عقدة في حبل مشدود

TT

«مثل عقدة في حبل مشدود، يتراءى لي الأمر الآن».

يقول بيتر من دون أن ينظر نحوي، وكنا جالسين على مقعد خشبيّ أمام حقل يمتد على نحو يتجاوز حدود النظر.

«عقدة لا سبيل إلى الفكاك منها!»، يُضيف بيتر بعد برهة صمت، «فهي تلتف على عام بأكمله من حياتي. غير أنها بالنسبة لي، بالنسبة لما أذكر وأعي، فإنها لا تنطوي إلاّ على بضع ساعات من النوم».

وقال إنه كان قد نهض فجأة، ساعة أن انتشر غبش المساء، وظن أن العمل كان قد أرهقه، فاستلقى على الصوفا المحاذية وغفا.

«غير أن وجه المرأة أطل عليّ من خلف النافذة الزجاجية، كان وجهاً أليفاً وودوداً».

وقال إن من الطبيعي أن يكون ذاك الوجه أليفاً وودوداً. فلقد عرف صاحبة هذا الوجه لمدة عام بأكمله.

«غير أن الأمر» عاد يقول مؤكداً، «لم يكن بالنسبة لي سوى ساعات قليلة من النوم العميق. وحسبت ان الألفة والمودة اللتين أظهرتهما المرأة، إنما هما من قبيل الإشفاق تجاه رجل هدّه التعب، فاستلقى على الصوفا وغفا لساعات قليلة».

وقال إنه كان قد جاء إلى بيت هذه السيدة لكي يساعدها على تثبيت أرفف كتب على الجدار.

«وبينما وقفت في وسط الغرفة تراقبني، أقبلت على العمل بهمة لا مثيل لها. أردت أن أبرهن لها بأنني شخص مجدّ ومخلص. ولما فرغت كان التعب قد استولى عليّ، فنمت. وكنت ظننت أنني قد نمت لساعات قليلة، غير أن من الواضح لي الآن أنني قد مكثت لديها عاماً بأكمله».

قال وانحنى ملتقطاً قشة، وجعل يعبث بها.

«إنك لا يمكن أن تكتشف التحوّل الذي يحدث في غضون عام واحد، إلاّ إذا ما أدركت بأن كل ذلك الوقت قد مرّ بالفعل»..

وصمت، وكان ينظر إليّ الآن، وبدا لي وكأنه أراد بهذه الكلمات أن ينهي الحكاية. غير أنه استأنف يقص عليّ ما جرى بعد ذلك.

«نهضت على عجل، وكان وجه المرأة الودود ما انفك يطل عليّ من خلال النافذة الزجاجية. لوّحت لها بخجل وشرعت انتعل حذائي».

وقال إنه سارع إلى الرحيل، وإنه لم يتمكن من اكتشاف التحوّل الذي طرأ عليه، أو على تلك المرأة أو حتى على الأرفف التي ثبتها على الجدران ـ وكانت الآن مكتظة بالكتب ـ إلاّ حينما أبصر والده وهو في طريقه إلى البيت.

«رأيت والدي سائراً بمحاذاة صديق له لم يكن قد رآه منذ تقاعد عن العمل قبل أعوام عديدة.. كان في طريقة سيره من التلقائية ما جعلني أوقن على الفور أن أمراً عظيماً وقع.. بدا في مشيته حرية من تخفف أخيراً من الاعتبارات والأعباء المعهودة».

وقال إن والده حينما رآه لم يُظهر دهشة كبيرة، كان في وجهه محض نظرة عتاب متوارية، نظرة عتاب لرجل سلّم بأمر القدر. «لم يسألني أين اختفيت، أين كنت طوال هذا العام؟ اكتفى بأن هزّ رأسه وسألني: كيف حالك؟ نعم! كيف حالك فقط!».

وقال إن والده بدا وكأنه قد سلّم بأن اختفاءه المزعوم كان فعلاً طوعياً، وأنه أراد أن يمضي في سبيله ويستقل عنهما، هو ووالدته، من دون أن يترك خبراً.

«واخبرني والدي أن أمي في المستشفى». واستأنف الكلام، وبدا كمن يكلم نفسه، «واخبرني أنها ما برحت هناك منذ اختفائي المفاجئ، أو لربما بعد ذلك بوقت قصير، وبعدما فقدا الأمل بعودتي وسلما بأن اختفائي إنما كان سبيلي في الاستقلال عنهما. لم تستطع تحمّل الصدمة، فانهارت».

وقال إن والدته كانت شديدة التعلق به، بل انها كانت متملكة الطبيعة تجاهه. وانها كلما كانت تبصره عازماً على الخروج من البيت، كانت تمطره بوابل من الأسئلة. لم تكن تكتفي باستجوابه حول مقصد خروجه فحسب، إنما الوقت الذي سيؤوب فيه.. وقال إن الأمر كان خارج طوعه، إلاّ أنه أحسّ بالذنب لما تسبب لها من ألم. «وكيف كان في وسعي أن أشرح لها بأن اختفائي كان شيئاً فوق إرادتي؟ كيف أقنعها بأنني إنما سقطت في غيبوبة لمدة عام كامل؟».

راح يتساءل وكأنما متحدثاً إلى نفسه، ثم نظر إليّ، وقال: «لقد أفلح والدي بالتغلب على حقيقة اختفائي، لم يتطلب منه الأمر سوى بضعة أسابيع، أما والدتي، فظلت تردد اسمي هاذية!».

قال بأنه حاول زيارتها على الفور، إلا أن والده نهاه عن الأمر. «قال والدي ان من الأفضل أن ألبث بعيداً عنها إلى أن تتعافى!». وكان والده قد أخبره أن والدته في سبيل التعافي ومغادرة المستشفى.

«لكنها لم تتعاف!» قال بيتر فجأة.

وأنظر إليه مستفسراً، فلا يقول شيئاً، يرنو إلى الحقل الممتد أمام ناظرينا صامتاً، ويلبث صامتاً.

وأردت أن أسأله ما الذي جرى لها، غير أنني أحجمت، وجعلت أراقبه، ولم يتكلم ثانية إلاّ بعدما نهض وسار إلى الجهة الأخرى، ووقف في مواجهتي.

صار في وسعي الآن أن أراه بحلته السوداء التامة. برباط العنق الأسود وقد تدلى فوق قميصه الأبيض، وحسبت أنه ذاهب إلى جنازة أو لربما قادم منها، واستولى عليّ إحساس بالجزع مفاجئ، ورحت أحدق فيه متسائلاً:

«لقد رحلت والدتي اليوم!».

قال، وأبصرته هناك، على الطرف الآخر، شبحاً اسود، وخلفه امتد الحقل الأخضر امتداداً لا نهائياً.