شركة وشهادة.. رؤية تحليلية لأوراق فاتيكانية

إميل أمين

TT

طوال ثلاثة أيام وفي الفترة الواقعة بين الرابع عشر والسادس عشر من سبتمبر (أيلول) حل البابا بنديكتوس السادس عشر، بابا روما، ضيفا على لبنان، وقد كان الهدف الرئيسي من الزيارة تسليم مسيحيي الشرق الأوسط الإرشاد الرسولي الذي تبلور عن سينودس أساقفة الشرق الأوسط، والذي انعقد في حاضرة الفاتيكان في الفترة من 10 حتى 24 أكتوبر (تشرين الأول) 2010، وقد جاءت وثيقة الإرشاد تحت عنوان «حول الكنيسة في الشرق الأوسط.. شركة وشهادة».

والشاهد أن الاضطرابات التي نشبت في العالمين العربي والإسلامي بسبب الفيلم الأميركي المسيء للإسلام والمسلمين قد اختصمت في واقع الحال الكثير من الأضواء وحجبتها عن تغطية الزيارة المهمة والفريدة من نوعها، ذلك لأن البابا وإن كان قد زار الشرق الأوسط من قبل، إلا أن الغرض هذه المرة يتقاطع مع إشكالية الحضور المسيحي العربي في الشرق الأوسط.

والثابت أنه إذا كان كثيرون قد تابعوا الزيارة واستمعوا أو قرأوا بعضا من الخطابات التي ألقاها البابا طوال الثلاثة أيام، إلا أن قليلا جدا هم الذين توافر لهم الاطلاع على النص الأصلي لهذه الوثيقة، والتي تقع في نحو ستين صفحة من القطع الكبير، ومقسمة لفصول ثلاثة، تتناول باستفاضة قضايا دينية وإيمانية، لاهوتية وروحية.

غير أن هناك في حقيقة الأمر ثلاثة محاور يطرحها الإرشاد الرسولي وتهم سكان المنطقة الشرق أوسطية، مسيحيين ومسلمين على حد سواء، وعليه ربما يتوجب علينا إلقاء شيء من الضوء عليها، وهي التي تتناول الحوار بين الأديان، والواقعين الجديدين والمهاجرين.

كان الحوار بين الأديان أو إن شئت الدقة قل الحوار بين أتباع الأديان من القضايا التي اهتم بها الفاتيكان منذ المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1962 - 1965)، والذي احتفل في شهر أكتوبر بمرور خمسين سنة على انعقاده.

يذهب الإرشاد الرسولي الجديد إلى أن «طبيعة الكنيسة ودعوتها الكونية تتطلبان منها إقامة حوار مع أعضاء باقي الديانات الأخرى، وأن هذا الحوار يرتكز في الشرق الأوسط إلى علاقات روحية وتاريخية تجمع المسيحيين مع اليهود والمسلمين. هذا الحوار الذي لا تفرضه بالأساس اعتبارات براغماتية ذات طابع سياسي أو اجتماعي، بل يستند قبل كل شيء على أسس لاهوتية مرتبطة بالإيمان، هو الطريق إلى حياة الشركة، وعليه ينصح البابا صاحب الإرشاد، اليهود والمسيحيين والمسلمين بالعودة إلى اكتشاف إحدى الرغبات الإلهية، أي الرغبة في وحدة وتناغم العائلة البشرية، وليكتشف اليهود والمسيحيون والمسلمون في المؤمن الآخر أخا يحترم ويحب كي يقدموا كل على أرضيته أولا، شهادة جميلة للصفاء والمودة بين أبناء إبراهيم». ويضيف: «فلتكن معرفة إله واحد بالنسبة للمؤمن الحقيقي إذا تم عيشها بقلب طاهر، دافعا قويا للسلام بالمنطقة وللتعايش المشترك القائم على الاحترام بين أبنائها، وليس أداة تستغل في إشعال الصراعات المتكررة، وغير المبررة».

يتوقف الإرشاد الرسولي طويلا عند العلاقة بين المسيحيين والمسلمين الذين يتقاسمون الحياة اليومية نفسها في الشرق الأوسط، حيث وجودهم ليس عرضيا أو حديثا، إنما تاريخي.. كيف يرى الفاتيكان عبر وثيقته الأخيرة شكل وأبعاد تلك العلاقة؟

يذهب ولا شك إلى أن المسيحيين العرب لكونهم جزءا لا يتجزأ من الشرق الأوسط، فقد أقاموا على مر العصور نوعا من العلاقة مع محيطهم يشكل مثالا يحتذى به. وتفاعلوا مع تدين المسلمين وواصلوا عيش حياتهم وتعزيز قيم الإنجيل في ثقافة بيئتهم، حسب إمكاناتهم وضمن حدود الممكن.. ما الذي نتج عن ذلك؟ لا شك تبلورت حياة تكافلية متميزة، ولهذا السبب من المنصف بحسب الإرشاد عينه، أن نقر بإسهام اليهود والمسيحيين والمسلمين في نشأة ثقافة غنية في الشرق الأوسط. هل تلقي هذه الوثيقة بتبعات خاصة على المؤمنين، لا سيما الكاثوليك في العالم العربي؟ ذلك بالفعل، إذ ترى الوثيقة الفاتيكانية الأحدث أن من واجب الكاثوليك في الشرق الأوسط ومعظمهم من سكان البلاد الأصليين، المشاركة التامة في حياة الوطن من خلال العمل على بناء أوطانهم. ينبغي أن يتمتعوا بمواطنة كاملة، لا أن يعاملوا كمواطنين أو مؤمنين من درجة ثانية.

تلفت الوثيقة كذلك إلى إشكالية الحرية الدينية في العالم العربي وترى أنها تاج كل الحريات، وأنها حق مقدس وغير قابل للتفاوض، كما أنها تشمل في الوقت ذاته الصعيدين الفردي والجماعي. وتؤكد أنه يجب أن يسمح للإنسان بممارسة ديانته والتعبير عن رموزه بحرية، دون أن يعرض حياته وحريته الشخصية للخطر. هذه الجزئية قد يراها البعض عربيا نقطة خلاف، لا سيما أن الإرشاد يرى أن التسامح الديني موجود في الكثير من الدول، لكنه لا يؤدي إلى نتائج ملموسة لأنه يبقى محدودا في نطاق تطبيقه، وأنه من الأهمية بمكان الانتقال من التسامح الديني إلى الحرية الدينية.

خلاصة المحور الأول من هذا المقال بحسب توجه البابا بنديكتوس السادس عشر تتجلى في إشارته إلى أن أنظار العالم كله موجهة صوب الشرق الأوسط - حتما بفعل ثورات الربيع العربي ذات المسحة الإسلامية - الذي يصفه البابا بأنه يبحث عن طريقه، ولهذا ينصح بأن تظهر هذه المنطقة أن العيش معا ليس أمرا مثاليا، وأن انعدام الثقة والأحكام المسبقة ليس أمرا حتميا. هل من دعوة لأصحاب الأديان الإبراهيمية على نحو خاص في هذه القراءة الفاتيكانية الموجهة للعالم العربي تحديدا وتخصيصا؟ مفاد الدعوة الموجهة بالفعل أنه باستطاعة الأديان أن تلتقي معا لخدمة الخير العام وللمساهمة في تنمية كل شخص، وفي بناء المجتمع. وتؤكد الدعوة بنفس القدر على أن المسيحيين في الشرق الأوسط يعيشون منذ قرون الحوار الإسلامي المسيحي، وأنه بالنسبة لهم حوار عبر الحياة اليومية ومن خلالها. ويدركون غنى الحوار وحدوده.

المحور الثاني في هذا التحليل يأخذنا حيثما توقف الإرشاد الرسولي لمسيحيي الشرق الأوسط عند معضلة «الواقعين الجديدين» اللذين تعيشهما المنطقة، فهي كباقي أنحاء العالم تختبر واقعين متضاربين: العلمانية بأشكالها التي تصل أحيانا للتطرف، والأصولية العنيفة التي تدعي قيامها على أصول دينية. يقول البابا بنديكتوس إنه بكثير من الارتياب ينظر بعض المسؤولين السياسيين والدينيين في الشرق الأوسط من كافة الجماعات إلى العلمانية باعتبار أنها تعني الإلحاد أو اللاأخلاقية، ورغم أن العلمانية قد تصل أحيانا وبطريقة مختزلة إلى تأكيد أن الدين ينحصر فقط في النطاق الفردي، وكأنه ليس إلا عبادة فردية وبيتية بعيدة عن الحياة وعن الأخلاق وعن العلاقات مع الآخرين، فإن العلمانية الإيجابية من منظور البابا هي عكس ذلك، لأنها تعني تحرير المعتقد من ثقل السياسة وإغناء السياسة بإسهامات المعتقد، تحفظ المسافة اللازمة والتمييز الواضح والتعاون الذي لا غنى عنه لكليهما، وأنه لا يمكن لأي مجتمع أن يطور نفسه بطريقة صحية من دون تأكيد الاحترام المتبادل بين السياسة والدين ورفض السقوط في التجربة المستمرة للخلط أو للتحارب. وعليه فإن العلاقة المثلى تبنى قبل كل شيء على طبيعة الإنسان - أي على أنثروبولوجيا صحيحة - وعلى الاحترام المطلق لحقوقه الثابتة.

تؤكد القراءة المعمقة للإرشاد الرسولي أن إدراك هذه العلاقة المثلى يسمح بفهم وجود نوع من الوحدة والتمايز الذي يجب أن يحدد ملامح العلاقة بين ما هو روحي (الدين)، وما هو زمني (السياسة)، لأن كل منهما مدعو حتى داخل التمييز الواجب، إلى التعاون بانسجام لخير العالم، وعليه فإن العلمانية الإيجابية هكذا تؤمن للسياسة العمل من دون استغلال الدين، وللدين أن يحيا حرا من إثقال نفسه بالسياسة التي تمليها الفائدة، والتي أحيانا لا تتفق، بل وقد تتعارض مع المعتقد الديني. ولعل الذين تابعوا التغطية الإعلامية لكلمات البابا قد توقفوا من دون فهم كامل أو واضح لدعوة الحبر الروماني لاستئصال الأصولية الدينية من بين جميع الديانات في المنطقة، فهل من مزيد من إضاءة تبدد ضبابية التصريح؟

يرى البابا أن الغموض الذي يكتنف الأوضاع الاقتصادية والسياسية ومهارات التأثير لدى بعضهم والفهم الناقص للدين هي من بين العوامل التي تشكل تربة خصبة للتطرف الديني. هذا التطرف يصيب كل الجماعات الدينية - لاحظ أن البابا لم يتوقف عند دين بعينه - ويرفض التعايش المدني معا. وغالبا ما يسعى للسلطة بواسطة العنف أحيانا للسطو على ضمير كل فرد وعلى الدين من أجل دوافع سياسية.

في هذا الإطار أطلق البابا نداء ملحا لجميع المسؤولين الدينيين اليهود والمسيحيين والمسلمين في المنطقة كي يسعوا من خلال مثلهم وتعاليمهم إلى فعل كل ما هو ممكن بهدف استئصال هذا التهديد الذي يستهدف بلا تمييز وبشكل قاتل، مؤمني جميع الديانات، وعنده أن استخدام كلمات الوحي، الكتابات المقدسة، أو اسم الله لتبرير مصالحنا أو سياساتنا، التي يمكن مراعاتها بسهولة أو لتبرير لجوئنا إلى العنف هو جريمة في غاية الخطورة.

المحور الثالث في هذه القراءة هو «المهاجرون» والذي يتناول بوضوح وشفافية أزمة هجرة المسيحيين العرب من الشرق الأوسط، وفي هذا تتحدث الوثيقة بوضوح لا تهوين ولا تهويل فيه، فعلى الرغم من أن الواقع الشرق أوسطي غني بتنوعه، فإنه في كثير من الأحيان تقييدي وحتى عنيف. وهو يمس جميع سكان المنطقة ويشمل كل أوجه حياتهم. ماذا يعني ذلك عند أسقف روما بنديكتوس السادس عشر؟ يعني أن المسيحيين العرب يشعرون بنوع خاص ولكونهم يجدون أنفسهم غالبا في موقف دقيق بشيء من الإحباط وفقدان بعض الأمل، بسبب النتائج السلبية لتلك الصراعات، ولحالات الغموض. ويشعرون غالبا بالمهانة ويعلمون بفعل خبرتهم أنهم ضحايا محتملون لأي اضطرابات قد تقع. فبعد أن شاركوا بطريقة فاعلة وعلى مر العصور في بناء أوطانهم وأسهموا في نشأة هويتهم وفي ازدهارهم وجد مسيحيون كثيرون أنفسهم أمام ضرورة اختيار آفاق مواتية، واحات سلام، حيث يمكنهم العيش مع أسرهم بكرامة وأمن، وفضاءات من الحرية ليعبروا فيها عن إيمانهم بعيدا عن القيود المختلفة. ما الذي يمثله خيار هجرة المسيحيين العرب عند واضعي الوثيقة؟ يصفه الإرشاد الرسولي بأنه الخيار المأساوي لما يحمله من نتائج خطيرة على الأفراد والعائلات والكنائس. لكن ليس الأمر على هذا النحو المسيحي سلبيا فقط، بل إنه يقلص عدد السكان ويسهم في تنامي ما يسميه الإرشاد «الفقر البشري والثقافي والديني في الشرق الأوسط». فالشرق الأوسط من دون أو حتى بعدد ضئيل من المسيحيين، ليس الشرق الأوسط، لأن المسيحيين يتشاركون مع باقي المؤمنين في صنع الهوية الخاصة للمنطقة. وعليه فالجميع مسؤولون عن بعضهم بعضا أمام الله. هناك إشارة لا تخطئها العين في ختام هذه الفقرة ونصها أنه من الأهمية إذن أن يفهم القادة السياسيون والمسؤولون الدينيون هذه الحقيقة ويعملوا على تفادي السياسات والاستراتيجيات الساعية إلى تفضيل جماعة بعينها لقيام شرق أوسط أحادي اللون، لا يعكس بأي شيء واقعه الإنساني والتاريخي الغني.

هل الإرشاد الرسولي الذي جاء به البابا مقصور على المسيحيين في الشرق الأوسط؟ بالقطع لا، ففيه دعوة واسعة لإعادة صياغة التعايش الإسلامي المسيحي اليهودي المشترك في شركة وشهادة حقيقية للأديان ولجوهر الإنسان.

* كاتب مصري