مسألة تطبيق الشريعة في التاريخ والحاضر

رضوان السيد

TT

يكون علينا عندما نفكر في ظهور مسألة تطبيق الشريعة في الأزمنة الوسيطة، أن نبدأ من مكان آخر، أي من بدء استعمال مصطلح «السياسة» باعتبارها التدابير والإجراءات التي يتخذها الحاكم في إدارة الشأن العام. وساس ويسوس وسائس هي مفردات تتعلق في الأصل بتربية الخيول. وتورد المعاجم العربية شواهد على استعمال الفعل أو المفرد شعرا ونثرا في إدارة شؤون الناس، في حقبة مبكرة. لكن حتى القرن الثالث الهجري ما كان هذا المفرد «سياسة» قد استقرّ بوصفه تعبيرا عن إدارة الشأن العام. فحتى في الترجمات عن اليونانية (بما في ذلك ترجمة عنوان كتاب أرسطو: «السياسيات»)، كان أكثر المترجمين يؤثرون استعمال مصطلح «التدبير». وفجأة في القرن الرابع الهجري بدأنا نقرأ انتقادات للفقهاء بشأن استعمال بعض الولاة والمحتسبين ورجالات الشرطة للسياسة في التصرفات مع مرتكبي بعض المخالفات والجرائم بدلا من «الشريعة». وفي الفترة نفسها أو في القرن الهجري الخامس ظهرت لدى بعض المفسرين للقرآن توجهات للمماثلة بين السياسة والطاغوت. بمعنى أنّ هؤلاء اعتبروا «السياسة» نهجا آخر أو شرعا آخر يُقابل أو يناقض شريعة الله. لكنّ الفقهاء اقتصروا على التشكك في السياسة (بمعنى تغليظ العقوبة للردع عن مقارفة الجرائم)، كأنما ما عادت الحدود والتعازير الشرعية كافية للردع. ويتحدث كل من الباقلاّني (- 403هـ)، وإمام الحرمين الجويني (- 478هـ) عن السياسة ساخطا بأنها من «سَنَن الأكاسرة». ونحن نعرف من تصنيفات كتب نصائح الملوك والأحكام السلطانية أنهم عرفوا ثلاثة أشكال للحكم: الحكم الطغياني، الذي استمدوه من قصص القرآن - والحكم العقلي، ويمثّلون له بأنظمة فارس والروم - والحكم الإسلامي أو الشرعي، وهم يمثّلون له بدولة الخلافة الإسلامية. وكان في تصورهم أنّ الحكم العقلي أو المُلْك السياسي، كما ذكره ابن خلدون، يعتمد على التدبير السياسي المنضبط بالعقل والتجربة وغير المؤسَّس على الدين. وهكذا وحتى القرن السادس أو السابع للهجرة تراوح الأمر لدى الفقهاء بين اعتبار «السياسة» نهجا آخر للحكم لا يستند إلى شرع موحى، أو اعتبار «السياسة» تدبيرا يتخذه الحاكم المسلم دونما رجوع للقضاء أو الفقهاء، ويرى فيه ضرورة لمكافحة استشراء بعض الجرائم. فابن الجوزي (- 597هـ) يذكر أنّ بعض رجال الشرطة في بغداد كان «يغلي اللصوص في القدور» لردع المستشرسين في سلب الناس وقتلهم. وهذا الأمر من النوع الثاني. أما النوع الأول (أي اعتبار السياسة أو الحكم السياسي نوعا آخر من أنواع الحكم غير ما هو معروف في دولة الخلافة) فهو ما يذكره إمام الحرمين( - 478هـ) في «غياث الأمم» عن» سَنَن الأكاسرة والقياصرة»؛ لكنّ الجويني يلحقه بحكم الطغيان، ولا يعتبره على سبيل التمدح حكما عقليا أو سياسيا شأن أبو الحسن العامري وابن خلدون.

إنّ الذي قدم الحل لإشكالية افتراق السياسة عن الشريعة، كان ابن عقيل الحنبلي( - 513ه-) الذي ما وصلنا كتابه في «المصلحة» للأسف بل وصلت شذرات منه عند ابن تيمية( - 728هـ) وابن قيّم الجوزية ( - 751ه-). فقد اعتبر أنّ «قضاء المظالم» على سبيل المثال (وهو قائم منذ أيام المنصور العباسي في القرن الثاني الهجري) هو إصغاءٌ من جانب السلطة لمسائل المصالح. فالمصلحة معتبرة في الشرع، وإنما ينبغي أن تنضبط بضوابط الشريعة. وقد حصل ذلك إلى حدٍ ما في «قضاء المظالم» بحضور الفقهاء أو القضاة في مجال ذاك القضاء. وعبر قرن ونصف تطور وتبلور مصطلح «السياسة الشرعية» التي كتب فيها ابن تيمية رسالته المشهورة. وقد أفادت «السياسة الشرعية» من كتاب «الأحكام السلطانية»، ومن كتاب «نصائح الملوك»، لكنها تميزت بإعادة وضع التشريع في أيدي الفقهاء والقضاة وحدهم. فتبيَّن أنّ المشكلة كانت في تخلّي السلاطين الأتراك عن اللجوء إلى الفقهاء في القضايا ذات الأبعاد السياسية، والاعتماد فيها على «آيين الدولة» بحسب التعبير الإيراني القديم للـRaison d’état. وقد خفّت الشكوى من هذا الافتراق بعد أن عمد السلطان الظاهر بيبرس إلى الاعتراف بالمذاهب الأربعة عند أهل السنة، وتولية قضاة من سائر المذاهب في شتّى الأمصار. كما أنّ الفقهاء تولَّوا - بحسب المذاهب أيضا - أمور الإدارة في الأوقاف والمدارس. وهكذا ساد الانطباع أنّ ذاك الافتراق ما كان إيثارا لنظام آخر غير نظام الشريعة، بل كانت انحرافات فردية. ومع ذلك فإنّ الشكوى لم تنقطع تماما، كما يبدو من كتب النصائح والتفكير الفقهي/ السياسي في القرن الثامن الهجري. لكن يصدعُنا بالفعل نصّ المقريزي (845هـ) (وهو فقيه حنفي)، في كتابه «الخطط»، والذي يذهب فيه إلى أنّ المماليك الأتراك لا يحكمون بشريعة الله وإنما يحكمون فيما بينهم بالياسة أو اليسق، وهي شرعة جنكيزخان الجدّ الأعلى لسائر الشعوب التركية، فحكم السياسة إيهام، وإنما هو حكم الياسة! وجاء العثمانيون فأحلوا المذهب الحنفي وحده، واعتبروه مذهبا أوحد للسلطنة. لكنّ القضاء الشرعي تعاظمت قوته، بحيث ما عاد هناك شيء خارجه حتى في الشؤون الإدارية المتعلقة بتنظيم الدولة ومواردها المالية. وصار شيخ الإسلام (الذي كان لقبه في الأصل مفتي إسطنبول) رأسا لمؤسسة ضخمة تضم مئات المدارس القرآنية والفقهية، وآلاف العلماء الذي ينشّأون في تعليم منتظم كبير الالتزام بالشريعة. إنما في عزّ الدولة وسطوتها عادت الشكوى من الافتراق بين الشريعة والقانون. والقانون مفرد آرامي وصل للترك من طريق الفُرس. وقد عنى بالتحديد أيام سليمان «القانوني» (1522 - 1566) الأوامر الإدارية التي يصدرها السلطان، ويلزم بها الولاة والإداريين في مسائل تنظيمية لبعضها علاقة بالمسائل الفقهية مثل الخراج والإقطاع والوقف. وظهرت شكوى القضاة من أنّ السلطان أراد إلزام القضاء بها أيضا. وقد اعتبرها هؤلاء مخالفة للشريعة، بينما كانت في الحقيقة مخالفة للمذهب الحنفي، والآراء المعتمدة فيه. وقد اضطر السلطان بالفعل لعرض أوامره وتنظيماته على شيخ الإسلام قبل إصدارها فسُمّيت «معروضات». والمفهوم أنّ «القوانين» ما صارت ملزمة للقضاة إلاّ بعد موافقة شيخ الإسلام، أو شيخ العلماء، وهو قاضٍ في الأصل.

ما علاقة هذا التاريخ من النقاش والتجاذُب بشأن السياسة الشرعية، بالمقولة الصاعدة منذ مدة بضرورة تطبيق الشريعة؟ لا علاقة لها على الإطلاق. وإنما ارتبط ظهور هذه المقولة في القرن العشرين بثلاثة أمور: انحسار سلطة القضاء الشرعي عن معظم القضايا والمسائل منذ أواسط القرن التاسع عشر، وحلول القوانين المدنية محلَّه باستثناء قضايا الأحوال الشخصية - وإلغاء الخلافة من جانب مصطفى كمال عام 1924 فزال الإطار ذو المشروعية التاريخية - وشيوع الحملة على التغريب وظهور حركات إسلامية عاملة على صون هوية والمجتمع والدولة. وفي أجواء هذه الحركات والبيئات التي طورتها، تعاظم نقد القوانين المدنية باعتبارها تعني تغريبا وتعني طاغوتا وتفارق روح الشريعة وأحكامها. وعلى أثر ذلك ظهرت مقولتا النظام الكامل والحاكمية. فالحاكمية عند المودودي وقطب هي حكم الله في الأرض من خلال الشريعة. والنظام الكامل بحسب سائر منظري الإسلاميين منذ عبد القادر عودة وإلى الغزالي والقرضاوي ومحمد المبارك، يعني أنّ الإسلام يمتلك نظاما محكما ليس في العقيدة والعبادة وحسْب؛ بل وفي السياسة والحكم والاقتصاد، وعلى الدولة أن تنفذه بتطبيق الشريعة لكي تبقى دولة إسلامية. والشريعة عند علماء أصول الفقه تتضمن عقائد وعبادات وأحكاما ومعاملات. والعقائد والعبادات هي التي تفرّق بين الإسلام والكفر، ولا حكم لأحد عليها. وإنما ترد الإشكالاتُ في الأحكام والمعاملات، وهي عُرضة للاجتهاد والاختلاف المذهبي ولا علاقة لها بالإيمان والكفر. ولذا فإنّ دعوة تطبيق الشريعة تثير من الاشتباهات، أكثر مما تحل من الإشكاليات؛ لأنها تحل في السلطة السياسية الشريعة محل الأمة، وتوكل للدولة مهمة دينية أساسية هي تطبيق الشريعة، فتوحي بانفصال الدين أو الشريعة عن المجتمع، كما توحي بأنّ إسلام المجتمع ناقص غفلة وجهلا أو كفرا، ولا بد من إعادة فرض الشريعة عليه لكي يعود إسلامه أو يكتمل.

لقد حاول الفقهاء المسلمون في القرن العشرين معالجة إشكاليات الاشتراع، والمدني والشرعي، بأحد أسلوبين: إدخال نتاجات الفقه الإسلامي التاريخي في أبواب القانون المدني، كما فعل السنهوري وجيله، وتقنين فقه المذاهب في الأصول والأحكام والمعاملات، كما فعل قدري باشا وصحبه مع المذهب الحنفي من قبل. وحاول الفقهاء الدستوريون المصريون وغيرهم المزج بين الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية في القضايا السياسية والأُخرى المتعلقة بممارسة السلطة، والعلاقات بالخارج. بيد أنّ هذه المحاولات في المجالين الفقهي/ القانوني، والفقهي/ السياسي، تراجعت أمام مقولة النظام الكامل، وضرورة فرضه - من دون توفيقيات تلفيقية - في الدولة وعلى المجتمع. لكنّ وصول أحزاب إسلامية للسلطة، ومعاناتها لتجربة الحكم، ربما تعيد التعقُّل إلى هذه المسألة، وتحل التواصل محل القطيعة، عمليا أولا، وفكريا ونظريا ثانيا. وقد يصبح ضروريا النظر في كيفية صون الدين وقيمه وأخلاقه من الابتذال بسوء الاستعمال في الصراع على السلطة في أزمنة التحول والتغيير.