وغيرها، هو في إحداث حالة من التوازن الإيجابي المحمود بين هذه وتلك، لا سيما في ضوء وجود متربصين يعملون على دق الأسافين بين مسلمي أميركا خاصة وباقي الأميركيين على اختلاف مللهم ونحللهم وأعراقهم.

الإشكالية الأخرى التي يشير إليها البروفسور سليمان. سي نيانغ هي أن المسلم الأميركي يعيش في دوائر أخرى لتحديد هويته، وإذا لم يكن المسلم الأميركي متنبها إلى الطابع غير العنصري للإسلام في شكله المثالي، فإنه يستطيع بفضل تشكله المبكر في مجتمع على درجة من الحساسية تجاه كل ما هو عنصري أن يورط نفسه في عالم من الوعي العنصري الذي يعزله عن المسلمين الآخرين في مجموعات عنصرية مختلفة، الأمر الذي يعتبر تحديا رئيسيا للأمة الإسلامية البازغة حول العالم وللجماعة الوطنية الأميركية انتماء والمسلمة عقيدة.

هل يعي مسلمو أميركا أبعاد المأزق الحضاري، بل ربما الفخاخ القائم لهم على عتبات الانتخابات الرئاسية الأميركية والتي عادة ما يختلط فيها المطلق بالنسبي والديني بالسياسي والثقافي بالاقتصادي، حتى ولو كان المقصود بها أول الأمر المرشح باراك أوباما؟ نكون أو لا نكون، هذه هي المسألة كما قال شكسبير ذات مرة.

* كاتب مصري