هاسلنجر: أية قطعة أدبية تشاؤمية أكثر تفاؤلا من أي بيان سياسي

الكاتب النمساوي لـ «الشرق الأوسط»: أخطر الإرهابيين هو الحكومات التي لا تعترف بحق الشعوب

TT

ولد الكاتب جوزيف هاسلنجر سنة 1955 في النمسا. يحمل دكتوراه في الفلسفة. يدرّس مادة الكتابة الابداعية في جامعة لايبزغ ويعيش ما بين فيينا ولايبزغ.

سنة 1995 اصدر هاسلنجر روايته «حفلة الاوبرا الراقصة» فلاقت نجاحا كبيرا ورسخت اقدامه في عالم الادب وترجمت الى لغات عديدة. والى حد ما كانت روايته هذه بمثابة انذار من خطر اليمين المتصاعد في النمسا وفي العالم عموما. وهي تنبؤ كارثي بامكانية سيطرة اليمين بواسطة الارهاب. وتكاد احداث الرواية تشابه ما حدث في اميركا في 11 سبتمبر الى درجة كبيرة.

في سنة 2000 اصدر رواية اخرى هي «لعبة الأب» وهي تعالج ماضي بلاده في ضوء الحاضر، ولاقت هي الاخرى نجاحا كبيرا ايضا. وما يلفت الاهتمام في ادب هذا الكاتب اليساري البارز هو اهتمامه بالتاريخ وربطه بالحاضر. ولأهمية اعمال هذا الكاتب ومواقفه كان هذا الحوار معه:

* هل تعتبر نفسك كاتبا سياسيا؟ وما رأيك في هذا التعريف؟

ـ اعتبر نفسي كاتبا سياسيا بطريقتين، الاولى، لقد كتبت الكثير حول السياسة، بالاساس حول السياسة الاوروبية والنمساوية، وكذلك حول السياسة الاميركية، ثانيا، هناك دائما خلفيات اجتماعية وسياسية معروفة لأعمالي القصصية والروائية.. انها لا تعالج مشاكل انسانية ابدية، وانما تعالج مشاكل خاصة في زمن محدد.

* الثقافة والبربرية

* في قصتك «معركة الدفاع عن فيينا» ترد جملة هامة تناسب عالمك الابداعي. الجملة تقول: «أنا سجين تاريخنا الخاص»، الا تعتقد ان هذه الجملة قد تنسحب على الجميع بتفاوت معين؟ وعلى اي نحو تشعر انك سجين تاريخك؟

ـ على وجه العموم كل واحد هو او هي سجين تاريخه وتاريخها. ولا يوجد متسع كاف لأن تتملص او ان تفعل اشياءك الخاصة. وفي ما يتعلق فيّ، فان زمن الحرب العالمية الثانية ما زال له تأثير ضخم على نظرتي الى السياسة النمساوية المعاصرة. وعلى الرغم من اني صغير جدا لأن تكون لي اية تجربة او صلة بزمن الاشتراكية الوطنية (النازية) لا استطيع ولا انسى كيف عومل الناس بذل وقتلوا في مجتمع كان يزعم ويدعي الثقافة المتطورة العالية. من الواضح ان الثقافة والبربرية يسيران جنبا الى جنب. اعتقد، اننا نحن الذين نتحدّر من مجتمع الابادة الجماعية الاوروبي، ثمة مسؤولية خاصة ملقاة علينا. نحن لسنا مذنبين على المستوى الشخصي، لكن علينا ان نعيش مع عبء الاجداد. تجاهل الامر لن يكون لمصلحة احد، ما عدا قلة من القتلة ما زالوا على قيد الحياة.

* اتذكر اننا عندما كنا مدعوين سنة 94 في جامعة ايوا الى برنامج الكتابة الابداعية كنت تعمل على روايتك «حفلة الاوبرا الراقصة»، يومذاك لم تكن مشهورا. ما الذي كتبته قبل هذه الرواية؟ وهل امدتك هذه الرواية بموقع قوي في عالم الادب، سيما انها لاقت نجاحا كبيرا وكانت لفترة طويلة في قائمة الكتب الأكثر مبيعا؟

ـ قبل ان انشر روايتي «حفلة الاوبرا الراقصة» كنت قد نشرت ستة كتب اخرى ادبية ودراسات، وكنت محررا ادبيا لمجلة أدبية لمدة 15 عاما، لقد نشرت قصصا قصيرة ورواية قصيرة حول رجل عجوز ينتحر. اثارت هذه الرواية القصيرة اهتمام بعض النقاد في النمسا والمانيا. لكن كتابي الاكثر نجاحا ما قبل رواية «حفلة الاوبرا الراقصة» كان عبارة عن مقالة معنونة بـ «سياسة العاطفة» الذي طرحت فيه السؤال التالي: لماذا تتردد النمسا كثيرا في مواجهة الحقيقة التاريخية لتورطها في النازية. كان ذاك في الوقت الذي انتخب فيه كورت فالدهايم رئيسا على الرغم من اتهامه بامكانية اشتراكه في جرائم الحرب في البلقان. لقد دافع فالدهايم عن نفسه بنظرية عامة مفادها انه لم يقم الا بما قام به الآلاف من النمساويين الآخرين، اي لقد قام بواجبه كجندي. اعتبر هذا الجواب غاية في الاهمية لجيل الحرب النمساوي. لا يدعي الكتاب ان فالدهايم هو مجرم حرب، بل يدرس صعوبات النمسا في ما بعد الحرب لأن تتوصل الى تفاهم مع الماضي. لقد اثار هذا الكتاب اهتماما واصابني منه اهتمام سياسي كبير في النمسا. كان هناك البعض ممن دعموا نقاشي وثمة آخرون اتهموني بأنني افسد والوث بيتي الخاص! لقد تعودت ان اتعايش مع مثل هذه الاتهامات.

* الأدب لا يصوّر الواقع كما هو

* روايتك «حفلة الاوبرا الراقصة» هي رواية سياسية مثيرة، وقوتها في الحبكة والمبنى. هل كانت هذه الرواية بمثابة تنبؤ وانذار النمسا من هايدر وتزايد قوة اليمين؟ وكيف ترى الامر بعد مضي بعض السنين؟

ـ اجل الى حد ما كانت رواية تنبؤية وتحذيرية. ففي مارس 1995 عندما نشرت الرواية عانت النمسا من سلسلة من رسائل ملغمة ارسلت الى جمعيات غير حكومية والى اشخاص انسانيين ملتزمين وفعالين. احد الضحايا كان هلموت زيلك رئيس بلدية فيينا. لقد فقد احدى يديه عندما فتح رسالة. ولقد اصيب آخرون بأذى ايضا. ان خلفية هذا الهجوم هو الجناح اليميني وهو الذي يتحمل مسؤوليته. لقد جرت قراءة روايتي بمثل هذا السياق السياسي المعاصر. لكنه بعد وقوع هجوم الغاز السام في المترو في طوكيو فجأة بدت روايتي حتى اقرب الى الواقع، لأن الارهابيين في روايتي يستعملون الطريقة ذاتها في القتل ولهم خلفية دينية ايضا. انهم ينتمون الى طائفة اصولية. وفجأة بدأ مضمون روايتي اكثر قربا الى الواقع الياباني منه الى النمساوي. وحولت روايتي الى فيلم لمدة ثلاث ساعات عرض في التلفزيون النمساوي والالماني. لكن هذه ليست نهاية القصة. هل تستطيع ان تتخيل ماذا حدث في 11 سبتمبر 2001؟ فبعد ست سنوات على صدور «حفلة الاوبرا الراقصة» لاقت الرواية للمرة الثانية نجاحا وازديادا كبيرا في انتشارها. فما زلت ادعى الى الكثير من اللقاءات حول هذا الامر. وفي هذه المرة ليس المضمون هو الخلفية الدينية الاصولية لمرتكبي الجريمة ومنفذيها فقط، وانما التغطية التلفزيونية للحدث ايضا المطابقة لسيناريو روايتي تماما. هذه هي المعضلة المتعلقة بالتفسير المضموني للأدب. اذا ما غيرت المضمون فسيكون مناسبا ايضا. فالادب لا يصور الواقع كما هو، بل يصوره في اطار تعدد امكانياته واتساعها.

* قيم الربح

* الرواية متشائمة. ففي النهاية وحسب تسلسل الاحداث ينجح الجناح اليميني في السيطرة: هل هذه هي وجهة نظرك؟ وهل ستنجح المجموعات الارهابية في قلب الانظمة الديمقراطية؟ هل هذا السيناريو ممكن حصوله حسب رأيك على ارض الواقع؟ تبدي الرواية ان لديك مخاوف كثيرة من هذا الامر.

ـ الرواية حقا متشائمة. ولدي مخاوف من المجتمعات الديمقراطية التي هي ليست نهاية التاريخ وانما هي بداية الصراع الجديد على السيطرة والهيمنة والنفوذ، خاصة مع تسارع التطور التكنولوجي والترابط الجاري في التقنيات المتقدمة جدا مع وفرة المال علينا ان نواجه خطرا من ان القيم التي ستسود هي قيم الربح في السوق العالمي. اذن، من المحتمل ان من سيخفض ويقلل من التنوع والتعدد الثقافي الانساني محولا اياه الى ضرب من اسلوب الحياة الاقتصادي الناجح الرتيب ليسوا الارهابيين، بل اولئك الذين يقاومونهم ويواجهونهم.

* تدور احداث رواية «حفلة الاوبرا الراقصة» حول مجموعة ارهابية تهاجم هذا الحفل الذي يقام سنويا في فيينا. يدور الآن حديث كثير عن الارهاب. ما رأيك في الارهاب عموما، وكيف يمكن القضاء عليه؟

ـ الارهاب ليس ارهابا فقط. على الواحد ان ينظر عن كثب ما هو نوع وصنف هذا الارهاب. هنالك الارهاب التقليدي الذي قد يفهم كنوع من الحرب، كل حركات التحرر على سبيل المثال تتهم بأنها منظمات ارهابية. وفي الواقع ان اخطر الارهابيين هي الحكومات التي لا تحترم حق الشعوب في تقرير مصيرها. وهناك نوع ثان يجعلني عاجزا تماما. اتحدث عن الانتحاريين الذين يفجرون انفسهم. كيف تعالج هذا الامر؟ انت لا تستطيع ان تعاقب اشخاصا بالاساس هم يعاقبون انفسهم بعقاب الموت كجزء من الاذى الذي يلحقونه بآخرين. اذاً، ما الذي تستطيع ان تفعله؟ تستطيع ان تعاقب الآخرين. لكن هذا ليس تطبيقا لدور القانون، بل هل فعل انتقامي بربري. لسوء الحظ الشيء ذاته يحدث في فلسطين بالذات لأن شارون يحكم اسرائيل. ان اعمال شارون الانتقامية لم تساهم في التهدئة، بل عملت على تصعيد الوضع كله.

* ان من يقرأ أدبك قد يراوده الشعور انك محكوم بنظرة تشاؤمية تجاه بلادك، خاصة سياسيا. ثمة «تراث» كبير من التشاؤم في الادب النمساوي.. بدءا بتراكل وبرنهارد وهاندكه والفريدي يلنيك وآخرين.. هلا شرحت لنا سبب هذا التشاؤم؟ وهل تنبع من الحالة او النزعة «المرضية» التي تسم فيينا بميسمها والتي تنعكس في الادب؟ هل هنالك ثقافة وراء هذه النزعة التشاؤمية المرضية؟

ـ لا استطيع الاجابة عن سؤالك. وعلى الرغم من ادراكي ومعرفتي للظاهرة التي تصفها، إلا انني لا املك تخيلا واضحا من اين تنبع. انها لحقيقة، ان الادب النمساوي في واخر المئة سنة الاخيرة كان الى حد ما قريبا من حدود المرضية. اعتقد ان نهاية الامبراطورية النمساوية الهنغارية التي كانت في حقيقة الامر نهاية القوة الاوروبية المركزية كان لها تأثير كبير على العقلية النمساوية. عند نهاية الحرب العالمية لم يكن احد يتخيل دولة نمساوية صغيرة كما هي، كما كان من الصعب ان يصدقوا ويؤمنوا ان البلاد تقلصت الى هذا الحد. حتى الحركة الديمقراطية الاجتماعية كانوا يتوقون الى الاتحاد Anschluss، الوحدة مع المانيا، التي حدثت عندئذ في ظروف اخرى. لقد طرأ تحول كبير في العقد الاخير على حياة النمساويين، اذ مروا بتجربة ان امبراطورية ضخمة ذات ثلاث عشرة لغة رسمية من الممكن ان تتقلص الى صفر. لحسن الحظ انه اعيد تأسيس النمسا بعد الحرب العالمية الثانية. بيد ان التجربة المرضية من ان هويات سياسية ليست ابدية قد تغور في ذاكرتنا كالوشم.

* مرة اخرى التاريخ يؤرقك في «لعبة الأب»؟

ـ في رواية «لعبة الأب» هناك شاب، نجل وزير من الحركة الديمقراطية الاجتماعية، يلتقي نازيا لتوانيا يعيش مختبئا في الدور التحتاني من احد البيوت في اميركا. وعلى الرغم من معرفته بجرائم كان الختيار متورطا بها في اثناء الحرب العالمية الثانية، الا انه لا يبلغ الشرطة عنه. على العكس من ذلك، فانه يساعده على ان تكون شروط حياته اكثر راحة، تحاول الرواية ان تواجه الحقيقة. ان تأريخية المحرقة، تداخلها في مجرى التاريخ، هو امر حتمي، لا يستطيع احد ان يوقف هذه السيرورة. انني اراها في النمسا وفي المانيا. الاشخاص من الجيل الاصغر يريدون ان يتخلصوا من ميراث اجدادهم المحتوم. تظهر الرواية هذا التحول في العقلية في منزل ديمقراطي اجتماعي. لقد كان الجد في معسكر للاعتقال، فيما الحفيد يساعد متعاونا نازيا.

* هل تعتقد ان الادب قادر على التغيير؟ وكيف ذلك؟

ـ توجد اقلية صغيرة من الناس نطلق عليها اسم القراء. ونحن الكتّاب. بالتأكيد لنا تأثير على عقولهم. الادب بذاته ليس جيدا او سيئا. انه عبارة عن فعل خاص من التواصل. وما دامت المعاني المتعلقة بالادب غير مقيدة او محددة بالواقع كما تحدد وتعرّف من قبل القوى السياسية، فمن الممكن ان يكون الادب مصدرا بارزا من مصادر التفاهم الثقافي.. واحيانا ان يكون مصدرا من مصادر سوء التفاهم ايضا، للادب اذن حساسة للانغام التي لا تلاحظ من قبل اية وسيلة اتصال اخرى. من الممكن ان يثير الادب الغضب والسخط. وهذ يعود لأن هدف الادب ليس تلوين نظريات بيضاء او سوداء، بل ان يظهر ويعبّر عن اصوات غير مسموعة. حتى ان اكثر القطع الادبية اغراقا في التشاؤم تكون صحية للانسانية اكثر من اشد البيانات تفاؤلية عن عهد سياسي جديد.

=