العودة إلى دفاتر الأستاذ

د. غازي القصيبي

TT

قبل ان نُولد، نحن شعراء الخليج، وُلدنا على كتفيه. وُلدنا مقاطع وكلمات على أوراقه. كان يحملنا ويسير بنا حيث يذهب. كان يتكلّم شِعراً. وكان الخليج يتكلّم نثراً. تقولون «كان شاعر الخليج، إذن؟». أقول «لا، كان شِعر الخليج».

وعندما وُلدنا وجدناه أمامنا. قامة سامقة كنخلة أبيّة من الخليج. ابتسامة خيّرة كنجمة تزين ليالي الخليج. عينان صافيتان كموجتين نقيتين من الخليج. ذهن متّقد كشمس ساطعة في ظهيرة الخليج. ووقفنا، أطفالاً مبهورين نتأمل القامة السامقة. والابتسامة الخيّرة. والعينين الصافيتين. والشمس الساطعة. ونردّد بوجل ورهبة:

ـ جاء الأستاذ!.

ـ ذهب الأستاذ!.

أيامها لم يكن في الخليج غير استاذ واحد. قبل أن تنفرط عقود من «الدكاترة» و«المتدكترين»! وادركتنا المراهقة. وحرفة الشعر. وبدأنا نخربش. ونحفظ. وننشد. أسرعنا إلى دواوينه. تجوّلنا بين المسرحيات والأساطير. وعدنا مذعورين قليلاً. مهمومين كثيراً. لم نكد أيامها نفهم ما نقرأ. واتعبتنا قراءة ما لا نفهم. كُنّا نبحث في كتب الأستاذ عن بيت نحفظه فنجد ملحمة. فنذعر قليلاً. كنا نريد شطراً نرويه. فنجد اقصوصة. فنُذعر قليلاً. ونعود مهمومين. نتأمّل القامة، والابتسامة، والعينين، والشمس الساطعة، ونسأل أنفسنا بحسرة:

ـ متى نستطيع ان نفهم شعر الأستاذ؟

ويثور بنا الإحباط، فنسأل:

ـ لم لا يكتب الأستاذ الذي نحبّه شعراً نحبّه؟

وكبرنا قليلاً. وامتلأت الدفاتر بخربشاتنا. وامتلأت عقولنا بأبيات لا تُعدّ. وقصائد لا تُحصى. وشعراء كثر. وكبرنا قليلاً وتفرّقنا شيعاً وقبائل ومنابر.

منا من عاد إلى عباءة الحطيئة. يلبسها. ويعلن انه لا شعر إلاّ الشعر الجاهلي. أو ما اشبهه. أو ما اشتبه به. ونظرنا طويلاً في أوراق الأستاذ. فلم نعثر على البغية.

قلنا:

ـ هذا شعر ضلَّ طريقه إلى الجزالة.

وقلنا:

ـ لم لا يكتب الأستاذ كما يكتب الحطيئة.

والأستاذ يستمع. ويصمت. ويبتسم! ومِنّا من قفز على مركبة «أبولو». تجوّلنا في اطلال ناجي. سامرنا الملاح التائه. وصفقنا «لمُصطفى» جبران. ونظرنا في أوراق الأستاذ فأبصرنا بيتاً هنا يروق. وبيتاً هناك يجذب. ومضات هنا وهناك، لا أكثر.

قلنا:

ـ هذا شعر ضلَّ طريقه إلى الرومانسية.

وقلنا:

لم لا يكتب الأستاذ شعراً كشعر المهندس؟

والأستاذ يستمع. ويصمت. ويبتسم! ومِنّا من أشهر شعره خنجراً في صدر الواقع. يصف الواقع، ليدين الواقع، ليغيّر الواقع. آمنا أنه لا شعر إلاّ من عرق الكدح. ولعرق الكدح. احتقرنا الفنّ المسخّر لتسلية طبقة أو طبقات: وضحكنا مع الزعيم الذي رأى ديوان غزل فقال باحتقار:

ـ لماذا لم يكتف الشاعر بنسختين، واحدة له، والأخرى لحبيبته؟

وقلّبنا شعر الأستاذ. نبحث عن الصرخات الغاضبة من ظلم الإنسان للإنسان. عن الشعارات المغلّفة بالموسيقى. بحثنا عن الشعر/ العاصفة. الشعر/ الطليعة. الشعر/ التغيير. فلم نجد غير حكايات وأساطير.

قلنا:

ـ هذا شعر ضلَّ طريقه إلى الواقعية.

وقلنا:

ـ لم لا يكتب الأستاذ شعراً كشعر البيّاتي؟

والأستاذ يستمع. ويصمت. ويبتسم! ومِنّا من فُتِن باللغة حتى نسيّ ما عداها. فُتنّا باللغة. نعبثُ بها. ونثوّرها، ونفجّرها. ونعيد تشكيلها. نخترع لكل كلمة معنى جديداً. ونبحثُ عن كلمة جديدة لكل معنى. ونظرنا في شعر الأستاذ. فوجدنا الكلمات التي نعرف بالمعاني التي نعهد. لم نجد صحواً يمطر. ولا شمساً تغيم. ولا ظلاماً يشرق. ولا ثلجاً يحرق.

قلنا:

ـ هذا شعر ضلَّ طريقه إلى الحداثة.

وقلنا:

ـ لم لا يكتب الأستاذ كما يكتب أدونيس؟

والأستاذ يستمع. ويصمت ويبتسم! قُلنا هذا كلّه. وقلنا أكثر منه. قلناه في المقالات والمحاضرات والندوات. وقلناه في الأسمار. والأستاذ يرقب من بعيد ـ تسعده الكلمة الحانية ـ وكانت الكلمات الحانية قليلة. وتشقيه الكلمة القاسية وكانت الكلمات القاسية تنهمر. كان يرقبنا من بعيد، وعجبه لا ينتهي من أولئك الذين يطلّون على العالم من ثقب إبرة. ويظنون انهم رأوا ملكوت الأفلاك. وعجبه لا ينتهي من أولئك الذين لا يملكون سوى حقيقة واحدة. تلك التي اطبقوا عليها أصابعهم. أو جيوبهم. أو شهاداتهم العلمية.

وعجبنا نحن لا ينتهي من الأستاذ. كنا نمور ونضطرب في عالم يمور ويضطرب. والأستاذ معتزل. يكتب عن أقاصيص الأندلس والهند. ويأتي بنظريات غريبة في نسب المتنبي. ويتركنا، بمفردنا، في الأعاصير لا ينقدنا ولا ينصحنا. ولا يكتب كما نكتب. والتمسنا العذر للأستاذ. ألم يقل هو في مقدمة ديوان «الذكرى» إنه «ليس من أرباب هذا الفن»؟ قلنا: فلندعه لدراساته النقدية. ومعادلاته الرياضية. وحساباته الفلكية. وأشعاره في لغات لا نحسنها. قُلنا: فلندعه في ديوان المتنبي الذي دخله ولم يخرج منه. قررنا ان نغزو الحياة بأفكارنا. وأشعارنا. وإصرارنا. وان نترك الأستاذ في صومعته. قُلنا: لقد وُلِد قبل زماننا. فتكلم بلسان غير لساننا.

وانطلقنا مع رياح الحياة. نغنّي ونصرخ ونكتب. مِنّا من قاده الطموح إلى المثالية. ومِنّا من قادته المثالية إلى الطموح. مِنّا من خرَّ تحت برق المطامع. ومِنّا من خرَّ طمعاً في الوصول إلى البرق. مِنّا من امتطى مبادئه. ومِنّا من امتطته مبادئه. مِنّا من حاول صنع التاريخ. ومِنّا من اكتفى بدراسة التاريخ. مِنّا من قرأ الكتب. ومِنّا من كتبها. وعدنا جميعاً مُهشمين. محطّمي الأجنحة. بقلوب من قش. وضمائر من مطاط. نجتر كلماتنا المهترئة. ونطلق كلمات جديدة كالفقاعات. نُسمّي الشاعر «مُبدعاً». والقارئ «متلقياً». والمشكلة «إشكالية». والاتجاه «توجُهاً».

والحكمة «رؤيا كونية». والعبث «وجودية». وتشريح النص «بنيوية». والصراع «جدلية». نتأبط اطروحات ضخمة.. ورسائل منتفخة. حصيلتنا كلمات لا تنضب. ومقابلات صحفية لا تنتهي. تحوّلنا من شعراء إلى وعّاظ. وعظنا الجمهور والنقاد والقراء والسُلطة. ووعظنا أنفسنا.

والتقينا على منعطف الكهولة. والشعرات البيض تبرق في الرؤوس والأضلاع. نوشك ان نعترف أننا اضعنا العمر الغالي على مصطلحات رخيصة. نوشك ان نعترف اننا قلّدنا مُجدّدين ما لبثوا ان قلّدوا. واتبعنا واقعيين انقلبوا إلى صوفيين. نوشك ان نعترف ان الشعر شعر بجوهره. لا بصفة تهبط عليه. أو اطار يضمّه. أو ناقد يحتضنه. نوشك ان نعترف أننا قصّرنا في حق الأستاذ. وفي حق شعره. نوشك. ولا نعترف! ونعود إلى دفاتر الأستاذ القديمة. نُقلّبها. ونُعيد قراءتها. ونعثر فيها على شعر كثير. ونفرح بالاكتشاف. ونهز رؤوسنا طرباً ثم نهزها عجباً.

عاشق حوّاء/ الأنثى مِنّا يكتشف ان الأستاذ غنّى حوّاء/ الأنثى قبله بعشرات السنين:

* انظرْ إلى وجنتيها.. هل ترى شفقاً ـ يلوح من شعرها في وسط ظلماء؟

* انظرْ إلى ناظريها.. هل ترى ألقاً ـ كأنّه صادر عن كوكب ناء

* ما في الطبيعة من حسن.. فمنعكس ـ من صدرها البض في عينيك... يا رائي!

* وأطيب الطيب ما في الخلد من زهر ـ وإنما غرستها كف حوّاءِ

*ويكتشف الأب الشاعر مِنّا شعر الأستاذ في حوّاء/ الطفلة:

* وأقبلتُ أنظر في المهد هِنداً ـ ومن دونه أمّها تنتظرْ

* فما هزّها من معاني الخلود ـ كبرعمها في الهوى يُثغّرْ

* نغم من طرب كالغزال ـ وكالطير في خفة ما تقرْ

* كأنّ يديها ـ وما همّتا ـ بشيء ـ تحوشان بعض الأكرْ

* أو انّ على قدميها يداً ـ تدغدغ، فهي تزيحُ الأثرْ

* وتضحك.. يا مَنْ أحس الورود ـ على ثغره هامات بسر

* ما جاوز الضحك همساً.. بلى ـ صداه يرنُّ كجس الوترْ

* وتبكي... فاشبهها بالزهور ـ إذا المزن خضلها بالدُرر

* وفي مقلتيها تخالُ السماء ـ بكامل أنجمها تزدهرْ

* واكتشف الشاعر العاشق مِنّا شعر الأستاذ في حوّاء/ المعشوقة:

* لا تميلي بناظريك دلالاً ـ أمهليني تنفُّسَ الصُعدَاءِ

* دُرّةٌ أنتِ ـ يا لحُسنكِ ـ في جيد ـ الليالي الحسان ذاتُ بهاءِ

* وَردةٌ أنتِ ـ يا لطُهركِ ـ رفّتْ ـ حُمرةٌ في خميلة الشعراء

* نجمةٌ أنتِ ـ يا للحظكِ ـ إذ ـ يعلنُ معنى الحقيقةِ الغرّاءِ

* حيّةٌ أنتِ ـ يا لسحركِ ـ في ـ الإغراءِ إذ تنهدين باستحياء

* اعذريني ـ اذا تلمّستُ ـ قلبي ـ بين تلك الضفائر السوداءِ

* عُدنا إلى دفاتر الأستاذ القديمة. وثورة الحجارة تصفع العالم. وتحوّل شعرنا كله سجعاً يتمشى مع «حجارة». و«طهارة». و«بكارة». عدنا إلى دفاتر الأستاذ. ففوجئنا بفتاة من فتيات ثورة الحجارة تقفز من الصفحات صارخة:

* فأجابت دعدُ: كلا... لم يضعْ مِنّا حبيبي

* هي ذي أعرافه ما برحت تزكو بطيب ـ

* وطنُ الزيتونِ.. والتين.. وأجرانِ الزبيبِ

* وطنُ الناي، وقلبين، وألحانِ الغروبِ

* وطن الورد، ألا تعشقه؟!، والعندليبِ

* إن تكن جُميزة، وارفة، عادت بحوبِ

* فلها في كلُ وادٍ.. أخواتٌ تحتفي بي

* فرعها نام.. وللجدول صوتٌ من قريبِ

* وإذا كانت شياهي.. مسها نارٌ الحروبِ

* ما عنى ذلك ان البؤس باقٍ من نصيبي

* سترى الرُعيان يأتون بها عند المغيبِ

* لا تقل نتركه نهباً إلى كل غريبِ

* وطني.. لو فيه شاةٌ.. ما أخليها لِذيبِ

* نهز رؤوسنا عجباً. كيف اصبح الأستاذ من شعراء ثورة الحجارة؟ ثم نتسلق رفوف الغبار في المكتبة. نبحث في الدفاتر القديمة القديمة. نجد مسرحية «بين الدولتين». ونجد محورها بطلاً عربياً مأساوياً وحيداً. يقف أمام هجمة شعوبية ضارية. نجد نصر بن سيار يقول:

* أيزحف الفرسُ على حربنا ـ ثم نُولي الفُرسَ أدبارا؟

* ويتخذ موقفه:

* فليس لي إلاّ لقاء العدا ـ وما لهم عندي غير الكِفاحْ

* فإن أُصبْ.. فقد بذلتُ الذي ـ يعذرُ فيه طالب للنجاحْ

* وبيننا.. وبينهم.. ليلةٌ ـ سيحسر الغاية عنها الصباحْ

* نهز رؤوسنا عجباً.. ونتساءل: عن أية هجمة شعوبية يتحدّث الأستاذ؟ تلك التي طواها الماضي؟ أم هذه التي يتفجر بها الحاضر؟ أم تلك التي ينوء بها رحم الغد؟

ونعثر على دفتر قديم آخر. يضم مسرحية اسمها «وا معتصماه». ونذكر انا مثلّنا أدوارها طلبة صغاراً. في عصور ما قبل التاريخ الالكتروني. قبل ان تهبط على الصغار «الستيريوهات» و«الفيديوهات» وبقية الآهات والعاهات.

نجد في المسرحية وصف الأسيرة العربية:

* ورب سيدةٍ ضاق السبيل بها ـ فلو تعثر ادمى خدّها الخجلُ

* رمى بها العلج فوق الأرض حاسرة ـ والوجه منعفرٌ.. والشعر منسدلُ

* اذا دعتك ـ وأولى من تلوذ به ـ في اللّه أنت ـ تولّى لطمها الرجلُ

* ونتساءل: أيصف الأستاذ أسيرة عربية أم الأمّة العربية؟ أليست المسرحية نداء مبطناً لمعتصم جديد؟ لمعتصم لم يجئ. للأسف. ولم يُنشد:

* لأغزونهم بالبُلقِ ضامرة ـ في جحفل لجب تشقى به الصُلب

* نجد بين الأوراق قصة اسمها «قبلتان» تدور حوادثها في الفردوس المفقود الأول. ومرة أخرى، نجد بطلاً عربياً مأساوياً يقف، بمفرده، أمام هجمة صليبية ضارية:

* وقف الموتُ يرى في ساحة الحرب حصادَهْ

* فمشينا مشية الليث.. ولم نعدم فؤادهْ

* بعضنا يقتحم الهول.. ولا يشكو انفرادهْ

* بعضنا في حومة الميدان يستقصي جوادَهْ

* قبح الشرك! وما أبداه من حُسن القيادهْ

* فإذا الأسر شقاء.. وإذا القتل سعادهْ

* هل كان الأستاذ يصف موقعة في الأندلس؟ أم كان يتنبأ بحرب الأيام الستة وما سبقها وما تلاها من حروب؟

لا نزال نقول اليوم:

* قبح الشرك! وما أبداه من حُسن القيادهْ

* شيئاً فشيئاً، اكتشفنا العروبة في شعر الأستاذ. حضارة تعطي. وتاريخاً يُستلهم. وغداً يحفز. وأدركنا سِراً من أسرار شغف الأستاذ بالمتنبي. لقد احبّه لعروبته بقدر ما احبّه لشعره. وأدركنا سِراً آخر. ألم يكن الأستاذ، في أعمق اعماقه، يتصور نفسه متنبئاً جديداً، صرخة في البرية، لا يحس بها النيام؟

ووجدنا عروبة الأستاذ متسامحة لا تضيق، ولا تنغلق، ولا تكره. تنطلق من قلب الجزيرة، حيث انشدت «اليتيمة». وترفرف على نخيل البحرين. وتجوب قصور الامبراطور اكبر. وتزور نيسابور. وتناجي الخيّام. الذي رحل عن نيسابور وربيعها:

* عاد الربيعُ لنيسابور.. ثانية ـ وقد تبدَّل زاهي أمسها بغدِ

* فكان في الموكب التالي.. كسابقه ـ يمشي مع الحُسن مُختالاً يداً بيدِ

* كم دأب قلب هزار في ترنمه ـ حتى تضوع هذا الزهر وهو ندي

* عاد الربيع.. وقد حف الحسان به ـ إلاّ الذي كان يهوى الحُسن.. لم يُعدِ

* سلْ الوُرود وقد وارت بكُلتها ـ ضريحه... لِمَ لَمْ تُكثر من العددِ

* هُناك حيثُ قديماً طاب محفلهم ـ حل الندامى على أنماطها الجُدُدِ

* عاد الربيع ـ فلا ردّوا تحيته ـ إلاّ بأحسن منها ـ دائم الأبدِ

* بشعلةٍ في يديها روح شاعرهم ـ مثل الفراش.. حواليها مع الحَشَد

* حتى اذا تم دورُ الكأس بينهم ـ مالت إلى القبر بالباقي.. ولم تكدِ

* فرددت قوله والعود في قلق ـ تهتز أوتاره من صوتها الغرِد

* واضيعت الكأس يوماً ان عثرتُ بها ـ على رفاتي.. فلم أنعم برؤياها

*اكتشفنا الإنسان في كل مكان من دفاتر الأستاذ. واكتشفنا خوف الأستاذ على الإنسان. وأصابتنا القشعريرة ونحن نقرأ عن آخر لحظات البشرية. قبل آخر حروبها الذرية:

* كم مقلة شهدت في الأفقِ ومضتها ـ كالبرقِ.. عادت تشكي النور ينتحرُ

* كم ضاحكٍ كان يروي نكتة جمّدت ـ كالثلج ضحكته. والسّن لا أثرُ!

* وكُنتُ في روضتي أسقي أزاهرها ـ فما رأيت سوى الأشجار تستعرُ

* ألفيت نفسي أُلقي بينها كرة ـ حتى اصطدمت بشيء.. لستُ أدكرُ

* كأنّ زلزلة مدّت أصابعها ـ من تحت كل بناء فهو يندثرُ

* وما أفقتُ لما حولي فأنكره ـ كما افقت لآلام هي الإبرُ

* قد كان حلقي كالمسعور من ظمأ ـ بلى! وصدري كما لو رضّه حجرُ

* فظلت أذرع ظلي وهو مضطرب ـ في مثل جبانة اجداثها نثرُ

* حتى احتوى التيه ليلٌ ما لأنجمه ـ معنى.. سوى انها ترثي لمن تاها

* ايستطيع الإنسان ان يفلت من ليل التيه الرهيب هذا؟ علم هذا عند ربي.

وجدنا الإنسان مختبئاً خلف كل ورقة من كل دفتر من دفاتر الأستاذ. في «التمثال الحي» و«قلب راقصة». و«انسانه الحي» و«حديث دمية». و«شمعة تحترق». وإنسان الأستاذ مأساوي دائما ـ شأن الإنسان. وأدركنا ان الطبيعة لم تكن سوى ستارٍ رقيق أسدله الأستاذ على مأساوية الإنسان. حتى لا تجرح فينا بقايا الأمل، وفلول الإيمان.

قُلنا: لمَ حاول الأستاذ أن يخفي عنا حداثته ومعاصرته. وحضوره. سألنا أنفسنا. ولم نسأله. لأن نعرف جوابه.

ـ يا بُنيّ! وما الحداثة؟ وما المعاصرة؟ وما الحضور؟ ويصمت. ويبتسم.

نتحلق، إذن، حول الأستاذ. نُقبل جبينه. نعطيه دفاترنا. نطلب منه أن يصحح أخطاءنا الإملائية. أن يضع درجات لخربشاتنا. ان يأخذنا في جولته مع عرائسه. نستنشده ونصغي اليه. ونطلب المزيد. ثم نقول له ما قاله هو في القبرة:

* أقبرة! هل أنتِ في الجو قطعة ـ من الحسن مالت باللحون مسيلا

* تُغالين في الألحان حتى اذا انتشت ـ بها روحك الولهى.. خفّت قليلا

* كما تخفت الأوتار بعد رنينها ـ ويبقى صداها في النفوس طويلا

* كتبت بمناسبة تكريم الشاعر الكبير الفقيد ابراهيم العريض عند بلوغه الثمانين من عمره