عدالة في ظلال السيوف بمزارع الفتنة والقتل

من عروة بن الورد إلى ابن طباطبا ظل العدل الاجتماعي يؤرق كافة المتطلعين إلى عالم حر متكافئ

TT

عدالة في ظلال السيوف بمزارع الفتنة والقتل من عروة بن الورد إلى ابن طباطبا ظل العدل الاجتماعي يؤرق كافة المتطلعين إلى عالم حر متكافئ بعض الناس تأتيهم ثمار العدل من فوهات صناديق الاقتراع، وآخرون يضطرون للبحث عن العدالة تحت ظلال السيوف، وفي التاريخ الإسلامي لا تجد قصة خروج على السلطان إلا وخلفها فقر مريع.

وكي لا نضيع في الاختيار وكثرة الخيارات قتلت حمار بوريدان ـ لنقرأ قصة تغني عن ألف وتلخص الأسباب العميقة لمعظم تلك الاضطرابات التي جعلت تراثنا وتاريخنا مزرعة للقتل، ونبعاً لا ينضب للفتن والدماء.

يروي أبو الفرج في مقاتل الطالبيين حكاية خروج ابن طباطبا بطريقة واضحة لا تحتاج إلى حذلقة وأدلجة وتنظير فيقول إنه كان يمشي بعض الأيام في دروب الكوفة، فوجد عجوزاً تتبع أحمال الرطب وتلتقط ما يسقط منها وتجمعه في كساء رث ولما سألها عن ذلك قالت: اني امرأة لا رجل لي يقوم بمؤنتي ولي بنات لا يعدن على أنفسهن بشيء، فأنا اتتبع هذا الطريق واتقوته انا وولدي، فبكى ابن طباطبا حتى ابتلت لحيته وقال: انت والله واشباهك تخرجونني غداً حتى يسفك دمي.

وصدقت نبوءته فخرج وسفك دمه من قبل قائده ابي السرايا وليس من قبل جند السلطان. لكن قبل ذلك السفك تجمع الناس حوله كما يؤكد الطبري كالجراد المنتشر، ففي كل عصر جوع وفقر وسوء توزيع في الثروات ونقص في المساواة وتلك ظروف لا تؤثر في الاقتصاد وحده انما تنفذ الى صميم علم الاجتماع، بل الى قلب الفقه، فها هو الامام ابو حنيفة ينصح محذراً: لا تقبلوا شهادة من ليس في بيته طحين.

* الأعرابية والكانزون

* وقبل ان تظن ان الفقير معرض للجوع وحده تأتي هذه النظرة الثاقبة من إمام جليل لا تشكك بالفقير من حيث هو انسان انما لتقرر حقيقة نعرفها جميعا بالمعايشة، فالحاجة تدفع الى الكذب والتدليس والمراوغة، وشراء شهادة المحتاج أسهل عند الفاسد المتمكن من شربة ماء على ضفة نهر غزير وأهل الخلق الرفيع الذين لا يخضعون ولا يساوقون قلة في كل العصور.

ان موقف الناس من الفقر والفقير لم يتغير ابداً منذ صدر التاريخ وان شئت ان تسمعه، فهذا أحد الباحثين عن العدالة في ظلال السيوف الشاعر عروة بن الورد يلخصه لك في القصيدة التي حاور فيها زوجته التي دعته للقعود الى جانبها ولعدم الخروج في سبيل انصاف الجائع من المتخم فقال:

* ذريني للغنى اسعى فإني ـ رأيت الناس شرهم الفقير

* وأبعدهم واهونهم عليهم ـ وان امسى له حسب وخير

* ويقصيه الدني وتزدريه ـ حليلته وينهره الصغير

* وتلقى ذا الغنى وله جلال ـ يكاد فؤاد صاحبه يطير

* قليل ذنبه والذنب جم ـ ولكن للغني رب غفور

* ولمحمد بن طباطبا الذي بدأنا بقصة خروجه في طلب العدالة ابيات أقل بلاغة من أبيات عروة لكنها تدل على وعي اعمق، فعروة بن الورد في التراث العربي مثل روبن هود في التراث الغربي يأخذ من الاغنياء ليوزع على الفقراء اما ابن طباطبا، فله مشروعه الاجتماعي وخروجه لم يكن لعشوة او غدوة او غنيمة انما لإقامة دولة الحق والعدل والتوحيد وهو شعار مشترك جمع عدة فرق اسلامية على مدار عشرات القرون ولم تصل جميعها الى نتيجة، لذا ظل هاجس العدل الاجتماعي هو المحرك لكل الاضطرابات، والعدالة الاجتماعية لا تأتي بدون عدالة سياسية تعطي الأمر لمن يستحقونه من أرباب العقول الراجحة لا الجيوب الطافحة، والأفئدة التي تعي ما يدور حولها بالكاد.

وابيات ابن طباطبا المشار اليها تنص على حادثة الاعرابية الفقيرة وتجعل منها الظرف الذي قدح الشرارة، اما الرغبة في مقاومة الظلم والبغي، فقد كانت موجودة على الدوام كما نفهم من أبيات الخروج في سبيل العدل والانصاف:

* وكنت على جد من أمري فزادني ـ الى الجد جداً ما رأيت من الظلم

* أيذهب مال الله في غير حقه ـ وينزل أهل الحق في جائر الحكم

* لعمرك ما ابصرتها فسألتها ـ وجاوزتها إلا لأمضي في عزمي

* ولا بد لهؤلاء الباحثين عن العدل بالسيف من اساس عقائدي يدعم شرعية حربهم ضد سلطات زمانهم، وهذا متوفر بغزارة فقد وجد في الاسلام منذ العهد الراشدي من يدعم ذلك التوجه ورائد هؤلاء الصحابي الجليل ابو ذر الغفاري الذي انفرد بالنهي عن كنز الأموال ووجوب توزيعها لتتحقق المساواة، وكان يخرج الى الشوارع ويتلو في التجمعات قوله تعالى: «والذين يكنزون الذهب والفضة، فبشرهم بعذاب أليم...» فلما تضايق منه الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان وارسل اليه ان يمتنع، قال لرسول عثمان متعجباً: ايمنعني عن تلاوة كتاب الله.

والقصة معروفة النهايات فقد وصلت الى حد النفي لكن ذلك الصراع لم يتوقف، فالخليفة الراشدي الرابع نفسه ينسب اليه انه قال:

«ما ضرب الله عباده بسوط أوجع من الفقر».

وجميع الذين خرجوا وقاتلوا في سبيل المساواة في توزيع الثروات والمناصب والوظائف، والحقوق، كانوا يجدون مرجعيتهم الشرعية في القرآن والسنة وكذلك خصومهم الذين كانوا في الحكم وكل من ينظر في الكتب الأساسية لفن الحكم في الاسلام كـ«الخراج» لأبي يوسف قاضي هارون الرشيد، و«الاحكام السلطانية» للماوردي و«سراج الملوك» للطرطوشي، يجد ان هؤلاء الافاضل بذلوا جهداً واضحاً في العثور على نصوص تمنع التغيير السياسي بقوة السلاح، فباستثناءات قليلة مثلها موقف ابي حنيفة ايام خروج المبيضة في زمن قحط ومجاعة كان الجميع يكفرون من يرفع سيفه في وجه سلطانه ولا يجدون له عذراً رغم الفقر والمجاعات، وهذه كانت كثيرة في البوادي والاطراف لأن الثروات وما يتبعها من ترف تتركز عادة في العواصم والمدن الكبرى، ويبقى للآخرين الفتات واحياناً لا يجدون حتى ذلك الفتات.

* الفكر والأجهزة

* لقد بدأت انتفاضة الزنج في البصرة من جوع ماحق وظلم ساحق وكانت الجزيرة العربية في التوقيت ذاته تعاني من الجوع والعري، ففي انتفاضة بني عقيل في منتصف القرن الثالث الهجري ينقل لنا الطبري في «تاريخ الأمم والملوك» حكاية ذلك المقاتل الذي كان يحارب وهو ينشد:

* عليك ثوبان وأمي عارية ـ فالق لي ثوبك يا ابن الزانية

* ومن كثرة ما استشرت ظاهرة الباحثين عن العدالة بحد السيف في مزارع الفتن والقتل سن مفكرو السلطة اقلامهم لتعليم السلطان كيفية «الردع الوقائي» وذاك لا يأتي الا بتكثيف عمل الأمن والاستخبارات، فها هو الماوردي يسهب ويطيل في ضرورة مراقبة الجميع من بطانة الحاكم الى أصغر جائع في الرعية، والمخابرات عنده كالمخابرات عند «تينت» على نوعين (ضربين) السري والعلني والداخلي والخارجي، وهو ككل المنظرين السلطويين يبرر ذلك بما يسميه «حق الاسترعاء» أي حماية الرعية. والواقع ان ذلك الجهاز الخطير كان في مختلف مراحل الحضارة الاسلامية لحماية النظام، وليس الرعية فصاحب الخبر (قطع الله خبره) نادراً ما كان يفكر في خير الناس.

وقد انيطت مهمة الاستخبارات بديوان البريد والخبر الذي صار منذ الخليفة المنصور الذي حبس ابا حنيفة النعمان أقوى أسلحة الدولة، فصاحب البريد يتقدم في الدخول على الخليفة قادة الجيوش والامراء وفي مرحلة لاحقة أطلق الناس على صاحب البريد والخبر لقب «غماز الخليفة» لقول احدهم عن رئيس الاستخبارات في زمن «انتفاضة» بني عقيل، سعيد بن حميد:

* بأبي نفس سعيد ـ انها نفس شريفة

* لم يزل يحتال حتى ـ صار غماز الخليفة

* ولا يخفى ما في تلك السخرية من خوف مبطن، فذلك الغماز كان بيده الحل والربط وتوجيه القرار، فكم من رأس طار بغمزة او اشارة او كلمة، وكم من انتفاضة اجهضت في مهدها بجهد «الغمازين» الذين تطور اسمهم عند الفاطميين فصار «البصاصين» وما زالت الناس تبتكر لهم الاسماء وهم يبتكرون الاساليب لقمعها واسكاتها.

ان جوهر التاريخ الاسلامي هو ذلك الصراع الذي لم يتوقف بين الغمازين والبصاصين وبين الذين لا يهدأ لهم جفن في سبيل اقامة دولة العدل والحرية، وكلما اوغل الزمن في جريانه ازداد البصاصون قوة ونفوذاً، ونقص عدد الباحثين عن العدالة بالسيف دون ان يعني هذا ان حلم العدل الاجتماعي قد تبخر، فالفكر العربي ليس في معزل عن تيارات الفكر البشري وثوراته، وقد تعلم الحالمون من الاخفاقات التاريخية المتكررة ان ما يأتي بالسيف، بالسيف يذهب، وانه لا بد لهم من البحث عن طريق ثالث يعينهم على مقاومة الفساد والظلم، فأفضل انواع الجهاد عند المفكرين المتنورين كلمة عدل عند سلطان جائر، واذا استطعت بعد تلك الكلمة ان تحفظ رأسك، فستواصل قطعا المسير في دروب العدل والحرية لكن الاشكالية المقلقة في الفكر السياسي الاسلامي ان تسامحه ليس فوق الشبهات، فما قالها احد ونجا.. وهنا جوهر الاشكالية ولب المشكلة.