الكنيسة الأرثوذكسية.. هل توجه الحياة السياسية الروسية؟

إميل أمين

TT

في مقدمة المشاهد التي تثير كثيرا من التساؤلات مؤخرا ذلك المتعلق بالعلاقة بين الكنيسة الأرثوذكسية الروسية والدولة، لا سيما تلك التي بين بطريرك الكنيسة كيريل والرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي وصفه الأول بأنه «معجزة الرب».. ما الذي جرى مؤخرا واستدعى فتح ملف تلك العلاقة؟

مؤكد أن قضية الفتيات الروسيات الثلاث اللواتي قمن باقتحام كنيسة «المسيح المخلص» في موسكو، وأداء فقرة غناء واستعراض، أو بمعنى أدق استعداء الإرادة الإلهية ضد الرئيس بوتين، كانت السبب الرئيسي في إلقاء الضوء على ما يجري في موسكو اليوم بين الدولة والكنيسة، لا سيما أن تلك العلاقة تنعكس على العالم العربي، وبخاصة في الملف السوري الملتهب، انعكاسا مباشرا، مما يجعل الحديث فرض عين. على أنه إذا كانت ذاكرة العوام لا تزيد على ثلاثة أعوام، فلذلك حري بنا أن نذكر القارئ بما للكنيسة الأرثوذكسية من وضع تاريخي في قلب الإمبراطورية الروسية قديمها وحديثها. ربما يلزم التنبيه بداية على أن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية تختلف عن الأرثوذكسية المصرية في الرئاسة وفي بعض العقائد الإيمانية ولو بصورة طفيفة، والأرثوذكسية الروسية هي أكبر كنيسة شرقية، ويزيد عددها على 125 مليون نسمة. وقد دخلت المسيحية إلى روسيا في عام 988م، وذلك على يد فلاديمير الأول أمير «كييف»، الذي دعا جميع رعاياه للدخول في الدين المسيحي الجديد معه، وقد وصلت المسيحية للبلدان السلافية الشرقية بفضل جهود مبشرين يونانيين بعثوا من الإمبراطورية البيزنطية في القرن التاسع الميلادي. ومع قيام الثورة البلشفية في عام 1917 تعرضت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لاضطهاد وقمع شديدين، كما تعرض المؤمنون عموما لحالة من المطاردة من قبل أجهزة الأمن السوفياتية الوحشية، ووصل الأمر في عام 1925 إلى سجن البطريرك وقتله بأمر السلطات، ومع ذلك كانت حاضرة في تاريخ روسيا النضالي بأبلغ صورة، لا سيما في معارك الحرب العالمية الثانية.. فقد شهدت موسكو مؤخرا افتتاح متحف به كثير من الوثائق تظهر الدور الذي لعبته الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في ذلك الوقت، فعلى سبيل المثال قدمت بطريركية موسكو عطية مالية كبيرة للجيش الأحمر السوفياتي، استخدمت في شراء رتل دبابات سمي برتل «ديمتري دونسكي» تيمنا بالقائد العسكري الذي جلب النصر في روسيا ضد التتار في عام 1380م.. هل الأمس شبيه باليوم؟ ربما يكون ذلك كذلك بالفعل، فعلى الرغم من الملاحقات التي كانت تتعرض لها الكنيسة في الحقبة السوفياتية، لكن ليلة الرابع من سبتمبر (أيلول) 1943 كانت مرحلة تغيير جذري في علاقة روسيا الشيوعية بالكنيسة الأرثوذكسية هناك، حيث استدعى ستالين كبار رجال الدين الأرثوذكسي الروسي وأصدر قرارا بإعادة إنشاء مؤسسة البطريركية، وانتخاب المطران سيرغي بطريركا للكنيسة الروسية، فالنصر في تقدير ستالين كان في حاجة إلى عامل معنوي مضاف لقوة السلاح، وقوة العزيمة التي يضيفها الإيمان لا غنى عنها خصوصا في وقت الحرب. هل لهذا السبب عينه كان بوتين يقترب مجددا من البطريرك كيريل مؤخرا، لا سيما قبل إعادة انتخابه للمرة الثالثة رئيسا لروسيا؟ في أوائل أكتوبر (تشرين الأول) الماضي كتب بيتر بوميرانتسيف عبر مجلة «النيوزويك» الأميركية الشهيرة يقول: «كان لأصحاب النفوذ في الكنيسة الأرثوذكسية الروسية دور حاسم في مساعدة بوتين لإعادة صياغة معركة المعارضة الليبرالية ضد الفساد الإداري ومزاعم تزوير الانتخابات بتحويلها إلى نص مقدس من (شياطين أجانب) ضد (روسيا المقدسة)».

والشاهد أنه منذ إعادة انتخاب فلاديمير بوتين رئيسا للبلاد، وأصوات الكثيرين من رهبان وقساوسة الكنيسة الروسية تعلو بالدفاع عنه ضد المناوئين له.. هل من موقف خاص للبطريرك كيريل في هذا السياق؟ وهل هو موقف من دون استحقاقات، أي موقف يوتوبي طهراني مطلق؟ لا شيء في حقيقة الحال مجانا، لا سيما في عالم البراغماتية السياسية، فلا صداقة دائمة، ولا عداوة قائمة أبدا، بل مصالح متصلة اليوم وغدا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد تجلى ذلك في التجاذبات الثنائية بين الدولة والكنيسة في روسيا.. كيف ذلك؟

في نهاية عهد رئيس وزراء روسيا بوتين، وخلال حملته الانتخابية للحصول على فترة رئاسية ثالثة، وصف البطريرك كيريل بوتين بأنه «معجزة الرب» الذي استطاع انتشال روسيا من وحدة الضياع التي دخلت فيها بمجرد انحلال وتفكك الاتحاد السوفياتي في نهاية الثمانينات، واعتبر البطريرك أن بوتين إصلاحي أرسلته العناية الإلهية لينقذ البلاد.

يومها أضاف كيريل: «أود أن أقول ذلك علنا كبطريرك، أقول الحقيقة من دون الالتفات إلى الوضع السياسي أو الدعاية».. ووجه حديثه مباشرة لبوتين قائلا: «إنك لعبت بشكل شخصي دورا كبيرا في تصحيح هذا الانحراف في تاريخنا». وفي لقاء تلفزيوني لاحق صرح البطريرك نفسه بأن «الليبرالية ستؤدي إلى انهيار قانوني ومن ثم حصول رؤيا نبوئية». أما الراهب الأكبر ديمتري سميرنوف، ففي مناظرة تلفزيونية له اعتبر أن «الناس بحاجة إلى أن تتذكر أن أول ثوري في التاريخ كان هو الشيطان عينه».. كيف كانت ردود الليبرالية الروسية في مواجهة تحالف الدولة والكنيسة الجديد؟

في الأول من الشهر الماضي لاحظت صحيفة «موسكو فسكيه نوفوستي» الروسية أن «الليبراليين في روسيا يتهجمون على الكنيسة، ويتهمون البطريرك كيريل بالسعي إلى دمج الكنيسة مع الدولة».. هل قبل البطريرك تلك الاتهامات؟ في زيارة أخيرة لرجل الدين الأهم في الشرق السلافي إلى جامعة موسكو، التقى طلابها، وتحدث معهم بكل صراحة عن هذه المشكلة، وقد كان حديثه مدعما برؤية المسيحية الكتابية للعلاقة بين الدولة والمواطنين، والكنيسة جزء من مواطني الدولة ولا شك، وقد أشار إلى أن السلطة المدنية مسيحيا، أي من وجهة نظر إيمانية، لا بد منها، لا سيما في عالم مثقل بالخطيئة، وأن هذا الأمر أكده بولس الرسول بقوله: «إن الذين يعارضون السلطة إنما يعارضون إرادة الله».. أي أن مؤسسة الدولة ضرورية للتصدي للشر، بكل الوسائل، بما في ذلك استخدام القوة.

لم يكتف البطريرك بتلك التصريحات لكنه أشار في وضوح تام إلى أن الكنيسة الروسية لا تعتزم القيام بأي وظيفة من وظائف الدولة. كما أنها لا تطمح للحصول على صفة حكومية، كما هو الأمر بالنسبة للكنائس في الكثير من الدول الأوروبية، لهذا فإن الذي يطلب من الكنيسة ألا تندمج مع الدولة فهو كالذي يحاول اقتحام بيت أبوابه مفتوحة على مصراعيها.. أين يوجد الجانب البراغماتي في تلك العلاقة ومع علاقته بالعالم العربي، لا سيما الأزمة السورية تحديدا؟

الشاهد أن هذه قضية مهمة وخطيرة قائمة بذاتها، وقد أشرنا إليها من قبل غداة زيارة البطريرك كيريل إلى موسكو وتساءلنا: هل هي زيارة رعوية دينية أم أنها زيارة لها ملمح وملمس سياسي ولا شك؟ ربما حملت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية في عددها الصادر في 2 يونيو (حزيران) الماضي الجواب.. ما الذي قالته الصحيفة الأميركية الأشهر؟ تشير بداية إلى المخاوف البالغة التي تنتاب الكنيسة الأرثوذكسية الروسية من الأزمة الدائرة في سوريا، وبخاصة في ظل المخاوف التي تعتريها من أن تقضي موجة الإسلام الأصولي التي برزت بشكل واضح بعد أحداث الربيع العربي على الأقليات المسيحية في منطقة الشرق الأوسط، والتي يتبع غالبيتها المذهب الأرثوذكسي. وتفيد «نيويورك تايمز» بأن بوتين قد سعى قبل ثلاثة أشهر ونصف الشهر من أجل تحقيق فوز ساحق إلى حشد دعم الرموز الدينية في بلاده، متعهدا بتخصيص عشرات ملايين الدولارات لإعادة بناء أماكن للعبادة وتمويل المدارس الدينية. غير أن رئيس الدائرة البطريركية للعلاقات الخارجية في الكنيسة المطران هيلاريون طلب من الرئيس بوتين عوضا عن المال أن يقطع له وعدا بحماية الأقليات الدينية في الشرق الأوسط الذي يمر بما يسمى «زمن الربيع العربي». هل للكنيسة الأرثوذكسية الروسية اليوم أجندة سياسية أوسع من مجرد دورها الديني، لا سيما في ما يختص بسياق السياسات الخارجية؟ الجواب في واقع الحال يتجاوز فترة رئاسة البطريرك الحالي كيريل التي لم تتجاوز بضعة أعوام، وتعود بنا إلى الدور المهم الذي لعبته الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لحظة انهيار الوهم الشيوعي، وفي زمن البطريرك أليكس الثاني.

كان أليكس الثاني صاحب دعوة واضحة للمسيحيين لا في روسيا فقط بل في العالم أجمع لمقاومة الشر بحزم وجرأة أينما كان، ومن أقواله المشهودة: «لا يحق لنا السكوت عندما يفسدون أطفالنا، ويروجون للفسق والإدمان، ويشرعون مفاهيم الخدعة والسرقة، وعلى كل مسيحي أن يقاوم عدوانية الشر ويروج لمثل الخير. ولم يعد يحق لنا أن نتجاهل الخطر، وأن نتوقف في سبات وخمول». هل لدى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية خاصية ما يجب أن نتنبه لها في عوالمنا وعواصمنا العربية والإسلامية إذا أردنا عن حق معرفة كيفية التعاطي مع مؤسسة روحية لها مثل هذا النفوذ التاريخي والحياتي في روسيا الشعب والقيصر على حد سواء؟ حكما أن ذلك كذلك، فالكنيسة الروسية الأرثوذكسية بحسب مجلة «روسكي دوم» الروسية هي التي منحت روسيا تفردها، فهي دولة أوراسية لكنها ليست أوروبا ولا آسيا، وهي تتقبل منجزات الثقافة الغربية وتقنياتها، لكنها تعارض ما جاءت به من ظواهر التحلل الخلقي وصنمية المال والجسد وتدمير ثقافات الآخرين. وهي تدرك عمق العالم الروحي للشرق، وتعلمت العيش بسلام مع الإسلام لكنها تلفظ تطرف الشرق الذي يدفع بأبنائه إلى الموت من دون رحمة. تستدعي هذه الكلمات التوقف ولو للحظات لجهة العلاقة بين كنيسة روسيا ومسلمي روسيا، فماذا عن واقع حال تلك العلاقة؟

يبدو أنها تمضي في اتجاه طيب بشكل أو بآخر، فعلى سبيل المثال أعرب البطريرك كيريل عن امتنانه البالغ لمسلمي روسيا لدعمهم الكنيسة في أثناء ما سماه حملة اعتداءات المتطرفين على الكنائس مؤخرا.

وفي حديث تلفزيوني قال كيريل «يسعدني جدا أن أقول لجميع الذين يسمعونني إننا حظينا بدعم كبير من جانب المسلمين، فقد تلقينا في أصعب الأيام برقيات التأييد من المسلمين مثل: يا صاحب الغبطة، إن شمال القوقاز يقف معكم». ليس هذا فقط بل إن البطريرك كيريل أكد كذلك على أن العلاقات الطيبة بين الطوائف الدينية هي شيء ثمين جدا كحدقة العين، ويجب أن نصونه، وأن نفهم أن لدى المؤمنين على اختلاف معتقداتهم الدينية قاعدة مشتركة واسعة جدا للتعاون، وأعاد غبطته إلى الأذهان أن الأرثوذكس الروس كانوا على مدى ألف عام يعيشون بوئام مع الإخوة المسلمين.

هل من المتوقع أن يتعاظم الدور السياسي الذي تلعبه الكنيسة الأرثوذكسية الروسية داخليا وخارجيا؟

المعروف تاريخيا أن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لطالما حظرت ترشح رجال الدين التابعين لها لأي انتخابات، لكنها في عام 2011 أصدرت مرسوما يسمح لرجال الدين بالترشح للانتخابات بهدف حماية المصالح الكنسية، ومؤخرا أعلنت أنه إذا أعلنت حركة سياسية ما أن أحد أهدافها هو معارضة الكنيسة الأرثوذكسية، فإنه يمكن لرجل دين أن يترشح، بعد حصوله على دعم المجمع المقدس الكنسي الذي يقوم باستثناء في هذه الحالة وحدها، وأن هذا القرار ينطبق أيضا على المناصب التنفيذية. هل يفهم من هذا التوجه تزايد دور المؤسسة الدينية الروسية في الحياة السياسية للدولة وللعالم، والشرق الأوسط في القلب منه؟ هذا صحيح جدا، وتؤكده الأخبار التي تقول إن الكنيسة هناك تجري مقابلات منتظمة مع وزارة الخارجية الروسية لمناقشة أجندتها خارج الحدود الروسية، لا سيما بعد أن استشعر لديها بعض الخبراء حاجة الكرملين في دعم مواقفه.

في هذا السياق كذلك نذكر بتصريح رئيس دائرة البطريركية الروسية للعلاقات الخارجية في الكنيسة نيكولاي بالاشوف بأن الأزمة الأخيرة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط زادت أهمية تدخل الكنيسة الروسية مباشرة في السياسات الخارجية. هل يغيب هذا البعد الديني - السياسي عن الفعاليات السياسية العربية التي تسعى لإيجاد حل للمأزق السوري الحالي؟

* كاتب مصري