شخصيات سورية أمام خيارات الحب والعزلة والسلطة

السوري أسامة محمد مخرج «صندوق الدنيا» : لعبت مع نفسي لعبة خطيرة جدا لكني تماديت فيها كثيراً

TT

عبر مشاركة فيلم أسامة محمد «صندوق الدنيا» في تظاهرة «نظرة ما» الرسمية في مهرجان كان الخامس والخمسين دخلت سورية التي تراجع فيها الانتاج السينمائي كثيرا في السنوات الأخيرة، مهرجان كان السينمائي للمرة الأولى. فيلم أسامة محمد يدور حول موضوع السلطة في مكان منعزل ومغلق عام سبعة وستين وهو فيلم يكاد يكون خاليا من الأحداث لكنه حافل بعوالم من العواطف والمشاعر بدون أن تغلب عليه الانطباعات، وهو يقدم سينما غير معتادة، صعبة ولكن غنية وشاعرية تسعى لتحقيق القيمة الجمالية في الصورة فوق أي اعتبار. عن فيلم «صندوق الدنيا»، وتجربته السينمائية، كان هذا الحوار مع المخرج السوري:

* سؤال بديهي الذي يطرح نفسه في البداية: أين كان أسامة محمد خلال فترة الأربعة عشر عاما التي لم ينجز فيها أفلاما خاصة به؟

ـ حين يتهيأ المرء لمباراة مهمة في نهائيات كأس العالم فإنه يستعد لذلك بعملية تحمية، تسبق دخوله «الماتش». بصراحة وإخلاص أقول لك أن هناك مجموعة من العقد، التي يكتشفها الإنسان في نفسه، وأنا لا أتهرب منها. داخل نفس الإنسان هناك حوار بين الذكاء وبين العقل، بين الموهبة وبين التكوين النفسي للشخص.. عقدي هي التالية: أولا لعبت مع نفسي لعبة خطيرة جدا مقتضاها أن المهم أن تحفظ نفسك إذا كنت تريد الوصول إلى عمل شيء مهم، لكني تماديت جدا في هذه اللعبة وكان يمكن لمدتها أن تكون أقل من ذلك بكثير. لم أكن أريد عمل فيلم بناء على أي تنازل من أي نوع ممكن. في جانب ثان، كنت اعتبر أن مساعدة شخص آخر على صنع فيلم أمر جيد جدا وصحي، وإن كان من الصعب تكريره اليوم. كنا شبابا ومتأثرين كثيرا بغيفارا وكان يمكن لأي منا أن يقول أنه عبر هذه الطريقة فإن الأحلام التي يملكها إذا ستستمر عبر شخص آخر وهذا شيء عظيم. أنا خليط من هذه التصرفات والأحلام الفرسانية. قمت بمساعدة السينمائيين السوريين على إنجاز أفلامهم وأنا افتخر بأني كنت قادرا على ذلك، واليوم يمكن أن أكون غير قادر عليه.

هناك أمر آخر، له علاقة طبعا بوضع السينما في سورية، هذه السينما التي اقتصرت على إنتاج فيلم يتيم لفترة طويلة من الزمن وإن كان الوضع تحسن اليوم حيث يتم إنتاج أكثر من فيلمين سنويا. أنا جزء من هذه الماكينة ومن داخلها، والتي لا تسمح لك في اللحظة التي تكون فيها جاهزا أن تعمل فيلما. كنت جاهزا من حوالي خمس سنوات وكان النص موجودا وموافقا عليه.

* هل كان لا بد من تصوير عالم مقفل وبدائي مثل الذي صورته أنت للخروج بهذه النتيجة في الفيلم على مستوى قوة الصورة والشاعرية والجماليات؟

ـ أكيد لا. لم أكن محتاجا إلى عالم مقفل، لكن بشكل أو بآخر، فإن الفرد عبارة عن عالم مقفل خاصة حين يختار توجها معينا وكذلك الجماعة. يمكن لبلد بأكمله أن يختار العزلة وهذا شيء حاصل. في رأيي العالم المقفل هو مخبر هائل للكشف، لكشف الأضلاع والروح وما بداخلها. هذا كان خياري وبالتالي خيار الفيلم.

* أنت هنا تتحدث عن عزلة بلد، هل المقصود بهذا البلد سورية؟

ـ ربما. أنا لم أتعاط مع حسابات بهذا المعنى. العزلة في مكان واحد جميل والبحث عن الجمالي جزء من العمل الذي لا يوجد فيه شيء بشكل منفصل عن بعضه. أنا أحسست بأن العزلة ذات وجهين: التطلع للجمال فعلا وفي نفس الوقت هناك الشخص غير الواعي بهذا الجمال الذي يمكن أن يلغي العزلة وما تؤدي إليه.

* في الفيلم كثير من الإشارات والدلالات التي قد تدفع المشاهد إلى نوع من القراءة السياسية للفيلم. برأيك هل سيؤثر هذا النوع من القراءة على مستقبل الفيلم. نعرف أن فيلمك الأول «نجوم النهار» لم يعرض أبدا في سورية وتم عرضه في لبنان منذ نحو سنة فقط؟

ـ مستقبل هذا الفيلم وكل عمل فني أو أدبي له علاقة بحرية الرأي وهذا موضوع متحرك وليس جامدا. لا أقبل ولا أعتقد أن المزاج العام في سورية سيقبل بحجب حق الرأي في الفيلم، هذا بغض النظر عن المضمون. حق إبداء الرأي مقدس بالنسبة لي شخصيا. أنا غير مستعد أن أهدر عمري لأتكلم كلمتين في السياسة. السينما بالنسبة لي أهم بكثير من هذه المسألة. أنت تشارك في الكون حين يكون عندك أسئلة وجودية. هذا العمل في رأيي يحتوي على الكثير من الأسئلة الوجودية، على هذا النوع من الفراغ، والعزلة والخيارات التي وقعت فيها الشخصيات بين الحب والعنف والسلطة والهامشية، هذا كله من عندنا من سورية وهو يمثل بالنسبة لي شخصيا العالم الذي يقلقني ويطرح علي أسئلة العدالة والجمال التي أحاول أن أكون وفيا لها. هذا بالنسبة لي أهم من الكلام في السياسة. وهو أهم بكثير من أي عمل يتعاطى السياسة بصورة مباشرة، أو يصور الحياة اليومية الحقيقية.

* فيلمك نوع من إدانة وكشف لهذا النوع من السلطة؟

ـ أنا أجد أنه من المضيعة للوقت أن يعمل الإنسان في الفن أو الأدب أو في الشعر ليقول أني لست مع السلطة الراهنة. هذا حرام. وحرام ان تنقضي الحياة وهي عبارة عن سلطة مصائر ترهن نفسها لرغبات هذه السلطة فهذا شيء مؤلم ومحزن ومهزلة. هذا بالذات يستحق أن يقوله المرء وأن يقف عنده وهذا ما أقوله: إذا كان هذا الشيء يتقاطع في لحظة ما مع وضع راهن أو مع سلطة ما فأنا لا أتنصل من الأمر. لكن في نفس الوقت هذا له علاقة بالثقافة ولم أصنعه أنا بل صنعته الحياة. لكن ذلك ليس هدفي من عمل فيلم. الحياة طالما أنها في كل المظاهر، من مهرجان السينما إلى الدرجة الأولى والثانية في الطائرة، وكل الأشياء الأخرى تخضع للتراتبية والسلطة فهذا شيء فيه تشويه للماهية الإنسانية. وهو طالما أنه موجود ويمكن البحث فيه، يتقاطع مع دلالات سياسية لها علاقة بما يسمى السلطة الخارجية وما يتصل بها من خارجها. هذا التقاطع لا يستطيع أحد أن يلغيه من العمل الفني الذي يحكي عن الفرد بكل حقيقته وماهيته وبالمعنى الصوفي. في العمق، مع الفرد الإنساني، تلتقين بأماكن تشبه بعضها كثيرا وهي في دلالاتها، إذا ما جردت تنطبق على دلالات سياسية. هذا الشيء لا مهرب منه وأنا شخصيا لا أهرب.

* في ما يتعلق بالسيناريو الكلامي للفيلم، أرى أنه يمكن تقسيم الفيلم إلى جزأين: جزء تعتبر فيه العبارة مختصرة مختزلة وبسيطة بحضور أصوات وهمهمات ولهاث مواظب، وجزء هو الأخير يرتبط بعودة المقاتل من الحرب وفيه الكثير من الكلام وهو خطابي جدا لماذا عمدت إلى التفريق بين الجزأين. هل تتفق معي؟ ثم إنك عمدت إلى تسجيل الفترة التاريخية للفيلم في عام سبعة وستين قبل وفي أعقاب الهزيمة ونحن نرى في الفيلم صورة لعبد الناصر، لماذا اختيار هذه المرحلة؟

ـ الطريقة التي يصور فيها شخص يمشي في الشارع يمكن أن تبرزه كنقطة في الفراغ كما يمكن أن تبرزه كبيرا عملاقا مهيمنا على كل شيء. من الممكن الكلام عن تصوير تاريخي بمعنى الدلالات والمجازات. هناك شخص ذهب إلى الحرب وعاد منها وهناك شيء اسمه الهزيمة وشيء إسمه العلاقة بهذه الهزيمة. هناك علاقة الشخص مع المكان الذي خرج منه، مدى وجوده، مدى تحقيقه لذاته في المكان الذي عاد إليه، مدى حاجته للتجربة التي خاضها ليفرض نفسه كشخص أكثر أهمية مما كان عليه، هذا هو الأمر الذي اهتم فيه، الشخصية وليس الأحداث الأخرى.

هذه الشخصية أنا أراها ككل، ولأكن صريحا، أنا أفهم كلامك لكني غير متفق معه تماما. هناك شيء خطابي وشيء غير خطابي وشيء جنوني كليا. حين يروي يمكن أن يقال بأن كلامه خطابي. الخطاب يمكن أن يكون له مشروعيته حين يكون وراءه عواطف. وفي رأيي المحارب كشخصية، يملك عواطف صادقة، وألما صادقا وفي هذه الحالة يصبح الخطاب شخصيا. يختلف المشهد حين نراه وهو يرغم الأولاد على شرب الزيت، كما يختلف حين يبحث الرجل عن العواطف عند المرأة. الشخصية عبارة عن مجموع عدة لحظات وليس عن لحظة واحدة. المشهد الخطابي يشبه الفيلم كله وقد صورته في مشهدين طويلين كما في مقابلة. إذا عدنا إلى تكوين الفيلم، نجد أنه في البداية وفي نفس المكان الذي كان يجلس فيه الشخص المحارب وبلقطة عامة من نفس الموقع، تكون الجدة نائمة مع الطفلين فتحكي لهما حكايتها وتتكلم عن «العنف الذي تعرضنا له من الآخر». والسؤال هو، هل إن طريقة المحارب في الكلام هي طريقة «كان يا ما كان، يا مستمعي الكلام، منحكي لحكاية ولا منام ..». من هنا أنا أرى أن هذا المقطع داخل في بناء الفيلم وفي تكوينه تماما. الاثنان، الجدة والأب كانوا في البداية جالسين أمام الباب المقدس الموجود في هذا البيت. المحارب العائد يحكي ألمه، يحكي عن الحرب والموت والألم فجأة ينفتح عالم الفيلم في لحظة على العالم الخارجي من خلال هذا الشاهد العائد. عدا ذلك، الفيلم خال من الأحداث الخارجية.