المقرئون المغاربة تأثروا بالرافد الأندلسي.. و«الصيغة المغربية» منتشرة في بلدان المغرب العربي

أكثر من 700 طالب استفادوا السنة الماضية من مادة التجويد في المدارس القرآنية

لعيون الكوشي أحد المقرئين المغاربة المشهورين («الشرق الأوسط»)
TT

تختلف وتتنوع صيغ تلاوة القرآن والأذان من بلد إسلامي إلى آخر، وهي صيغ تتجدد وتتزايد داخل كل بلد، وعلى الرغم من اختلافها من مقرئ إلى آخر، فإنها تظل محافظة على نوعية الصيغة وشكل الأداء، مما ييسر التعرف على مصدرها والتمييز بينها، وهي تعكس خصوصية البلد وطابعه الثقافي والعلمي، الذي يتمثل أحيانا كثيرة في خصوصية المذهب فقها ومعتقدا، وخصوصية القراءة القرآنية ترتيلا ورسما ورواية.

وتتميز الصيغة المغربية في تلاوة القرآن والأذان، بخصوصية القراءة القرآنية ترتيلا ورسما ورواية. واعتمد المغاربة في تدريس القرآن وقراءته على رواية ورش عن نافع، وعلى الوقف الذي وضعه محمد بن أبي جمعة الهبطي الصماتي، صاحب كتاب «تقييد وقف القرآن»، محافظين في ترتيله على صيغة معينة ذات طابع أندلسي، حيث يعتقد بعض الباحثين أن ذلك راجع إلى تأثر المغاربة بالرافد الأندلسي نظرا للموقع الجغرافي، وكذا الأحداث التاريخية التي ساهمت في هذا الامتزاج بين الثقافتين المغربية والأندلسية، حتى صارت مع الوقت عنصرا واحدا يصعب التمييز بينهما.

وتنتشر في المغرب عدة مدارس تختص بتعليم قواعد التجويد وحفظ القرآن، وتتنوع بين مدارس عصرية في المدن، وأخرى تقليدية في القرى والبوادي تكون في الغالب داخل الجوامع (المساجد)، كما تدرس في بعضها أيضا أصول الفقه والعلوم التشريعية والنحو، إضافة إلى استفادة طلابها من تدريس الصيغة المغربية في قراءة القرآن الكريم، حيث استفاد السنة الماضية أكثر من 700 طالب ضمن مادة التجويد بالمدارس القرآنية، في إطار الحفاظ على خصائص القراءة المغربية المتميزة بمقاماتها ونغماتها الفنية.

وذكر تقرير لمديرية الشؤون الإسلامية بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، أن هؤلاء الطلبة موزعين على «دار القرآن بمسجد الصفة» في وجدة، وجامع القرويين، ودار القرآن في فاس، ومعهد الإمام مالك بتطوان، ومدرسة عبد الحميد احساين في الرباط، ومؤسسة النور لتحفيظ القرآن الكريم في طنجة، والمدرسة القرآنية التابعة لمسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء، والمدرسة القرآنية للإمام مالك في مراكش.

وكانت الصيغة المغربية في التلاوة القرآنية منتشرة بعدد من مناطق الغرب الإسلامي؛ سواء المغرب الأدنى (تونس وليبيا) أو المغرب الأوسط (الجزائر) أو المغرب الأقصى (المغرب) أو الأندلس، لكن بعد سقوط مملكة غرناطة وتأثر كل من المغرب الأدنى والأوسط بالإيقاعات الشرقية بقت التلاوة القرآنية بالصيغة المغربية يستخدمها كثير من القراء، لكن بأعداد متواضعة وتتفاوت من بلد لآخر.

ويرى كثير من المهتمين بهذه الصيغة أن الحفاظ عليها كموروث مغربي يساهم في تنويع صيغ التلاوات القرآنية بين جميع الدول العربية والإسلامية، كما يضفي نوعا من تقريب المستمع وتعلقه بكتاب الله، حيث تساعد الصيغة المغربية على الإنصات والتمعن في القرآن الكريم. وهو الأمر الذي يجعل كثيرا من المقرئين المغاربة يحرصون عليها في صلاة التراويح، معتمدين على تجويد وترتيل القرآن بالصيغة المغربية، حيث يستمتع المصلون بجمال هذه القراءة المتميزة التي لها شجاها الخاص ومعجبون من مختلف بلدان العالم.

وقال محمد بن شريف السحابي أستاذ ومختص في علم القراءات بالمغرب لـ«الشرق الأوسط»: إن أصل الصيغة المغربية يرجع إلى فقهاء الرباط، والذي نشرها هو عبد الرحمن بن موسى (رحمه الله)، مشيرا إلى أن كل منطقة في المغرب تنتشر فيها مجموعة من الصيغ المغربية في التلاوة القرآنية.

وأوضح السحابي أن هناك فرقا بين القراءة والصيغة في تلاوة القرآن، معتبرا أن الصيغة هي نغمة الصوت، ولا تكون على نسق واحد، بينما القراءة هي مثل اعتماد إحدى القراءات القرآنية كقراءة الإمام نافع وهي رواية ورش. وأن الصيغة تختلف داخل البلد الواحد في حين أن القراءة تجدها واحدة.

وذكر السحابي أن شيوخ المغرب كانوا يركزون بالأساس على تحسين الصوت والمحافظة على الرواية والأداء وقواعد التجويد ومخارج الحروف، ولا يهتمون كثيرا بصيغة دون أخرى، مشيرا إلى أن بعضهم كانوا ينهون عن التقيد بصيغة معينة، لكن آخرين مثل الشيخ عبد الحميد احساين كان يأمر الطلبة بالقراءة بصيغة كانت تسمى بـ«الصيغة المغربية».

ويرى السحابي أنه يجب على كل مقرئ أن يتبحر في أدائه ويجد صيغته الخاصة به، منبها إلى عدم الوقوع في التقليد، لأنه نقص، ولا بد من اللسان أن يتحرر من التقليد، مبرزا أن الشيوخ الكبار تجد كل واحد منهم له استقلالية في الأداء وقراءة خاصة اشتهر بها، مثل محمد رفعت وعبد الباسط عبد الصمد وعلي الحذيفي ومشاري راشد العفاسي.

واعتبر أن المحافظة على تلاوة القرآن بالصيغة المغربية أمر مطلوب من كل قارئ مغربي، لأن في ذلك حفاظا على ما دأب عليه أجدادنا وحفاظا على الأصالة المغربية، مبرزا أن المميز في الصيغة المغربية كونها تتطور من زمان إلى زمان وتتغير.

ولم يخف السحابي أن كثيرا من القراء المغاربة أثناء تلاوتهم للقرآن يقعون في التقليد نظرا لقصور باعهم في علم القرآن، منبها إياهم على التحرر وعدم الاستعانة بالتقليد طوال المسار التعليمي.

وبشأن صعوبة تلاوة القرآن بالصيغة المغربية، أكد السحابي أن الإنسان يتأثر بالبيئة والمناخ الذي عاش فيه، لذلك يصعب على المشارقة القراءة بالصيغة المغربية، وأنهم عند محاولتهم ذلك غالبا ما يقعون في التقليد، في حين أن الفقهاء المغاربة حافظوا على هذه الصيغة وتتنوع قراءتهم من منطقة لأخرى.

وعلى الرغم من ذلك، يرى السحابي أن عدد المقرئين المغاربة بهذه الصيغة قليل جدا، ذلك أنه في المشرق هناك مجهودات كبيرة في نشر قراءاتهم تتمثل في تسجيل أشرطة القرآن ودروس التجويد والمواقع الإلكترونية، وهم نشطون في هذا الاتجاه، وعزا السحابي اختيار الشباب القراءة بالصيغة المشرقية إلى تقصير المغاربة في تعليم الصيغة المغربية ونشرها على مجال واسع، مفسرا ذلك بقاعدة «الضعيف يقلد القوي»، وهذه سنة الخلق، حسب قول السحابي.

ومن جهته، أكد عبد الصمد جواد أستاذ التربية الإسلامية في إحدى المدارس المغربية لـ«الشرق الأوسط»، أن هناك عددا قليلا جدا ممن يجيدون تلاوة القرآن بالصيغة المغربية، واعتبر أن ذلك لا يعدو أن يكون سهلا لمن لم يتلقاها من شيوخ مغاربة اشتهروا بها، أمثال لعيون الكوشي وعمر القزابري وعبد الكبير الحديدي وعبد العزيز الكرعاني. واستحسن عبد الصمد اشتراط كثير من المسابقات المحلية في تجويد القرآن القراءة بالصيغة المغربية، مشيرا إلى أنه في هذه المسابقات يكون لزاما على المتسابق إلى جانب حفظه للقرآن الكريم إجادته للصيغة المغربية، وهو أمر يشجع كثيرا على الحفاظ على الصيغة وتعلمها بشكل واسع.

ودعا جواد إلى تخصيص القنوات التلفزيونية والإذاعات لحيز كبير لتلاوة القرآن بالصيغة المغربية، من أجل ضمان إرساء معالمها بشكل أفضل كموروث مغربي أصيل.

يذكر أن البدايات الأولى للصيغة المغربية في تلاوة القرآن الكريم ترجع إلى ما قبل الخمسينات، حيث شهدت تلك الفترة ظهور عدد من القراء الذين تميزوا بتلك الصيغة، ومن بينهم الشيخ عبد الرحمن بن موسى والشيخ محمد جابر الحياني والشيخ عبد الحميد احساين (رحمهم الله)، ومنذ تلك الفترة إلى اليوم كان ملوك المغرب يولون اهتماما واسعا لهذه الصيغة المغربية ويشجعون قراءها للمحافظة عليها وتعليمها، وفي هذا السياق، يذكر أن الملك الراحل محمد الخامس سمع عبد الرحمن بن موسى وهو يرتل آيات من الذكر الحكيم بالمسجد الأعظم في سلا، فأعجب به واستدعاه للإنصات إليه، فكان ذلك بداية علاقته مع الملك محمد الخامس الذي قربه وجعله إمامه بمسجد أهل فاس في القصر الملكي في الرباط، وأستاذا للأميرين مولاي الحسن (الملك الحسن الثاني) ومولاي عبد الله. كما تعرف الصيغة المغربية حضور بارزا أثناء الدروس الرمضانية التي تنظم في شهر رمضان ويحضرها علماء ومفكرون من مختلف الدول العربية والإسلامية.