هل تستطيع الذاكرة أن تستحضر غير المتنبي في الطريق الى مرابع شكسبير؟

أمكنة شكسبير في ستراتفورد لا تحصى ومزار المتنبي في حلب ينتظر الرحمة والقرار

TT

قبل صفحة من نهاية المسرحية تصرخ كليوباترا بـ «شرميان» و«ايرس»: «الي بعباءتي ضعوا تاجي على رأسي فقد هزتني للخلد الاشواق». وقبل ان اسأل نفسي لماذا قفزت هذه العبارة وحدها الى الذهن والذاكرة اثناء الوقوف أمام قبر شكسبير في كنيسة الثالوث المقدس، واكرر السؤال بصمت ابلغ: نعم لماذا وحدها من ملايين الكلمات التي سطرها يراع ذلك الشاعر العالمي الكبير، فلا أجد جوابا. وتمعن الذاكرة في عبثها لتذكرني بأن شكسبير اطلق على كليوباترا بلسان «شرميان» لقب «كوكب الشرق» قبل أم كلثوم بستة قرون، فامنع الذاكرة من الاسترسال بعبثها حين يعي اللاوعي ان كوكب الشرق الفعلي هو المتنبي، ففي دنيا الادب والفن الرفيع كوكبان شكسبير الكوكب الغربي، وابو الطيب كوكب الشرق ونجمه الساطع المضيء الخارق لحجب الازمنة وتفاصيل ما تكنه الامكنة من ألغاز واسرار.

وعذرا ان قطعت الرحلة الى مرابع شكسبير من أجل ان نبكي ونستبكي في وقفة غير مضرة على الاطلال. ولنقارن كيف سفحنا دم كوكبنا ولم نترك له مكانا يزار رغم عشرات المدن والاماكن التي أقام بها، وكيف حافظوا على ارث كوكبهم المكاني بمواقعه التي لا تحصى ولا تعد، واحالوه الى سياحة رابحة، تضيف لهم مجدا ومالا وتحضرا والهاما فوق الهام.

وكانت نخبة من الباحثين السوريين قد حاولت قبل سنوات العثور على بيت المتنبي في حلب واستطاع محمد قجة استاذ اللغة العربية الذي كان مديري لشهور عدة في ثانوية المأمون ان يحدد الموقع بدقة كاملة من خلال الشعر وكتب التاريخ، والتحولات التي تطرأ على نظم العمارة، وما ان اعلن عن ذلك حتى سارعنا في «الشرق الاوسط» من خلال طواحين الكلام الى اقتراح تحويل المكان الى «مزار». وردت وزيرة الثقافة السورية ـ آنذاك ـ نجاح العطار بانها تدرس الموضوع وتحمس من البحرين حكيم دلمون ووزيرها العتيد يوسف الشيراوي للفكرة والمتحف، ومضت الشهور، وذهبت الوزيرة الى بيتها ولم تكتمل الدراسات لتثبيت محج ادبي لأكبر شعراء العرب والعالم.

وكانت الصدفة قد جمعتني بالدكتورة نجاح العطار اثناء وزارتها في ضيافة الرئيس البرتغالي السابق، واعدنا فتح موضوع مزار المتنبي في لشبونة، فقالت يومها انها تنتظر رأي المؤرخين لتتخذ قرارها. والذي نعرفه انها غادرت الوزارة دون ان تتخذ ذلك القرار ومات المشروع في مهده وهو لسورية والعالم العربي من أهم مشروعات الثقافة والسياحة والذي نعرفه ايضا ان الوزيرة التي جاءت بعدها لم تفتح الملف الذي تراكم فوقه الغبار فلم يكن عندها وقت للملفات ولا للثقافة. ولا ندري ان كانت الوزيرة الجديدة تدرك أهميته لكننا على ثقة بأن وزير السياحة السوري صاحب الثقافة الفنية والادبية الرفيعة في موقع يستطيع معه تحريك ذلك الملف النائم، فهل نحلم ان يقوم الدكتور سعد آغا القلعة باستعارة ملف مزار بيت المتنبي في حلب من وزارة الثقافة، وينظر فيه ويرى ما يمكن صنعه في ذلك المشروع الثقافي المؤجل الذي سيصنع لحلب ما صنعه شكسبير لبلدته ستراتفورد بل ولبريطانيا كلها، فصناعة تسويق امكنة شكسبير تدر سنويا عشرات الملايين ناهيك من مدلولاتها الراقية.

* تاريخ الكوكب الغربي

* ومن المناحة الشرقية والوقفة الطللية من أجل انصاف امكنة كوكب الشرق المتنبي الى كوكب الغرب شكسبير الذي صادف عيد ميلاده يوم الثلاثاء الماضي، ففي الثالث والعشرين من ابريل (نيسان) من كل عام تقام الافراح والليالي الملاح، وتشهد ستراتفورد على نهر آفون موكب السفراء الذي يتقدمه ممثل الملكة، ويتبعه ألوف الزوار الذين يعسكرون مسبقا في البلدة استعدادا لهذه المناسبة السنوية التي تعلو في «الاجندة» الادبية على ما سواها من المناسبات الثقافية العالمية.

وقد جرت العادة على زيارة المنزل الذي ولد فيه شكسبير في شارع هنلي أولاً ثم قبره في كنيسة الثالوث المقدس، وبعدها ينتشر الناس لزيارة مدرسة البلدة التي ضمته حدثاً ثم منزل زوجته آن هاثاوي خارج ستراتفورد ليعودوا لزيارة منازل بنتيه في البلدة وغالبا ما يختتم الزائر حجه الادبي لستراتفورد بزيارة منزل والدة شكسبير ماري آردن، وهو بيت لم تثبت اية وثيقة تاريخية وجوده، لكنهم ولعدم تقيدهم بالشكليات لم ينتظروا «الفتوى» مثلنا انما احالوا المكان الى متحف للحياة الريفية كما كانت في زمن شكسبير الذي عاصر اليزابيث الاولى ابنة هنري الثامن، واشترك على ذمة الرواة بالتآمر ضدها، فهو لم يكن معزولا عن الاحداث السياسية لعصره، وكيف يكون ومعظم مسرحياته من طراز الادب السياسي الرفيع الذي يعتمد التاريخ كخلفية يغوص من خلالها في أعمق الدسائس ويصور بطريقة اتفقت الاجيال على عبقريتها ادق المشاعر الانسانية والخلجات البشرية في أوقات الحب والغضب والانتقام داخل اطار من العبث الذي لا يتقنه حق اتقانه الا العباقرة الكبار.

وعن الاشتراك في المؤامرة ضد اليزابيث الاولى التي حدثت قبل اربعمائة عام سنة 1601 يقول مؤرخو تلك الحقبة ان المتآمرين وعلى رأسهم ايريل اسيكس عشيق الملكة استعدوا لخلع الملكة العجوز، وذهبوا الى شكسبير في مسرح «جلوب» على الضفة الجنوبية لنهر التيمز، وطلبوا منه ومن فرقته ان يقدموا للناس مسرحية ريتشارد الثاني ليذكروا الشعب بامكانية تبديل الحكام بالقوة وان ما يقومون به ليس جديدا على التاريخ الانجليزي، فمن المعروف ان هنري الرابع الذي يتحدر من سلالته والد اليزابيث الاولى اغتصب العرش البريطاني عنوة من الملك ريتشارد الثاني.

والحقيقة ان مسرحية «ريتشارد الثاني» وهي في الأوج من المسرحيات التاريخية من أجمل مسرحيات شكسبير السياسية، فذلك الملك الذي ينسبون اليه في أعمق لحظات اليأس قوله «مملكتي مقابل حصان» يتجلى باليراع الشكسبيري ليرينا نفاق القصور وخداع الحاشية والمستشارين. فمن قرأ تلك المسرحية لا يستطيع ان ينسى مهما حاول حوارية ريتشارد المخلوع والمقهور مع نفسه ومرآته.

ايتها المرآة المداهنة أنت مخادعة كعبيدي ومعاوني في أيام نعمتي هذا ليس وجه رجل أظل سقفه ذات يوم عشرة آلاف فارس اني ارى كسوفاً مجداً زائلاً يشع اشعاعته الأخيرة وفشلت المؤامرة وتم تعليق رؤوس المشاركين فيها على أسوار برج لندن، لكن شكسبير نجا منها واختفى الى حين ثم عاد لنشاطه في مسرحه الأشهر جلوب وكأن شيئا لم يكن.

وغير المؤامرة على الملكة يرتبط اسم شكسبير بمؤامرة أخرى على البرلمان، وهي المؤامرة التي تعرف باسم منفذها الفاشل «جاي فوكس» الذي ادخل عدة براميل من البارود الى قبو البرلمان البريطاني لنسفه، وبعد ان فشل تبين ان معظم الذين ساعدوا المتآمرين من بلدة شكسبير، وبعضهم من أخلص اصدقائه، ومن شدة تأثير تلك المؤامرة على الوجدان الشعبي يقوم الاطفال الى اليوم باحراق دمية تمثل «جاي فوكس» في الخريف، وفي ذات التاريخ الذي فشلت فيه مؤامرة تفجير البرلمان.

وما لنا يسرقنا حديث المؤامرات عن زيارة بيت شكسبير، ويصرفنا عن القصد والغاية.. هل هو الذهن العربي الولوع بالمؤامرات..؟ أم محاولة التلهي والتحايل على الذات لعدم الوصول الى الهدف، لأن توقيت ميلاد شكسبير هذا العام يطل وليس في مخيم جنين حجر فوق حجر فماذا تفعل بزيارة البيوت العامرة يا ابن الدم والخراب..؟

ولا تقل ما علاقة هذه بتلك فالشجى يبعث الشجى ويثيره على مذهب الشاعر العربي متمم بن نويرة في رثائه لأخيه مالك: «فدعني فهذا كله قبر مالك» وكل من يحيط ببلدانهم الخراب الحالي والموعود لا بد ان يقفوا امام العمران وقفة اسى، معجونة بفخر يوشك ان يتلاشى لولا وجود شعراء يعيدون للروح ألقها، وللنفس البشرية مقاومتها. وهم حتى الآن وعلى قمة العالم، اثنان. ففي الطريق الى شكسبير لا تستطيع ان تتذكر غير المتنبي، وقد أتى شعر متمم وقبر أخيه مالك ليؤكدا على ان من كان في حالة أسى لا يستطيع الاستمتاع في أي زمان ومكان ومهما كانت روعة المناسبة.

* عائلة الشاعر

* وبما ان الشعر العربي أخذنا باتجاه المقابر، فسنؤجل زيارة بيت شكسبير الى الاسبوع المقبل ونعرج بكم على مقبرته على ضفاف نهر آفون في كنيسة بنيت منذ القرن الثالث عشر وليست لشكسبير وحده فهناك وفي قلب كنيسة الثالوث المقدس تمر بمقبرة كلوبتون أولاً وهو مواطن شكسبير اللامع الذي صار ارستقراطيا مرموقا في عهد الملك جيمس الاول، وكان مثل خليل حاوي يحلم بقيامة اليعازر بعد الموت فيوصي بوضع لوحته على نافذة وتمثاله امام الهيكل ومعه وحوله تتزاحم المعجزات المصورة «المفلوج الذي يقوم والمريض الذي يشفى» وليس هناك في الرسوم من يمشي على سطح الماء فهؤلاء سكان جزر يختلط عندهم المالح بالحلو، ولا وجود لقداسة الانهار عندهم على كثرة ما يحيط بقبر شكسبير من صور يوحنا واتباعه، فهناك فرق بين من يسبح في معموديته في نهر الاردن وبين من يتعمد فوق جرن حجري برشة ماء.

وعلى الحائط القريب من سور المذبح تطالعك شهادة تسجيل دفن وليم شكسبير وشهادة ميلاده من سجلات كنيسة القرية، فتتذكر ان الحضارات تبدأ من المكتوب، وتتطور كلما ابتعدت عن الشفاهي، فهؤلاء كانوا يسجلون مواليدهم في القرن الخامس عشر في المرحلة التي كنا نتهمهم فيها بالجهل، وتلك خطوة لم نبدأ بتطبيقها الا منذ وقت قريب ولا تزال بعض قرانا البعيدة كقرية شكسبير التي تبعد اكثر من مائتي ميل عن لندن لا تسجل المواليد الا حين تود ارسالهم الى المدرسة أو يطالب بهم الجيش بعد «خبرية كيدية». والى جانب وثيقة الميلاد تمثال نصفي لفلاح ستراتفورد كما كان يسميه كارلايل. وذاك الفلاح نفسه هو الذي يتباهى الارستقراطيون بحفظ كلامه الموزون والمفلوش وأخيرا تصل الى مدفن القصيد لتجد عند سور المذبح خمسة قبور بدل القبر الواحد وكلها لاسرة ذلك الشاعر العظيم، فعلى شماله قبر زوجته التي لم تستطع الامساك به حيا، فلحقته الى القبر بعد وفاته عام 1616 بسبع سنين، فإذا عرفت انها كانت تكبره بثمانية اعوام ادركت انها عاشت حقبة ونصف أكثر منه لكن من قال ان العيش بعدد السنين وليس بكثافتها. فهناك اشخاص يلخصون دهرا في بضع سنة أو بعض يوم.

والى شمال شكسبير أي الى يمينك وانت تقف بمواجهته صهره توماس ناش ثم صهره الثاني الطبيب جون هول وآخر القبور قبر «بنت الحرام» ابنته المفضلة سوزانا التي حملت بها امها سفاحا قبل ان تتزوج من أبيها، وتلك قصة سنتذكرها حتما حين نمر ببيت زوجة شكسبير «آن هاثاوي» وهو أجمل وأكثر رحابة من البيت الذي ولد وعاش فيه قبل ان يتورط معها ويغلط ثم يسارع لاصلاح غلطه ولا يهرب كمعظم شباب هذه الايام.

وتتقدم الرخامة التي تغطي قبر شاعر الانجليز الاكبر خشبة تحمل بانجليزية معاصرة (غير شكسبيرية) الأبيات التي أوصى الشاعر ان تكتب على قبره وترجمتها بتصرف للعربية:

أيها الصديق الكريم احجم كرمى ليسوع المسيح عن نبش رماد قبري بورك من عبر باحجاري وتجاوزها واللعنة على من حرك عظامي ولم يحرك أحد تلك العظام، ولا أحد يدري رغم التأكيدات ان كان شكسبير في القبر أم لا، فالغموض حول موته رغم وجود وصية موقعة منه كالغموض حول حياته وطفولته وشبابه، اكثر سرية من طفولة المتنبي ومراهقته، وهناك عشر سنوات ضائعة لا أحد يعرف أين كان خلالها وهي الحقبة التي كتب فيها سونيتاته التي تعتبر من أجمل قصائد الحب في الأدب الانجليزي، وفيها كتب ايضا ديوان «اغتصاب لوكريس».

ومع شكسبير يصل الخلاف الى الشك في الشخص نفسه، فقد استكثر الباحثون على فلاح ستراتفورد ان يكتب تلك الروائع التي تدل على ثقافة عميقة، ورائدة المشككين والمشككات «ديليا بيكون» التي تريد نسبة أعمال شكسبير الى جدها الأكبر، وهي في هذا المنحى ليست وحدها، وتلك قضايا تحتاج إلى العودة الى البدايات لنعرف مصدر التناقضات الاصلية فهل شكسبير ابن العمدة الثري المدلل الذي اتيحت له ثقافة رفيعة أم انه مجرد لص اضطر للهرب من قريته بعد ان حكموا عليه بالشنق اثر قيامه بسرقة غزال...؟