جولة في مدينة عتيقة

TT

يعذبني قلق يزلزل أركاني.. ويحثني على الفرار.. اتخبط كسمكة صغيرة.. نُزعت من محيطها.. تضرب الأرض بعنف قبل أن تموت اختناقاً.. كعصفور صغير يرى العالم من وراء قفص زجاجي يضرب جسده بجدرانه ليحطمها أو يدمر نفسه.. تتأرجح روحي بين الذرى والأودية.. فأشعر بالدوار.. أغمض عيني، أفتح ذراعي، استنشق نفساً عميقاً.. وأترك نفسي لتهوي من شاهق.. أرمي نفسي في احضان أشدّ شوارعك يا شام ازدحاماً.. أغرق ضجيج روحي في ضجيج أسواقك وحاراتك بمن فيها وما فيها.. اسقط هواجسي كرات صغيرة تتدافعها جموع البشر المتحركة في كل اتجاه.

في سوق الحميدية.. أسير على غير هدى.. الأعمدة السوداء الأثرية الراسخة أمام المحلات تثبّت قلبي المرتجف.. الأصوات المكتومة البعيدة الرتيبة لدقّ البوظة تساير نبضي وتسلّمني لخدر منوم لذيذ.. فأوغل أكثر وأكثر في الغوص، وأعلو أكثر فأكثر في الطيران.

من الحميدية المتباهية بترميماتها وتوسيعاتها الحديثة أنسل إلى الحارات والأزقة.. تسرق عيني بين الحين والآخر أشياء ومعروضات لم أرها منذ سنين طوال واستغرب احتفاظ ذاكرتي بصور ومسميات لها.. نحن البشر مخلوقات شديدة الغرابة.. تركت قدماي تسيّراني.. وقلبي يهديني.. امتطيت حواسي عربة قديمة بحصانين ألهب بالسوط ظهريهما حينا فيجدان في السير وأشد اللجام لأكبح جماحهما حيناً آخر.

أدلف في أسواق صغيرة.. أسواق صغيرة لا شك أن لها أسماءها.. فكل مائة متر في تلك الأماكن لها اسم مختلف.. أترك أفكاري تنطلق بعيداً عن مساراتها الضيقة وأفلتها لتسبح بلا هدف.. تترادف الصور في عيني كما في شريط سينمائي، يقتحم تنافر المعروضات عيني اللاهية المنشغلة.. أبدأ بالنظر في داخلي. تدهشني.. تحثني على ترك ما أنا فيه لأجد لها مصنفا أضعها تحته. بائع الأقمشة إلى جوار بائع الحلويات.. بائع الكتب إلى جانب بائع العطور.. الكتب، وعناوينها المتناقضة تثير الدهشة. كلها معاً لا تجد غضاضة في أن تجتمع على عربة واحدة.. هل يحاول هذا التناقض أن يوصل رسالة ما؟!.. لافتة تحمل اسم مكتبة فوق محل يبيع الساعات والسندويش.. أمرّ من أمام بائع للعطور.. يا ساتر.. هل من الضروري أن تكون رائحة العطور بهذه البشاعة؟.. أهرول هرباً من رائحة العطور فتتلقفني رائحة الشاورما.. والمعجنات.. والفلافل.. والكعك.. والهريسة!. جزار على اليمين يضع على الشمال بسطة لبيع طاسات وأكياس وليف متنوعة للحمام.. ملابس مبتذلة للرقص الشرقي على تماثيل خشبية.. تلمع بدون جاذبية.. بالكاد منعت ابتسامة من الوصول إلى شفتي.

ما زالت بعض الأسر الشامية إذا تضمن جهاز عرائسها لباساً للرقص الشرقي تلبسها شهرزاد ما لشهريار ما، مرات قليلة قبل أن تبدل حالات الحمل والوضع شكل جسدها من غصن بان إلى كتل متراكمة من لحم وشحم لا شكل محدد لها.

أكاد اصطدم ببائع شراب التمر هندي حين انزاح من أمامي دون سابق إنذار هرم بشري لسيدة اتحدت في جسدها قبيلة من النساء.. وحين انشقت الأرض وابتلعتها فجأة، وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام عربة صغيرة كتب صاحبها دعوة مرتجلة على قطعة من الورق المقوى.. ما أغراني، عدا عن الحر وعطشي الشديد، هو ذكرى طعم الشراب الحلو البارد اللذيذ.. ولكن ليس كما عرفتها دائما.. بل كما عرفتها أول مرة ممزوجة بماء الورد والثلج وخلو البال وصفاء الطفولة.. قائمة المحظورات الطويلة أفلحت في كبح جماح رغبتي.

كدت أنحني لالتقط «كسار الزبادي»: زهرة نبتة دمشقية لا أعرف لها اسماً، تتطاير كراتها المشعرة في حارات دمشق كلها.. أظنني لم أرها لدهر كامل، وتاقت نفسي إلى احتضانها بين كفي لأمعن النظر فيها كما كنت أفعل في طفولتي. ما الذي ربط بين هذه الزهرة البالغة الضعف.. التي ترفعها نفخة هواء من طفل إلى الفضاء.. وبين كسر الزجاج؟.. حكم له مبرراته، ولا أشك أنها مبررات ظالمة.

نبهتني لافتة على جدار بأنني في حي العمارة.. مسجد السيدة نفيسة تكتظ حوله الحارات ببشر أتوا من كل حدب وصوب، أتوه بين حارات العمارة.. بعضها مفتوح الجانبين، وبعضها الآخر مفتوح من جانب واحد.. حارات سدْ كما نسميها في الشام.. حارات سكنية.. فرضت عليها حركة السياحة المحيطة بالمسجد أن تتحول إلى سوق، فخرجت من بعض بيوتها محال مصطنعة، ونبعت من الجدران الخارجية لبعض بيوتها الأخرى بسطات تبيع كل ما يخطر على بال.. من الملابس.. إلى أدوات المطبخ.. إلى العطور.. إلى المسابح.. إلى نباتات بلاستيكية وشمعية بألوان زاهية لا يصمد جمالها عند مقارنتها مع الخميسة، تلك الشلالات الخضراء خماسية الأوراق التي تمتد على جدران الحارات وتعرّش فوقها مخترعة لها أسقفاً سخية الظلال.. هذه الخميسة.. كانت صندوق مجوهراتي في طفولتي.. كنت أصنع من أغصانها اللينة عقوداً طويلة وأساور تتواطأ مع إيشاربات أمي الزاهية الألوان الملتفة حول جسدي الصغير لتصنع مني غجرية غريبة مضحكة.

فجأة، ودون مقدمات، وجدت نفسي أمام لوحة كتب عليها: المكتبة الظاهرية. المدرسة الظاهرية التي تحولت في ما بعد إلى دار الكتب الوطنية بتحريض من علماء دمشق وأمر من واليها العثماني المستنير مدحت باشا.. رأيت الباب موارباً فنازعتني نفسي إلى الدخول.. نزلت بضع درجات.. ورفعت رأسي.. قبة ومقرنصات وزخرفات رائعة.. دفعت الباب ودخلت.. وفي خطوة واحدة.. خرجت من عالم السوق والضجة والزحام، إلى عالم آخر في زمن آخر..

السكينة تحط بجناحيها على المكان، والشمس الحارقة بدت لي أكثر لطفاً وتواضعاً.. رواق من رخام يرتفع قوساه على ثلاثة أعمدة رخامية زهرية اللون.. درجتان حجريتان على جدار الرواق الأيمن توصلان إلى قاعة مغلقة تعتليها قبة مضلعة.. باب خشبي قديم فوقه لوحة حجرية منقوشة بكتابة عربية تشعرك بأهمية هذه القاعة وتميزها..

درج يؤدي إلى الطابق العلوي، باحة سماوية متوسطة الاتساع تتوسطها بحرة ماء تصنعها انحناءات صغيرة.. درج آخر يفضي إلى الأعلى.. وقاعات على جدران الباحة.. هذه هي مكتبة دمشق الوطنية، دار الكتب، المكتبة الظاهرية.

فتحت باب إحدى القاعات ودخلت.. ضربت وجهي رائحة قوية للرطوبة والورق والخشب.. لحظة قصيرة تم فيها التعارف بسرعة.. ليست الرائحة بغريبة علي، هي فقط أقوى من ذكراها في بالي.. رائحة مدرستي الابتدائية العتيقة.. بأجوائها المهدهدة والباعثة على الإحساس بالخوف ورهبة المغامرة في آن واحد.. فارت الذكرى في قلبي بركان حنين.. فخبأتها في جيوب قلبي إلى فرصة مواتية انفرد فيها بمحتوياتها وأقلبها على مهل.

جلست قليلا على طرف البحرة.. عيناي لا تفارقان باب القاعة على يمين الرواق.. تميزها شدني إليها كمأخوذة.. فتح لي موظف باب القاعة بتفاهم ضمني صامت تجاوزنا فيه مقولات الروتين السخيفة، فتح لي، وادخلني، وأقفل الباب، وخرج..

قاعة فسيحة يتصدرها محراب رخامي بألوان سوداء وبيضاء وعسلية.. وجدران عالية تتوجها قبة بالغة الارتفاع.. نقوش ورسوم باللون الذهبي والأخضر على الجدران لا أذكر أنني رأيت في مثل جمالها الصادم الباعث على الخشوع.. على الأرض الرخامية امتد حجران رخاميان طويلان بشكل عرضي، لهما شكل موشور استطالت قاعدته.. تحيط بهما أعمدة خشبية قصيرة تمتد بينها حبال متهالكة تعبا.. وقبل أن استوعب المكان بعيني.. وفي لحظة.. صرت في حضرة الملك الظاهر بيبرس وولده الملك السعيد.

أحسست لوقت لا أدري كم طال، بشلل أقعدني عن الحركة.. ارتبكت.. وكأنني اقتحمت قاعة عرش ملك بدون استئذان.. وكأنه حاضر فعلا.. يرمقني بعينين متسائلتين، فلا أجد ما أقول.. شعرت بأنني استدعيت للمثول بين يديه وأنا لا أعرف أصول التصرف السليم في حضرته.. حاولت لملمة ما تحتويه ذاكرتي من تاريخ الظاهر بيبرس.. خجلت من قصور معرفتي به.. فتركت الصمت رسولاً يشرح حالي.. رمى قلبي على الملك السلام.. ووعده بعودة ثانية أزوره فيها مع من أحب زيارة أخرى.. آتيه فيها محملة بما يليق بلقاء ملك عظيم مثله.

بقيت شاخصة إلى القبرين أمامي لبضع ثوان.. تباطأ فيها وجيب قلبي.. واختفى قلقي وضجري وضجيج روحي.. هدأ بكاء الطفلة في داخلي.. وشاع إحساس بالأمن والسلام في كل أنحائي.

استدرت خارجة بهدوء أعتذر به عن تطفلي وقلة لياقتي.. وحين وصلت الباب.. استدركت.. استدرت.. وشرعت في قراءة الفاتحة.

* كاتبة سورية