هل الثقافة العراقية ثقافة عنيفة؟

غاب عن ذهن الناقد المسرح، التشكيل، الموسيقى وكأنها لا دخل لها في صنع ثقافة الوطن!

TT

منذ صدوره قبل شهور وكتاب «ثقافة العنف في العراق» لمؤلفه الروائي العراقي سلام عبود يثير شهية الكتاب العراقيين، بوجه خاص، للتعليق عليه، وقد بدت أكثر تلك التعليقات متحاملة على الكتاب ومادته، وذلك أمر متوقع تماماً، حتى بالنسبة للمؤلف الذي يحاول جاهداً في مقدمة الكتاب سوق عدد من التبريرات لاختياره هذا الموضوع الحساس أو لاختياره نماذج من الأدب العراقي دون سواها كمادة للبحث.

وإننا إذ نعترف، بادئ ذي بدء، بأن مؤلف الكتاب قد بذل جهداً واضحاً، في الأرشيف بشكل خاص، وهو يصطدم بهذا الموضوع الإشكالي ـ الجدلي، والذي كان عنوانه لافتاً لجهة دخوله المباشر في المشكلة ـ مشكلة البحث، فإن ذلك لا يمنع من الدخول معه في مواجهة هادئة، غير عنيفة، هدفها الأساس قراءة محاولته تلك، ثم محاولة كشف النقاب عن المستور في قصة العنف التي صارت سمة توصم بها الثقافة العراقية كما وصمت بها الشخصية العراقية والسياسة العراقية من قبل.

إن كتاب «ثقافة العنف في العراق» الصادر حديثاً عن دار الجمل، لم يدخل في اشتباك حقيقي مع فروع الثقافة المعروفة، وظل أسيراً لحرفة مؤلفه الأصلية: القص، ولذا تجد الكتاب، بعدد صفحاته التي تجاوزت الـ300 صفحة من القطع المتوسط، يمضي قدماً في محاولة قراءة وتفكيك النتاج القصصي العراقي في سنوات مختلفة تتعدى سنوات حدود البحث، محاولاً، من أجل تعميم العنوان، الاشتباك، ولو باقتضاب ملحوظ، مع النتاج الشعري العراقي.

لقد غاب عن متن الكتاب أي حديث عن روافد الثقافة العراقية الأخرى: المسرح، التشكيل، الموسيقى والغناء، السينما والتلفزيون... حتى ليبدو للقارئ ان تلك الروافد لا دخل لها في صنع ثقافة الوطن، فيما تضمن الكتاب جملتين أو ثلاث جمل سريعة عن مسرحية «الصخرة» للروائي فؤاد التكرلي جاءت ضمن سياق الحديث عن الإبداع الروائي للتكرلي.

وهذا موضوع، ونقصد روافد الثقافة الوطنية، يستحق أن نتوقف عنده كثيراً ما دام الكتاب يطمح إلى دراسة وتغطية النتاج الثقافي العراقي في مرحلة زمنية معينة كان للحرب اثر بارز في بلورته والكشف عن مدلولاته الرمزية والفكرية والأخلاقية... ألا يكشف تركيز المؤلف على النتاج القصصي حصراً عيباً لا يمكن اغفاله بالنسبة لعنوان كبير مثل عنوان هذا الكتاب؟

إن الآداب والفنون تتجاور فيما بينها تجاوراً يصعب النيل منه بالنسبة لأي دارس محايد يتوخى بحث واقع ثقافي أو مجتمعي ما.. وذلك باختصار شديد، لأنها بمجملها تكشف عن واقع بانورامي للثقافة الوطنية... هكذا، فوت الكاتب على نفسه، وقرائه أيضاً، فرصة ملاحقة ظواهر سلبية بارزة أخرى غير رواية الحرب الرديئة، مثل: جداريات الرئيس العراقي والنصب والتماثيل التي أنجزها رسامون ونحاتون عراقيون بارزون، والمسرحيات التعبوية، وكذلك الاستهلاكية (التجارية)، التي اشترك في تقديمها نجوم المسرح العراقي، ثم حفنة الأفلام السينمائية التي قدمتها السينما العراقية في العشرين عاماً الماضية وهدفت إلى تمجيد شخصية الرئيس والعزف على وتر الدم، ثم الرداءة التي انسحقت في عجلتها الدراما التلفزيونية وبرامج التلفزيون المختلفة الأخرى، وأخيراً سؤال الموسيقى والغناء... فهل يجهل مؤلف الكتاب ذلك الأثر البليغ في سلبيته الذي صنعته أغاني الحرب وموسيقاها في نفوس العراقيين، وهو الذي مر على هذا الأثر من قبل في روايته «ذبابة القيامة».

إن تركيز الكتاب على ما اصطلح عليه برواية الحرب، وقصيدة الحرب، ثم تركيزه على اسمين أو ثلاثة أسماء من كتاب التخصصين يبدو في تفصيلاته وكأنه تحامل شخصي مع الأسف! نقول ذلك بغض النظر عن صحة أو لا صحة ما ورد في الكتاب بخصوص تلك الأسماء والأعمال.. وتظهر هذه الملاحظة مرة أخرى في تركيز المؤلف على مصدر دون عينه، عاداً إياه الوثيقة النهائية لسلامة النصوص المختارة الفكرية من عدمها بالنسبة لإعلام النظام، فهو كثير الرجوع إلى هذا المصدر، على أن هذا المصدر كتبه ناقد عراقي، يتفق أغلب الأدباء العراقيين على أنه ناقد من الدرجة العاشرة! بدليل أنهم لم يضمنوا آراءه كما ضمنوا آراء غيره من النقاد العراقيين في أبحاثهم ومقالاتهم ودراساتهم العديدة.

وفي المقابل، أهمل الكتاب نصوصاً عديدة صارت علامات على قصة الحرب أو قصيدة الحرب. قد يمضي المؤلف في تبريراته لذلك، كما في مقدمة الكتاب، فيقول: إن محيط البحث كان جيل الثمانينات، ولكن ذلك يتناقض مع مرور الكتاب المستمر على تجارب أخرى لكتاب من أجيال سابقة.

وفي حديث المؤلف عن النتاج القصصي والشعري المكتوب خارج العراق يلحظ بشكل جلي الابتسار في تلك المحاولة، فإذا ما نحينا تماماً النتاج الشعري، لأن المؤلف قد قام بتنحيته فعلاً عن البحث، فإننا سنكتشف حديثاً سريعاً عن النتاج القصصي والروائي العراقي الصادر خارج العراق، بالرغم من ظهور «كم» و«نوع» بارز من ذلك النتاج، وخاصة في سنوات التسعينات... لماذا يتجاهل المؤلف ذلك النتاج وهو يكتب صفحات معدودة عنه؟

كان من الممكن لحديث الكاتب عن «حرية الداخل» و«حرية الخارج» أن يعبر بقارئه، وخاصة عبر التطبيق، إلى فضاءات اكتشاف كبيرة، ولكنه لم يفعل ذلك دون سبب واضح، وبالرغم من وفرة النماذج التي تتيح له ذلك ودنوها منه، فتبرير عدم الحصول على مؤلفات «الداخل» للأسباب المعروفة ينتفي هنا جملة وتفصيلاً.

وبالرغم من كل هذه الملاحظات، فإن كتاب «ثقافة العنف في العراق» بحاجة إلى تعديل بسيط في العنوان لكي يمكننا تقبله على انه محاولة بحث مجتهدة في موضوعة رواية الحرب في العراق، لها ما لها وعليها ما عليها... ويتطلب ذلك اعادة النظر في ما كتبه المؤلف عن الشعر العراقي، لا لعدم صدقيته ولكن لضآلة دوره في البحث، وما أهمله، بدون سبب معلوم، من روافد الثقافة العراقية الأخرى.

* ثقافة العنف في العراق

* المؤلف: سلام عبود

* الناشر: دار الجمل

* شاعر عراقي مقيم في أديلايد