بين مقاصد الشريعة.. وتطبيق الشريعة

رضوان السيد

TT

ربما تكون المقولتان: مقولة مقاصد الشريعة، والمقولة الأخرى بشأن تطبيقها قد ظهرتا في فترات زمانية متقاربة. وأعني بذلك القرن الخامس الهجري.. ففي ذلك القرن تحدث الجويني (-478هـ) بوضوح عن المصالح الضرورية الخمس وعددها بأنها النفس والعقل والدين والنسل والمال أو الملك. وقد اعتبرها ضرورات لبقاء الإنسان، وقد نزلت الشرائع بمراعاتها. وإمام الحرمين في ما أعلم أول من تحدث عن ذلك بصراحة، أما قبل ذلك، أي في القرنين الثالث والرابع، فقد كان الحديث عن علل الشرائع وعن مآخذ الشرائع، وكان المعنى تعليل الأحكام. بل وعندما تحدث الحكيم الترمذي في القرن الثالث في عنوان كتابه: «الصلاة ومقاصدها» قصد بها تقديم شرح للآية القرآنية: «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر». ومع أن المصالح هي المقاصد، كما ذكر عز الدين بن عبد السلام (-660هـ)، والشاطبي (-790هـ)؛ فإنه قد انقضى زهاء القرنين حتى صارت المقاصد هي العنوان، وجرى تعريفها بأنها المصالح الضرورية الخمس.

وابن عقيل الحنبلي (-513هـ) من جيل إمام الحرمين، لكنه أصغر سنا منه. وكلاهما فقيه وأصولي كبير. وقد طبع قبل سنوات كتابه: «الواضح في أصول الفقه»؛ فإذا هو لا يقل أهمية ولا تجديدا عن كتاب الجويني: «البرهان» في الأصول. وقد بنى إمام الحرمين كتابه: «غياث الأمم في التياث الظلم» على إشكالية لا تختلف كثيرا عن إشكالية ابن عقيل في ما يخيّل إليّ. وإنما الفرق أن كتاب الجويني في ذلك وصل إلينا؛ في حين لم يصل إلينا كتاب ابن عقيل في المصالح، وإنما وصلت إلينا شذرات منه عند ابن قيم الجوزية (- 751هـ) في «الطرق الحكمية»، و«أعلام الموقعين عن رب العالمين». والإشكالية هي: كيف نتعامل مع الشريعة والدين عند فساد الزمان؟ وفساد الزمان يفشو أو يظهر عند سواد الفوضى والاضطراب بسبب ضعف السلطة، وفقد العلماء المجتهدين. والذي أظنه أن ذلك كان ليس بسبب حدوث ظروف سياسية ما كانت قبل القرن الخامس؛ بل إن المشكلات أقدم وهي تتناول أمرين اثنين: القصور الذي بدا بسرعة في المنظومة الفقهية، وشيوع التنازع بين السلطات من جهة، والفقهاء والقضاة من جهة ثانية. وقد ذكر إمام الحرمين ذلك في «غياث الأمم» عندما حمل على مخالفة أحكام الشريعة من جانب الولاة وأصحاب الشرطة والمحتسبين بل والوزراء، بالإقدام على تغليظ العقوبات بأنفسهم على اللصوص وقطاع الطرق والمرتكبين، فكانوا «يغلون بهم القدور» للتخويف والقمع بسبب تفاقم الحالة. وكانت مشكلة الفقهاء مع هذه الحالات المتراكمة – التي صارت ممارسة سلطوية عادية على شتى المستويات - متعددة الجوانب: فهي تجري خارج القضاء، وهي تعني قصور المنظومة الفقهية الأصولية (وربما يتسلل إلى أخلاد بعض الناس عجز الشريعة ذاتها أو قصورها!). وهذا القصور هو الذي جرأ المحتسبين ورجالات الشرطة، بل والآخرين من مستويات أعلى على ممارسة الحكم بأنفسهم، وعلى التشكي من أن القضاء بحدوده وتعازيره ما عاد نافعا أو بالأحرى ما عاد كافيا لضبط الأمور. وقد ظل الفقهاء على مدى نحو القرنين يشكون من خروج «السياسة» على أحكام «الشريعة»، ويدعون للعودة إلى الشريعة من خلال اللجوء إلى القضاء. ويعتبرون أن ما تفعله الشرطة يضاهي «سنن الأكاسرة» و«أفعال الجبابرة». بيد أن المسؤولين كانوا يريدون حلولا ما استطاع الفقهاء تقديمها.. فمنذ القرن الثاني الهجري عمل الفقهاء في مجال «تعليل الأحكام»، أي أنهم عندما ينشئون الحكم أو يكتشفونه بالعودة إلى نصوص القرآن والسنة، يحاولون عن طريق اكتشاف «العلة» تعدية الحكم في الحالات المستجدة. وقد مضوا في ذلك إلى النهايات القصوى، ليجعلوا من تلك التعدية يقينية بدقة الاستنباط، وليس مجرد غلبة ظن. وفي مطالع القرن الرابع الهجري صار واضحا أنه لن تكون هناك حلول من الجهة التقنية، وقد ظهرت أنواع جديدة من «القضاء الخاص» لم يستطيعوا منعها: ظهر قضاء المظالم بقرار من رأس السلطة للتصدي للجرائم والارتكابات الخفية التي لا يمكن للقضاء العادي اكتشافها، لأن المرتكبين من أصحاب النفوذ، ويرتكبونها بالواسطة، فإذا كانت هناك «محاسبة» نيل من الأدوات، وليس من المرتكبين. واكتسب المحتسبون ورجالات الشرطة صلاحيات قضائية بحجة التصدي للجرائم مباشرة وعلى الأرض دونما حاجة للرجوع إلى القاضي الذي تطول إجراءاته، ويتأخر حكمه، للافتقار إلى الأدلة الكافية، وللاختلاف بشأن التعزيرات بحسب اختلافات المذاهب. وقد حمل الفقهاء (والقضاة) على السلطات في البداية بسبب تلك التجاوزات على القضاء، وعلى العدالة القضائية. لكن كان عليهم في النهاية بل وفي البداية أن يجيبوا عن التساؤلات حول القصور، وليس الاكتفاء بالشكوى من التجاوزات.

لقد انتظر الجميع أن تأتي الإجابات من الأحناف أو من المالكية.. فالأحناف من مخارجهم الاستحسان، وهو تجاوز لعلل الأقيسة لمصلحة راجحة. والمالكية يعتبرون «المصالح المرسلة» من الأدلة الفرعية مثل عمل أهل المدينة. إنما يبدو أن الفريقين ما اعتبرا في القرن الثالث أن الأمور تتطلب ذلك؛ أي أنهم اكتفوا بما يملكونه في فقههم القديم. وهكذا تحرك الحنابلة والشافعية؛ فقالوا بهذه الطريقة بفقه المصالح. وقد يكون من أسباب تقدمهم أنه كان في فقههم ضيق من الأساس، وأنهم كانوا مزدهرين في القرنين الرابع والخامس. ونحن نعلم أن المالكية ما تأخروا كثيرا فانضموا إليهم، وشاركوا بقوة في صناعة نظرية «مقاصد الشريعة» القائمة على المصالح الضرورية لبني البشر.

وبالطبع، فإن تلك النظرية، كما قوت من جانب الفقهاء؛ فإنها قوت أيضا من جانب القضاة.. فالفقهاء انصرفوا لتطوير النظرية، والاجتهاد في جعلها شاملة، والنظر في إدخالها في أصول الفقه. والقضاة صاروا أكثر حرية في ممارسة عملهم بغض النظر عن المذاهب التي ينتمون إليها.

لكن السلطات أفادت أيضا من هذا الاتساع في فقه المصالح.. فقد صارت أكثر إقبالا على تحويل الحالات إلى القضاء. كما أنها صارت أكثر حديثا - ومن دون حرج - عن السياسة والتدبير. من الناحية النظرية، صار المتكلمون (والأصوليون) في كتبهم عن الإمامة، يتحدثون عن الطبيعة التدبيرية للسلطة السياسية. ومن ناحية السياسة العملية (Real Politik) كتب الفقهاء في السياسة الشرعية، أي التدبيرات التي تتوافق مع الشريعة، وتحقق مقاصدها. فقد كانت المشكلة في القرنين الرابع والخامس أن الشريعة (في الحقيقة: الأحكام الفقهية، فالفقهاء هم الذين كانوا يتولون التشريع وليس الاشتراع بالطبع) في بعض الحالات ما عادت ممكنة التطبيق بسبب القصور في المنظومة الفقهية الاجتهادية. فجاء ابن عقيل وقال بالمصلحة، كما قال إن «السياسة» أو التدبيرات السياسية والإدارية هي أيضا مصالح، ولا بد أن تنتظم بالمعنى الكبير في ما صار يعرف بـ«السياسة الشرعية»، أي تلك التي تدعو إليها الشريعة من خلال مقاصدها العامة للأمة وللأئمة.

بين القرنين الخامس والثامن، اكتملت نظرية «مقاصد الشريعة».. فخفت الشكوى من انفصال السياسة عن الشريعة، لكنها لم تنته. إنما باستثناء ما ذهب إليه المقريزي (-845هـ) الحنفي؛ فإن المسائل اتضحت، أي أن القضية صارت جزئية، وتتعلق وحسب بضرورة لجوء السلطات للقضاء في كل شيء يتعلق بالمعاملات والنزاعات بين الناس.. على أن المقريزي ذهب في القرن التاسع الهجري إلى أن السلطات المملوكية لا تمارس «السياسة» بحسب الأحكام العامة للشريعة؛ بل إنها تطبق «اللياسة»، أي شريعة جدهم جنكيز خان! وقد كانت معتبرة - في ما يبدو - عرفا عاما بين المتسلطين في الدول والإمبراطوريات التركية في أنحاء العالم الإسلامي! نحن لا نعلم بالتحديد هل كان ذلك صحيحا أم لا، لكننا نعلم أن القضاء صار أقوى بكثير أيام العثمانيين، إنما رغم ذلك ظهرت أيامهم أيضا إشكالية الشريعة والقانون. والله أعلم.