الأنا العربي والآخر البريطاني في مجموعة قصصية

الشرق والغرب يتعايشان بوئام في «التباس» لماهر منزلجي

TT

كأن ماهر منزلجي كتب مجموعته القصصية الجديدة وهو يفكر بأحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) قبل وقوعها، فالقصص التي صدرت بعنوان «التباس»، عن دار كنعان للطباعة والنشر بدمشق، تتعاطى مع أحد أبرز الأسئلة التي أثارتها تلك الهجمات: صراع الحضارات. صحيح أن الشرق والغرب في قصص الجراح السوري الأصل الذي يعيش في الغرب منذ أكثر من ربع قرن، لا يتماهيان، وكثيراً ما يختلفان بشكل يثير في أحيان كثيرة سخرية يحفل السرد بقسط وفير منها، لكن صحيح أيضاً أن احدهما لا يتمترس في خندق المواجهة مع الآخر ـ الضد، بل يتعايش معه إلى درجة يبدو معها كل منهما مطبوعاً في الآخر لا فكاك له منه حتى لو تاق إلى ذلك.

وتداخل العلاقة بين الأنا العربي والآخر البريطاني، يجعل صورتهما غائمة تفيض أحياناً بالسخرية، الأمر الذي يفسر اختيار العنوان «التباس». يختلط الخيال بالواقع في قصة «المشروع الكبير» التي تتصدر قصص المجموعة، فيلتبس الأمر على سامي الزائر إلى بريطانيا ويخال نفسه أنه لا يزال في أرضه الأولى. يرى زوجتيه البعيدتين عبر وجوه الأجنبيات الحسناوات اللواتي يخطرن أمامه على الشاطئ. ثم تتفتق مخيلته عن مشاريع بناء كانت ستدر عليه أرباحاً سخية لولا أنها أشبه بقصور سورية على رمال بريطانية. فالأرض التي فكر بشرائها لتنفيذ المشروع بطريقة مدينته البعيدة حلب، تعود لكنيسة لا تعتزم بيع ممتلكاتها!.

والفكاهة تكاد تكون سيدة الموقف مجدداً في قصة «الاستقبال عند مدخل البيت»، حيث يتوقع الرجل المتقدم في السن من البريطانيين أن يتصرفوا بذات الطريقة المألوفة في بلده العربي. فأبو سعيد ببساطة يفصل العلم على مقاس بلده الأصلي. يتحدث الإنجليزية برطانة عربية مضحكة، وهو يعتقد أنه قد «أدى قسطه للعلى» وتمكن من التفاهم مع الانغلوساكسون بلغتهم الأصلية. وإذ يومئ ابنه، على الطريقة البريطانية، للسائقين البريطانيين الذين سمحوا له بالمرور يتخيل الأب العربي بامتياز أن ابنه سعيد الحمصي شخص معروف في طول البلاد وعرضها، وإلا لماذا يحييه كل هؤلاء الغرباء؟

ولئن كان كل من صاحبي الخيال الثر السابقين زائراً، فبعض العرب المقيمين في بريطانيا لا يترددون في ممارسة العادات التي ورثوها عن الأرض الأولى إلى جانب ما اكتسبوه في الوطن الجديد. واللافت ان هؤلاء يختارون من العادات الجديدة ما يناسبهم، لكن لا يبدو أن بوسعهم انتقاء ما ينبغي الالتزام به وما يتوجب نبذه من نمط الحياة الاصلي الذي رضعوه مع الحليب. حميد، الذي «تجاوز الخامسة والخمسين»، كما يزعم السارد في قصة «بيت مطل على كل الجهات»، يسمح لنفسه باتخاذ «طفلة» في الثانية والعشرين من عمرها صديقة حميمة له، و«آخر عنقود الحبيبات المفضلة لديه». وهو ايضا يبارك علاقة ابنه جمال، الذي يدعوه جيمي، بالإنجليزية اليكس. بيد أنه يرفض السماح لابنته الشابة سوزان أن تطرف عينها يمنة أو يسرة. من الممنوع عليها أن تبيت خارج المنزل أو أن تقيم علاقة مع شاب إنجليزي وتدخن، فمن المفروض عليها أن تتذكر دائماً «أنك لست كالأخريات»، على حد تعبير والدها. غير أن الرجل الشرقي في الغرب ليس متشبعاً بذكوريته على الدوام، بل هناك من يقطع صلته بالعادات الماضية، كما يفعل فتح اللّه في قصة «الرجل واحد». فالعربي سمح لشابة جلست مرة إلى جانبه على متن الطائرة، ان تقدمه «هدية» لوالدتها الأرملة.

والماضي كثيراً ما يطرق أبواب هؤلاء المغتربين ويهيج بهم الحنين إلى عادات بلادهم العربية عندما يلمسون شيئاً من المخاتلة أو قلة الوفاء في مجتمعهم الجديد. هكذا كان حال الطبيب العربي في قصة «يد تلمس جناح الطائرة»، حيث الزوجة الإنجليزية الشابة فوكس لا تكاد تعبأ بزوجها تشارلز في تناقض صارخ مع والدته أم عبد الله التي لم تعد تتذكر أن عليها أن تطعم أولادها حين ألمّ بأبيهم مرض بسيط. ومع أن العلاقة الملتبسة بين الوطن الأول والحالي تبقى بمنزلة القلب من المجموعة التي تقارب هذه الثيمة من زوايا عدة، تبدو بعض القصص «خارجة عن السياق» بشكل ما، إذ تتناول أحداثاً وذكريات لا مكان فيها للوطن «الجديد».

قوة الصورة الاستعارية التي تمثل نسغ المادة السردية، تكمن في ضعفها ايضا. فالقصص منسوجة بصورة تقترب عفويتها من البساطة، وحياة ناسها ومعالمهم، يراها القارئ واضحة وكأن المنزلجي استعان بمبضعه لتفصيلها على قد المقاس.

قصص المجموعة تضم علامات لافتة تستوقف القارئ ببروزها على نحو يكاد يكون منتظماً. هذا «الترتيب» يشي بالسارد الأساسي، الحاضر أبداً يشتغل على القصة وينضد صورها وأحداثها وعوالم شخوصها. والادهى ان بعض هذه العلامات يشي بأن هذا السارد طبيب جراح!، فكثير من أبطال القصص أو شخوصها الأساسيين، أطباء أو ممرضات، كما تدور وقائع معظمها في المستشفيات أو غرف العمليات. والطريف أن هذا الطبيب «المتخيل» شغوف بالتدخين على ما يبدو، فالسجائر والولع بها الذي تصعب مقاومته، حاضران بقوة في قصص المجموعة. وفيما يحرص السارد على التنويع على أسلوب القص، فهو أيضاً يتوخى الإيجاز أحياناً فتأتي القصة في بضع جمل كتلك التي أطلق عليها «اللص المحترف»، الأمر الذي يميز هذه الحفنة عن معظم الحكايات الأخرى.