أسكافي جنين

حسن ناصر

TT

قطعة من جريدة حديثة استقطبت اهتمامنا جميعا وألقت الرعب والأمل معا في جوف القلعة القديمة الشاهقة. لم يسبق لواحد منا نحن نزلاء هذه القلعة ان ذهب الى ابعد من زنزانته والساحة العامة حيث نتجول في فترات معينة. نقيم في بطن هذا الحوت منذ زمن بعيد ومنسي. منفيون عن العالم الى هنا حيث نقضي احكاما مجهولة بعد ان نسي قضاتنا وحراسنا جرمنا الاول. حملت الريح قصاصة من جريدة، لم يعترض واحد منا على كونها حديثة، لتستقر على تراب الساحة وعلى يأسنا ورتابة ايامنا. بعثرت كل شيء لتعيد تنظيمه في هذا السجن. كانت ملقاة على ارضية الساحة العامة التي نسميها فرصة الحرية. التقطناها وتداولناها سرا ثم علانية. قصاصة تحمل صورة وتحتها تعليق بسيط مشوه النهايات. جملة قصيرة لا تضيف الى الصورة الكثير. تأملناها طويلا نبحث عن عنوان لها: اصطدام بين الفلسطينيين والجيش الاسرائيلي في جنين.

جنود اسرائيل يختفون وراء ملامح واحدة يكتسحون شارعا فلسطينيا. بشريتهم مدفونة تحت دروعهم، رمز يتكرر في الصورة بمواضع مختلفة، كأنهم جيش معركة قديمة خرج للتو من مخطوطة صفراء. درسنا الوجوه والتفاصيل في الصورة حفظنا اعلانات المحلات الممتدة على جانبي الشارع. نافذة واحدة تنفتح في حلكة عزلتنا لترينا ما يدور هناك.. خارج القلعة. رأينا في الصورة الكثير. بدأنا نحلم بالعبور من ممراتها الى المشهد الحقيقي.

في جانب الصورة الايسر هناك جندي اسرائيلي تميزه نظارة طبية وهو يرفس بابا قديما لا يمكن ان يحتمي وراء هشاشته مقاتل. نظارة طبية وخوذة ورشاشة. لكن الباب القديم يفضح ضعفه. تناقلنا الصورة بيننا حتى فزَّ رجل منا حين رآها.. اشار الى دكان صغير في الصورة وقال: هذا دكان ابن اخي! فاضت الدموع في عينيه وحزنا جميعا للمصادفة. قال ان الاسم قد تغير فالمحل اسمه اسكافي جنين وليس احذية الاخلاص. حاولنا ان نواسي احزانه وقلقه على ابن اخيه ولكننا فرحنا في اعماقنا لوجود صلة حية بيننا وبين ذلك الشارع في جنين. ألفنا الصورة اكثر واخذنا نفتش في عينيه عن بقايا ما رآه هناك. استدرجنا الرجل الى الحديث عن زيارته للمكان وكيف رأى الشارع حينها وهل تغير في الصورة عما كان عليه؟

قال انه زار ابن اخيه مرتين وتجول معه في ذلك الشارع واضاف: ترك في نفسي حبا لعيش حياة مسالمة بسيطة تحيطها الطمأنينة.. اكثر رسوخا من باب قديم يهده جندي حديث.

حكى ابو ماجد عن الباب وروى انه انتبه اليه في الزيارتين وانه رأى عجوزا تجلس عند عتبته. خشينا ان تكون العجوز الوحيدة وراء الباب لحظتئذ.. ولكن كيف لنا ان نعرف ونحن منقطعون عن العالم؟ نحلم والعالم خارج الأسوار صار حلما ايضا. القادمون الجدد يؤكدون انهياره وتشتته. حملت الصورة الينا وضوحا مدهشا للعالم الغائب خلف الاسوار لوجوه الشباب الذين يحملون الحجارة، ولملابسهم ايضا. حتى ان البعض منا اعاد خياطة اسماله على الموضة التي يرتديها الشباب رغم طفوليتها ونزقها. لم يكونوا يختلفون في شيء عنا، رأينا فيهم احلاما قديمة بعد ان أوشكنا على الاعتقاد بجفافها الابدي. رأينا في ملامحهم ملامحنا.. غضبهم يشبه غضبنا والحرية التي تلوح في نظراتهم هي نفسها التي اشرقت في عيون آبائنا قبل ان تؤسر بقاياهم وتنفى الى هذه القلعة.

السجّان انا نافذة السجين الاخيرة الى العالم الحر. هذه هي الحكمة التي خلفها لنا اباؤنا بعد خبرة في النفي خارج الحرية. ولهذا كنا نحصي تفاصيل ظهورهم امامنا وهم يقدمون الطعام الينا او يقتادوننا الى فرصة الحرية.

رسم زميلنا القديم احمد الرسام الصورة على الجدار بدقة مذهلة مستعينا بالاسود، اسهل الالوان التي يمكن استخراجها من سجن ضخم. ارتسمت امامنا بتفاصيلها الدقيقة واتاح لنا الرسام التدخل في اقتراح اضافات وتغييرات في المشهد. طلب ابو ماجد تغيير اسم المحل وخطه الى القديم الذي رآه وعرفه.

لم يكن الباب القديم ليحتمل مثل تلك الرفسة من الجندي ذي النظارات.. أرواحنا لا تحتملها ايضا. اقترحنا معا في الصباح التالي ان يعيد احمد الرسام الباب الى وضعه الاول وان يمحو من المشهد ذلك الجندي القبيح. مع هذا كان ابو ماجد يفز من نومه صارخا في جوف القلعة البهيم «الباب.. الباب».

يقول ابو ماجد انه رأى ابن اخيه قتيلا.

نحزن ونكذب عليه وعلى بعضنا. نؤمل انفسنا بأن يكون الفرسان النبلاء الطيبون.. الاحرار ما زالوا هناك يواصلون وقوفهم الشامخ في الصورة. هؤلاء هم ارثنا من ابنائنا نفسه، تطلعنا الى الحرية عبر انفاق الظلام الذي تسحبه الجيوش. نسكت امام الجدار وابو ماجد يذوي من الحزن. نشاركه احزانه والبعض يبدي الملل سريعا ويرتئي ان نكاشفه بالحقيقة مباشرة.

اصبر يا اخي.. دع للرجل بصيصا في هذا الليل الحالك! نحلم معه.. نبكي.. أليس البكاء من حقنا؟! نرى صورنا تعود الى الشارع.. دعنا نأمل في انهم لن يخدعوا هذه المرة.

نراقب اللوحة على الجدار.. اختفى الجندي وهناك الآن امرأة عجوز تجلس على عتبة الباب امامها شبح لملاك يقدم اليها عنقودا من العنب الاسود.

نجلس امام اللوحة صامتين، نرتب لها وقائع محتملة الحدوث وندفع عنها بدعائنا احداثا ربما تكون وقعت بالفعل..

هل هذا من المعقول يا اخوان؟! يردد ابراهيم استقلال ويقرأ بصوت مدو «اتكون روما العظيمة هذه مجرد قمامة تحترق لتضيء لقيصر مجده!».

كآبتنا ممتدة ومع هذا نتمسك بآخر قلاع فروسيتنا، نعرف اننا اسرى، سجناء يستنطقون هيأت حراسهم ويستعرضون اوضاع القادمين لمعرفة ما يجري في العالم الذي نفاهم الى هذه القلعة ذات مرة.

[email protected]