جدليات الأفراح والأحزان بين شاعر العشق المتجدد وشاعر الحب العتيق

أبو تمام الطائي وديك الجن الحمصي نقلا فؤاديهما واستخدما مختلف الخدع للتفريق بين التوائم

TT

نقل فؤادك حيث شئت....

وقبل ان تنقله لا بد ان تتخذ قرارك أحبا تريد أم حنينا..؟

أبو تمام كان إلى الحنين أقرب، لكن داهية زمانه في شبق الحياة والشاعر الذي أتى أبو نواس إلى حمص ليقدم له فروض الطاعة، ويقول: أنت أشعر الانس والجن، يرى المسألة معكوسة، فالحب لا يمكن ان يظل للحبيب الأول إلا إذا كنت إلى عشق الموت منك إلى عشق الحياة أقرب.

انه ديك الجن الحمصي الذي علمه اخضرار العشب على ضفاف العاصي في فصول بعينها ان يعرف ان للقلوب كما للضفاف فصولا تزخر بالنضارة، وأخرى بالقلق والانتظار، والتشوف إلى الاكتشاف قبل حصول اليباس والجفاف والتلاشي.

ومن يقف على ضفاف النهر كل صباح لا بد ان يلاحظ ان حياة الانسان كماء النهر تسير من منبعها إلى مصبها باتجاه واحد ثم تتلاشى بكل حلاوتها في محيط اجاج، وهي ابدا لا تسيل إلى الوراء، ولا ترجع القهقرى حتى حين تعترضها الهضاب لتردها، فتعاند، وتحفر مجراها في جلاميد الصخور.

ولعل ديك الجن كان يدري ان اسطورة الخلق بدأت من سماء وماء، وان أول خطا الانسان على الأرض تعمدت بالدم، فشاء لحياته، وشاءت له الأقدار، ان يخضب بسيفه دم من يحب ثم يبكيها إلى آخر العمر في قصة محبوكة ومحزنة سنأتي على تفاصيلها بعد ان نفض الاشتباك بينه وبين أبي تمام في مسألة تشغل بال كل من عشق، وفرقه عمن يحب الزمان.

ولا يعرف الرواة من قال أبياته في الرد على الثاني، وهل بدأ ديك الجن بالانتصار للجديد، فنقض ابو تمام المعنى ام العكس، وبما ان ابيات الطائي هي الأسبق، فمنها نبدأ:

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه ابدا لأول منزل وقد قالها الطائي وتناقلتها الركبان دون ان ينتبه القوم ان في الأمر خدعة مركبة، فالمنزل الأول ليس كالحبيب الأول. ومع ذلك فقد نجح ابو تمام في ان يستغل معنى البيت الثاني المتفق عليه ليثبت مسألة خلافية تضمنها البيت الأول، فلو كان الحب دوماً للحبيب الأول لما أحب الانسان غير مرة واحدة، وهذه مسألة لا يقبلها عقل ولا يطيقها قلب مولع بكل أنواع الجمال الروحي والجسدي.

ابو تمام السادر في خدعته طللي المخيلة، ويريدنا ان نتجمد عاطفياً عند درجة بعينها وانثى بعينها وطلل معين، وكل من جرب تلك الحالات ـ ومن ذا الذي لم يجرب ـ يعرف ان الحنين قتال إلى لحظات تمضي ولا تستعاد مهما حاولنا، ولو كان بالإمكان استعادتها لما كتب مارسيل بروست ثلاثة آلاف صفحة في محاولة تذكر أحداث مضت ليكتشف ونكتشف معه في نهاية رواية من أعظم روايات البشرية، انه يصنع حيوات جديدة لا يربطها بالذي كان إلا بعض خيوط الوهم والحنين المريض.

* عقليتان وأسلوبان

* انه الحنين مرة أخرى، وهو سواء كان لبيت أو حبيب ليس حباً بالتأكيد لكنه جثة محنطة تحمل رائحة الحب كما كنا نريده لا كما كان.

وكان يا ما كان في قديم بلاد الشام شاعر أغاظه ان يتعصب الناس للماضي على حساب المستقبل فقال ولجمال الابيات وروحها المفعمة بنضارة الروح سنذكرها مخمسة كاملة:

اشرب على وجه الحبيب المقبل وعلى الفم المتبسم المتقبل شرباً يذكر كل حب آخر غض، وينسي كل حب أول نقل فؤادك حيث شئت فلن ترى كهوى جديد أو كوصل مقبل ما ان أحن الى خراب مقفر درست معالمه كأن لم يؤهل مقتي لمنزلي الذي استحدثته اما الذي ولى فليس بمنزلي والمقة في البيت الأخير تعني المحبة، واياك ان تقرأها مشتقة من المقت، فالشاعر الحقيقي لا يمقت، وهؤلاء المتشاعرون الذين يملأون الدنيا نكداً ونميمة وبغضاء ليسوا من الشعر، وروحه في شيء، وان تمكنوا من بعض أفانين النظم. اما الشاعر الكبير فلا يملك غير الحب، ولا يختار غير ان يفيض على من حوله. وفي الروايات ان ديك الجن ساعد ابا تمام في بداياته، ورثاه بعد مماته، ففي رواية منسوبة إلى عبد الله بن محمد بن عبد الملك الزبيدي انه قال: كنت جالساً عند ديك الجن، فدخل عليه حدث، فانشده شعراً من عمله، فأخرج ديك الجن من تحت مصلاه درجاً كبيراً فيه كثير من شعره، فسلمه إليه وقال: يا فتى تكسب بهذا، واستعن به على قولك، فلما خرج سألته عنه فقال: هذا فتى من أهل جاسم يذكر انه من طيء، يكنى ابا تمام واسمه حبيب بن اوس، وفيه ادب وذكاء وله قريحة وطبع، ثم قال الزبيدي: وقد عمر ديك الجن الى ان مات ابو تمام ورثاه.

ولعل صراع العقليتين بين المتعصب للطلل والحبيب الأول، وبين المستقبلي المتشوف للمنزل الأحدث والحبيب الجديد، بعض اشكال الاختلاف بين العقليات الصحراوية، والعقليات الزراعية المستقرة، فابن الصحراء في ترحاله المستمر لا بد له من وتد وأثفية وطلل يسند بهم ذاكرته واحداث حياته التي تتسرب بين اصابعه كالرمل الناعم، وابن البيئة النهرية عنده النهر يسند كل شيء، ويخصب كل جفاف بما في ذاك جفاف القلب والمخيلة.

والاثنان كما يقر أبو الفرج على مذهب الشاميين وهو مذهب كرسه بعد الاخطل ديك الجن والبحتري وابو تمام وشعراء سيف الدولة إلى ان جاءه المتنبي فجمع مذهب الصحراويين إلى مذهب الشاميين، فكان في الشعر العربي على مدار عصوره شيئاً عجبا. ولا تعجب من دوراني حول الحمى وتأجيل دخوله، ففعلاً لا أعرف لماذا اتلكأ في الحديث عن مأساة ديك الجن العاطفية معرجاً هنا ملتفتاً هناك مدققاً في تفاصيل المشهد كمدير مسرح لا يريد للستارة ان ترتفع عن المأساة الا بعد ان يكتمل كل شيء، ويقول الدم لمنتظريه: هيت لكم في مواسم تطهر الروح.

حسناً قصة واحدة عن لقاء ابي نواس بديك الجن ثم نجرد السيف من غمده لنصل الى عنق ورد، تلك الجارية النصرانية التي كانت ضحية مؤامرة محبوكة لعل شكسبير اطلع عليها وهو يحيك الانشوطة التي ستلتف حول عنق ديزدمونة قبل ان تهبط الوسادة بيد عطيل لتوسد الحب إلى جانب الموت في عش الغرام والدم والثنائيات المتلاحقة المتلاصقة التي لا تنفصم عراها وتتوزع دوما بين فرح وحزن، دموع، وابتسامات، وحب وموت.

* التوأم المتناقض

* وعن لقاء ديك حمص بديك بغداد تقول الروايات انه لما مر ابو نواس بحمص في طريقه إلى مصر لامتداح الخصيب وقف على نهر العاصي قبل ان يصل إلى ضفاف النيل، فاستخفى منه ديك الجن خوفاً من ان يستقل مكانته الشعرية، فقصد ابو نواس الدار وطرق باب ديك الجن، فخرجت الجارية لتقول: سيدي ليس هنا، فلم يقل لها ابو نواس ما قالته السيدة المغرر بها على لسان نزار حين رجعت لتعيد دراهم الاجهاض.. «سيده ألف هنا لكنه جبنا»، بل قال لها: قولي لسيدك أخرج، فقد فتنت أهل العراق بقولك:

موردة من كف ظبي كأنما تناولها من خده فأدارها ومن «أدارها» هذه نبت كل شعر متصوفة العجم، فسعدي وحافظ وسواهما احلى المطالع عندهم: «أدرها»، وبعد ان تدور تأتي تلك المعاني المشعة بالكمال الانساني والتي يظنها بعض من لا يعرف الرموز من اشعاعات كؤوس الطلى، وما هي من تلك الطينة والمذاق وان تشابهت الحروف والظروف:

بيا ساقي آن مي كه حال اورد كرامت فزايد كمال اورد وترجمة البيت وهو من غزليات حافظ الشيرازي للعربية:

إلي بكأس سقاه الدلال بكأس الكرامة كأس الكمال وقد سقت الحياة ديك الجن بكؤوس مختلفة، وحين تطلع وتدرس باستفاضة تفاصيل حياته المجنونة والكريمة ستدرك ان المسألة ليس الحبيب الأول ولا الحبيب الأخير، ولا المنزل القديم أو الجديد، انما هي تلك الجدلية الشيقة والدامعة بين الأحزان والأفراح في معادلة عرفها جميع الشعراء الكبار، واحدث من تمثلها من بني يعرب شاعر الدمعة والابتسامة جبران خليل جبران في كتاب «النبي» الذي كتبه بالانجليزية والترجمة «هنا» ببعض التصرف الذي يقتضيه المزاج المتفلسف:

يقول ناس ان الفرح أعظم من الحزن ويؤكد آخرون: كلا الحزن أعظم وعني اقول: ان الحزن لا ينفصم عن توأمه الفرح معاً يأتيان ويمكثان معاً احدهما يجالسك على المائدة والثاني في سريرك يغفو لقد رقص ديك الجن برشاقة بين قطبي الفرح والحزن، وكأبطال الأساطير سار إلى قدره الذي لا مفر منه مغمض العينين، فأجمل مصطلحات العربية العامية والفصحى تعبير «مقدر ومكتوب»، وفي الاسبوع المقبل نقرأ معا ـ ان سمحت الاقدار ـ تفاصيل جريمة قتل الحبيب التي ارتكبها ديك الجن عملياً قبل عطيل شكسبير بخمسة قرون، ففيها «حيثيات» وخيوط كثيرة توضح الأسباب التي دفعت شاعراً رهيفاً ومحباً للحياة إلى اغماد نصل سيفه في عنق من يحب، ومع سيرة الدم قد نكتشف ان خلف كل غيرة عمياء حباً مبصراً وعظيماً.