من فقه الحج إلى فقه البيئة

موئل يوسف عز الدين

TT

بعد أكثر من عقد من الزمان قفزت ذكرى أيام الحج الثرية إلى مقدمة ذاكرتي وأنا أرى حجاج بيت الله ينهون حجهم ويتهيأون لطواف الوداع.. أذكر أني في سنة من السنين نويت أن لا أحج، فقد حججت في سنتها السابقة مع جامعة الملك عبد العزيز حيث كنت أعمل.. وكان الفجر هو فجر يوم عرفة حين طرق سمعي أذان مؤذن حينا في جدة وهو ينادي لصلاة الفجر.. كان في صدى صوته نداء فيه عذوبة وبحة تجمع بين الدعاء والبكاء. فتوضأت ونزلت للصلاة في مسجدنا الصغير الكبير.. وكان بين المصلين حجاج قد التفوا بثياب الإحرام.. وصلوا معنا صلاة الفجر وهم يلهجون بـ«لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك».. وأحسست وأنا أسمعهم بقشعريرة تسري من عظام كتفي إلى شغاف روحي. ولم أملك إلا أن أقول «لبيك.. لبيك».. وهتفت في نفسي دون أن أفكر... «اللهم ارزقني حجة».. كنت في حالة يصعب وصفها.. مشاعر الروح كانت تغمرني كالأمطار، وشوق يملأني إلى حفيف ستائر الكعبة السوداء وهي تخفق تحت ميزاب رحمة الرحمن الرحيم الذي لا تدركه الأبصار. فعدت إلى شقتي مسرعا وبدأت أعد نفسي للحج.. فاغتسلت وأخرجت إحرامي وحزامي القديم ونعالي.. ثم توجهت إلى الله فاغتسلت ولبست ملابس الحج.. وأحسست وأنا أضعها بأنني كعصفور يكاد أن يطير في ملابس الإحرام.. فيممت شطر حافلات النقل الجماعي لأن السيارات الخاصة لا يسمح لها بدخول الحرم لتخفيف الزحام. ورغم أني كنت أعلم كل العلم أن الحج لا بد له من إعداد إلا أني هذه المرة لم أكن قد أعددت عدتي، فلا زاد ولا خيمة ولا راحلة من حديد... ولم يكن معي سوى ريالات دسستها في حزام الحج في عجالة. ومرت رحلة الساعة والنصف من جدة إلى مكة كأنها رحلة ثوان، ووجدت نفسي أطوف حول الكعبة وأطوف وأطوف وأطوف، كأني قشة تطفو في بحر من الناس. ولم أكن أفكر حينها كيف سأتم حجتي.. وأنا من دون رفاق ولا إعداد للحج، إلا أني تذكرت أمري عند الملتزم بعد أن دعوت الله بالأدعية المأثورة، فأعقبتها بدعاء صادق سريع.. «اللهم أعني في حجتي».. وبدأت بالسعي بعد الطواف، وكانت آية الأذان بالحج تتردد في خاطري مرات ومرات وأنا أسعى ((وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق)). حينها أدركت معنى ما كان يقوله أساتذتنا العلماء في أن فقه القرآن الكريم يكون أفهم للطالب أثناء العمل به.. وأحسست أني أعي لأول مرة سبب تقديم الله لحج الذين يسيرون على الأقدام على حج الراكبين في تلك الآية.. ولماذا روي عن ابن عباس أنه قال: «وددت أني كنت حججت ماشيا لأن الله يقول (يأتوك رجالا)».. إن من يستطيع ذلك فإنه لا يوفر المال ويتجنب الزحام فحسب، بل هي استجابة لدعوة ضمنية لما يمكن أن نسميه بمصطلح البيئة المعاصرة بالحج القرآني البيئي.. فهو يقلل من تلوث البيئة ويقرب الإنسان من خالق الأرض الذي عنده مفاتح الغيب. ورغم أن الكثير من العلماء الكرام يقولون بتفضيل حج الراكب على حج الماشي؛ لأن الرسول قد حج راكبا، فإن هذا لا يقلل من رأي حبر الأمة في تفضيله للحج مشيا على الأقدام. لأن مناسبة الحال في الحكم الشرعي هي التي تقرر أفضلية العمل، ولا شك أن غير القادر والضعيف أفضل له أن يحج راكبا، وأن الرسول حج راكبا وهو قوي، لكنه كان قائدا للحج، والقائد في تلك الظروف لا بد له من أن يركب ليوجه مسيرة الحج. وما يسري على القائد قد لا يسري على كل الناس. كانت هذه الخواطر تدور في ذهني حين أشرفت على الشوط السابع والأخير من السعي، ووصلت إلى المروة.. وهناك لمحت أحد زملاء الجامعة وكنت قد أخبرته بأني لا أنوي الحج هذه السنة.. فابتسم من بعيد ونادى: ماذا تعمل هنا؟ فرددت عليه: غيرت قراري ووجدت قرار نفسي في الحج. فقال: ماذا ستفعل في السكن والمبيت؟ قلت: أنا ضيف الله وهو لن يضيعني، فصرخ الرجل بأعلى صوته وسط الضجيج أنت ضيفنا أيضا.. لدينا مخيم في منى وفي عرفة.. ولدينا مكان في مخيمنا لأن بعض الحجاج قد حبسهم حابس المرض فلم يحجوا. فقلت سبحانك.. ربي يا مجيب الدعاء.. وعادت نوافير أمطار الإيمان تغمرني، فلا أستطيع لها كبتا. وكانت بقية حجتي ميسرة سهلة بين وقفة دعاء في عرفة ورمي للجمار وطواف ووداع.. ولا أبالغ إن قلت إنها كانت أقرب حجة حججتها إلى نفسي حين كنت أعيش في جدة الخير.. اليوم أكاد أجزم أن فقه الحج يلتصق بفقه البيئة، فكل شعائره تدعو ابن آدم إلى إلغاء استغلال البيئة ورعاية عناصرها، وتؤكد أممية تلك العناصر كخلق أبدعه الله وائتمن الإنسان عليه. فالحج هو موسم تؤكد فيه رعاية الله لكل ما خلق من طير وحيوان وشجر، بل حتى الشوك والعوسج يحرم قطعه وقت هذه المناسبة؛ لأن حرمته، كما يقول علماء الإسلام، تابعة لحرمة الشجر إلا إذا كان مؤذيا. ومما يلفت النظر في فقه الحج هو أن تلك الحرمة قد فرضها الإسلام لا على صيد الحيوان فحسب، بل وسعها لتشمل الدلالة والإعانة على ذلك الصيد. فلو اختفى طير وراء شجرة ولم يره الصياد فدله أحدهم عليه فقتله يفسد حج الصائد والدال! فكأن في ذلك إشعارا بأن الصيد، كل الصيد، هو من مخلوقات الله التي قد أعطيت أمانا فلا تطلب ولا تصاد ولا تقتل. وفي الوقت الذي لا نريد أن نقرأ في النصوص أكثر مما يجب، لا يمكن للقارئ المتفحص إلا أن يتساءل وهو يرى أمان الله يعطى لمخلوقاته الخائفة: أليس في ذلك منهج هدي للأمة كي ترحم المخلوقات كلها فتكرمها وتحميها في كل الأوقات وفق منهج الإسلام؟ أليس في ذلك دلالات بيئية تمنع إيذاء الحيوانات الوحشية التي لم يكتب الله عليها أن تسخر للإنسان وخاصة المنقرضة منها؟ وإلا فلم جاء تحريم قتل وصيد الحيوانات المتوحشة وكل ما يرتبط بها؟ أو كما يقول الشافعية: «يحرم بالإحرام اصطياد كل حيوان مأكول بري متوحش، مباح أو مملوك، وكذا المتولد من المأكول وغيره، أو المتولد من الإنسي وغيره، كالمتولد من حمار وحشي وأهلي، أو من شاة وظبي، ويجب به الجزاء احتياطا».

إن الحج هو شعيرة عظيمة كشعيرة الصلاة والصيام والزكاة.. ولا شك أن لهذه الشعائر جانبا تعبديا مهما قد لا نفهم بعضه، ولكن لها أيضا غايات ومقاصد يمكن فهمها والاستفادة منها. ومن بين الحكم العظيمة لهذه الشعائر أنها تدرب الإنسان على التعامل مع إنسانيته، فلا يهبط بها إلى الحضيض، بل يرتفع بها تطمح نحو السمو لتعمل في منهج رباني تتكامل فيه منهجية توحيد الله وسمو الروح مع حاجة الأرض ورغبة التراب. إن كل ما يأتي به الحج من دلالات إسلامية رائعة تؤكد مركزية الإسلام على توحيد يطوف حول القرآن وينطلق من معانيه. إنه منهج يسعى في طريق الرسول مثلما يسعى الحاج مستنا بسنة نبيه حين يقف في عرفة متأملا ورافعا يديه بالدعاء والرجاء. أما مبيته في مزدلفة ورجمه لرموز الشيطان فهو إشعار ما بعده إشعار بأن الإسلام يقف في جانب الحق لا الباطل مهما قوي.. والحديث عن رعاية البيئة اليوم هو حديث عن صراع بين خير رباني يدعو إلى العناية بما خلق الله، وبين شر يدعو إلى ابتزاز واغتصاب من أجل مادة طاغية واقتصاد لا بركة فيه ولا نفع.

* أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة ويلز - لامبتر - ببريطانيا