أشواق معتقة وهوادج خاوية في ليالي الأنس بالقيروان

مدينة عقبة بن نافع ولد فيها موشح «يا ليل الصب...» وعاشت أجمل أيامها قبل ان يخربها «فرسان» تغريبة بني هلال

TT

سلام عليك، سيدي عقبة يا قتيل بسكرة، وباني القيروان، يا من خاطبت الوحش، وأمرته، فاستجاب، وسرت برمحك خلف رؤيا حددت لمن بعدك مكان الصواب والمحراب.

من أجلك جئنا القيروان يا سيد الفرسان فهذا زمن هجرته الفروسية، ولم يعد أهله ينذرون قبل الطعنة، ولا يغشون الوغى. اما العفاف عند المغنم، فآخر ما يخطر لهم على بال هذا إذا كانت عندهم مغانم في زمن لا يأتيهم إلا بالخذلان والخسران.

جئناك وفي الجوار معك نخبة من أعيان المدينة التي بنيتها ودعوت لها ان تمتلئ بالعلم والفقه، فنبغ فيها سحنون وابن الفرات وعاشت مزدهرة اربعة قرون الى ان اتاها ليخربها ابو زيد الهلالي، ودياب بن غانم، والسلطان حسن، وبقية من ارسلهم الجوع والجفاف الى تلك الاصقاع والوديان.

من أين ندخل المدينة قبل ان نصل اليك يا سيد الفرسان...؟

أمن باب الجلادين الذي حولوا اسمه، فصار باب الشهداء، أم من باب التقوى عن طريق مسجد «سيدي صاحبي» الذي يرقد فيه جثمان الصحابي الجليل ابي زمعة البلوي الذي مات بجلولة ونقلوه الى القيروان ليقيم له الامير حمودة المرادي قبة اندلسية وصحنا هو في المعمار غاية الجمال والاتقان.

وان لم نجد من الزاد الروحي ما يكفي، فهل نستسهل، وندخل القيروان من باب ابي الحسن علي الحصري القيرواني مؤلف الموشح الذي نسمعه من عبد الوهاب بعده بعشرة قرون، فنذوب ونقول للصب لا تسل عن الغد، ففي بعض أشكال الشوق الانتظار على جمر خير من اللقاء على جليد متلعثم. لكن أين الجليد والشمس تنسى نفسها ككل من يزور القيروان وتظن انها فوق الربع الخالي لا فوق الهودج الخاوي من جمال الحضر والعربان.

والهودج اياه صادفناه أمام برك الاغالبة، والتوانسة كالأندلسيين يسمون البركة فسقية، وأسأل من أين جاءت التسمية وهل يشجع الماء الكثيف العطشى على الفسق؟ ثم اتذكر تلك البركة الفاسقة التي انشأها الوليد بن عبد الملك في دمشق وكان يملأها بالنبيذ، ويلقي نفسه فيها كلما أعجبه صوت نسائي يترنم بقصيدة غزل، وهل في الدنيا أجمل من ماءين يخفق حولهما بجناحيه الحب المحروم الذي جربه شاعر القيروان ابن رقيق واستعان على مقاومته بتأليف كتاب عن الأشربة لا يضارعه في وضوح قصده غير كتاب النغزاوي والتونسي عن غنج النساء.

علي الحصري القيرواني لم يكن محروما بما فيه الكفاية، فموشحه لا يأتي من حرمان بقدر ما يأتي من قناعة بأن اللقيا لا تطفئ نار الشوق وسامح الله «جميل» ما أبلده من عاشق حين قال:

يموت الهوى مني اذا ما لقيتها ويحيا اذا فارقتها فيعود الهوى القيرواني شيء آخر يكمن في سؤال العارف:

يا ليل الصب متى غده أقيام الساعة موعده...؟

وقبل ان يصل بك الى ذلك السؤال كان ابو الحسن قد مر بـ «مضناك جفاه مرقده».. وكافة الثوابت التي تجعلك تعرف ـ وان تجاهلت ـ ان يوم العاشق بمليون عام وان ما يفصلك دائما عن الموعد الثاني ألف سنة ضوئية حتى وان كنت ترى حبيبك بعد ساعتين، فأجمل الأشواق واشدها عبقا تلك التي يعتقها الزمن على نار الانتظار.

ومعذرة سيدي عقبة، فحديث الغرام يأخذنا دائما لاننا من قوم ابلى صبر اوائلهم حب النساء، وفي مدينتك رائدهم وهو الامير ابو عقال غلبون بن الحسن بن غلبون الذي كانت المرأة عموده، ومضاربه، واثفيته، وقصيدته، فلما احترق بهن وتاب وزهد في صيد الحجل وملاحقة ربات الحجال كان يقول لمجالسيه:

ـ زال من قلبي حب الدنيا الا حب النساء.

* طرائد وصيادون

* ولتوبة غلبون قصة طريفة، فقد قيل انه كان من شدة حبه لفضاء الأنوثة يتنكر بزي النساء ليحضر اعراسهن. وذات عرس فقدت احدى الحاضرات جوهرة ثمينة، فأقفلت صاحبة العرس الدار وقالت للنساء، والامير بينهن وبثيابهن: سنفتش الجميع لنجد المسروق. فوقف الأمير الأغلبي غلبون في آخر الصف يدعو ربه ألا يعود لمثلها ان نجاه من تلك المحنة، وحصلت المعجزة إذ عثروا على الجوهرة المفقودة مع آخر امرأة كانت تقف قبله، فارتحل على الفور الى الحجاز واقام بالحرم يسقي حجاج البيت الى ان اطلقوا عليه لوداعته «حمامة الحرم» وتلك ميزة معروفة، فمن يعاشر النساء عن حب بفضاء الأنوثة تتلبسه الوداعة، وان كان من الصيادين الماهرين، فالطريدة تدرب الصياد على حب صفاتها ليعرف كيف يقتفي اثرها حين تضيع، فهناك ومهما قيل في انكار ذلك الاسلوب علامات يتفق على حبها الطريدة والصياد.

وعن الصيد الفعلي لا المجازي نسألك يا سيدي عقبة، ونريد ان نروي قصتك فقد يقيم لك انصار حقوق الحيوان نصبا في بلادهم لأن بلادنا نسيتك، وكل بلاد تغيب عنها قيم الفروسية ينحط فيها الانسان عن مرتبة الحيوان، لكنك على بسالتك وحروبك كنت رحيما بالاثنين، فالرواة الذين يحبون «الأسطرة» يقولون انك حين عزمت على بناء القيروان في موقع غابة كثيفة عامرة بالذئاب والضباع والحيات اتجهت الى حيواناتها اولا وقلت:

ـ يا أهل الوادي اظعنوا، فإنا نازلون وان ما وجدناه قتلناه.. يا أهل الوادي قد اجلناكم ثلاثة ايام.

ويزعم الرواة ان حيوانات الغابة استجابت وان بعض من كانوا معك رأوا الحيات تخرج من جحورها هاربة واللبوات تغادر حاملة اشبالها والذئاب تحمل جراءها وتمضي والعقارب تدب اسرع من المعتاد سمعا وطاعة لأوامر عقبة، وهذا كله قبل ان تصل الى بحر الظلمات لتكتمل اسطورتك القائمة على جهل بالجغرافيا وعشق للتاريخ.

الدليل في مسجد عقبة بالقيروان اخبرني اسطورة أخرى عن المحراب، وهي ان المسلمين الذين نزلوا مع عقبة كانوا مثله لا يعرفون ان خلف المحيط الاطلسي بلادا ويابسة. ولأن البوصلة لم تكن معهم ضاعت عنهم القبلة في بلاد حديثة عهد بالاسلام. وذات ليلة رأى عقبة بن نافع رؤية في المنام تبعها صوت تكبير فقام وبيده اللواء وتبع الصوت الى ان توقف عن سماعه، فركز لواءه وقال لمن حوله من المسلمين: هذا محرابكم.

وما يزال ذلك المحراب البسيط قائما لكنهم غطوه بأحجار المرمر ليتناسب مع المنبر المصنوع من أبنوس الهند وساجها وفيه على ذمة الدليل 286 قطعة زخرفية ما من واحدة تشبه الأخرى، وعلى زاوية المحراب اليسرى دائرة الامام سحنون التي كان يعالج بها المرضى، وهي مكتوبة بتقنية حروفية عالية تجعل الميم وسط الدائرة لكلمات اربع ما أجملها، وما ابلغ ان ترددها في محراب حيكت حول بانيه الأساطير «الحمد للحميد المبدئ المعيد» الحمد للحميد المبدئ المعيد.. الحمد للحميد.

ومن التقاة والأولياء الذين كانوا يعالجون بالاسماء الحسنى الى الولاة الذين ترتبط بهم كل الفعال القبيحة، وهؤلاء اضافوا حجرة خشبية الى جانب المحراب من خشب لبنان ليصلوا فيها حماية لانفسهم، لكنهم خجلوا من الاعتراف بالفزع، فقالوا ان الحجرة لاجتماعات المشورة، ولو اعترفوا بالخوف لما لامهم احد في عالم اسلامي تعلم منذ ان طعن ابو لؤلؤة عمر بن الخطاب ان المحراب أفضل مكان لعمليات الاغتيال السياسي لقادة ترتبط في شخصياتهم صفات القيادة بخصال الامامة التي لا تكتمل دون منبر ومحراب.

وأعمدة مسجد عقبة 365 على ايام عدد السنة، وليس به نوافذ لكن له سبعة عشر بابا، ثمانية من كل طرف على عدد ابواب الجنة والتاسع في الوسط وهو حسب اعتقاد القوم باب الفردوس، والابواب موزعة على 33 مترا أي على رقم اعمار المسلمين في الجنة، فكلهم يعودون شبابا ـ كما قال لي الدليل يا سيدي عقبة ـ وعنده حق فدون الشباب المثالي عند سن الثالثة والثلاثين يصبح الحديث عن وفرة الحوريات مسألة يصعب فهمها عند من يقفون عند القشور ولا يملكون ادوات فهم الرموز والتفاسير.

وماء جامع سيدي عقبة ـ الجامع الكبير ـ كان يأتي من برك الأغالبة التي تطالعك خارج سور المدينة القديمة وعلى بابها يربض جمل مسكين من عهد سيدي عقبة على ظهره هودج يتصور حوله السياح، وهذه وظيفته الوحيدة هذه الايام، فمن يحتاج الى هودج ليختبئ وكل من حولك كاسيات عاريات، المقيمات منهن والوافدات؟

* أمان وريحان

* وقبل ان تصل الى البرك ـ الفسقيات ـ وتغتسل بماء نهر زرود القادم الى القيروان من الجزائر لا بد ان تمر، ان كنت قادما من الحمامات في ضواحي المدينة، بالبشاشمة وبلواعر والغويلات وعلى طرقاتها فلاحات تونسيات بكل ألق الألوان، لكن البهجة لا تستمر، فسرعان ما تمر بقرية اولاد عامر الكئيبة لتذكرك الاخيرة ببني هلال وعامر وبالكارثة الهلالية التي دمرت القيروان حين سقطت المدينة قبل نهاية التغريبة عند اسوار تونس بحدود عام 443 للهجرة وهو عام مشهود في التاريخ والشعر فكل مراثي شعراء القيروان تدور حول الكارثة الهلالية ونتائجها، وهو ما لم نستوعبه في المشرق لاننا نظرنا الى تغريبة بني هلال من زاوية عاطفية، وتابعنا غرام ابن السلطان حسن بسعدى بنت الزناتي خليفة اكثر مما انتبهنا للخراب الذي أوقعه الاعراب بتونس الخضراء بعد ان وصلوها، وليس على بساط ريح كبساط الفنان فريد الاطرش الذي تخصص بليالي الانس في الشمال الافريقي، وترك لاخته اسمهان ليالي الانس على ضفاف الدانوب.

وبعد الكارثة الهلالية غابت ليالي الانس القيروانية ولاحقا سوف يأتي ابن خلدون ليبني نظرية كاملة في علم التاريخ عمادها الخراب احدثه الهلاليون والعامريون بالقيروان وضواحيها. وطبعا فالمقدمة لا تخلو من تحامل، فابن خلدون في النهاية ابن الشعب الذي تعرض للغزو، ورغم تنقله في القارات ظل الى آخر ايامه يحن الى حي الحلفاوين الذي ولد فيه بتونس ايام الحفصيين.

ومن أبرز من رثى القيروان بعد كارثتها الشاعران الصديقان ابن شرف وابن رشيق القيرواني، والثاني اكثر لوعة من الاول، ففي قصيدته النونية لا يكتفي ببكاء العز الذي كان، انما يصور الدهر وكأنه احد الحساد الذين اصابوها بعين قاتلة:

أترى الليالي بعدما صنعت بنا تقضي لنا بتواصل وتدان نظرت لها الايام نظرة كاشح ترنو بنظرة كاشح معيان وفي القيروان اكثر من ابن رشيق اشهرهم، الناقد الفذ صاحب كتاب العمدة، وفيها غير مؤلف موشح: يا ليل الصب متى غده؟ اكثر من حصري الاكثر شهرة بينهم صاحب كتاب زهر الآداب الذي قال عنه مواطنه ابن رشيق: «كان شاعرا نقادا عالما بتنزيل الكلام وتفصيل النظام يحب المجانسة والمطابقة ويرغب في الاستعارة تشبها بأبي تمام».

واسجع او لا تسجع ففي البلاد الحارة الظل سيد الكلام والغرام والنظام، وجميع هؤلاء كانوا يستظلون تحت سقوف اسواق المدينة القديمة التي تبدو هذه الايام من كثرة تناقضاتها واصباغ لافتاتها كعجوز تتصابى، وكيف لا تتصابى العجائز في القيروان وفيها على ذمة مؤرخيها 46 حماما أبردها يعيد الشباب الى أبلد العظام، وعلى باب كل حمام لا بد ان تجد عطارا بالانتظار، وقد دخلنا دكان أحدهم صدفة، فنقلنا عطر الورد الى عطر الكلام، مشيرا الى قصيدة مكسرة نقلها من كتاب قديم وخطها على الجدار، وهي معلقة في القناعة داخل مدينة طالما حطمها جشع التجار، ومن قصيدة الشاعر المجهول على جدار العطار أستأذنك يا سيدي عقبة في نقل هذه الأبيات:

عليك بتقوى الله ان كنت عاقلا يأتيك بالارزاق من حيث لا تدري فكيف تخاف الفقر والله رازقا فقد رزق الطير والحوت في البحر ومن ظن ان الرزق يأتي بقوة ما أكل العصفور شيئا مع النسر فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حينا من الدهر وقرأنا، بل واقتنعنا قبل ان نقرأ، ففي القيروان القديمة التي ما تزال تحتفظ بسورها البالي رائحة مخدرة معطرة تشمها منذ ان تطل من بوابة السور على مكتبة «رضا العجرة» ثم تنداح القصص والحكايات والبشر وفيهم من يخرج لتوه من كتاب التاريخ ليرحب بك في أزقة ضيقة نظيفة تشهد على عبقرية عقبة في اختيار المكان وزرعه بالامان والريحان، فقد اختارها في ذلك الموقع بداية كثكنة عسكرية بعيدة عن سيوف الروم في البحر وعن رماح البربر في الجبال، ولم يكن يدري ان تدميرها سيتم بالاسلحة الاسلامية على يد بني هلال ،وحين قتله كسيلة البربري ودفن في بسكرة بالجزائر ذهب معه الامان، وظل الريحان يعرش على الشرفات التونسية دون ان يغني مع العراقيين منذ ابراهيم بن الاغلب والمعافري:

يا زارع الريحان حول بيوتنا لا تزرع الريحان لست مقيما ولم يقم سيدي عقبة في القيروان لكن رائحة فروسيته وأريحيته ما تزالان تعطران سماء الزمان وتشهدان على براعة حدسه في معرفة عبقرية المكان.