نوادر المخطوطات العربية في خزائن العالم

«روضة الأزهار وبهجة النفوس ونزهة الأبصار» لمحمد بن داود ينفرد بإيراد أشعار للملوك والأمراء الأيوبيين

TT

للاستشراق الايرلندي تاريخ مجهول، فكتاب «المستشرقون» لنجيب عقيقي (ت 1982م) ـ وهو اهم مرجع نملكه في تاريخ الاستشراق العالمي ـ لم يفرد له فصل خاص، بل اهمل، غير ان اسم هذا البلد الاوروبي العريق ارتبط باسم مكتبة Chester Beatty الموجودة في «دبلن» والتي نسبت الى مالكها «السر شستر بتي».

وتحتضن رفوف هذه المكتبة نفائس المخطوطات الشرقية والغربية، بذل «بتي» الغالي والنفيس من أجل اقتناء هذه المجموعة الخطية المهمة من أنحاء العالم. وحرص ان يكون كل مخطوط منها، ذا منزلة مرموقة في عالم المخطوطات. فنجد بين هذه المجموعة: الفريد أو نادر الوجود، أو هو مكتوب بخطوط مؤلفيه أو ان يتناول موضوعات ذات بال في سائر فروع المعرفة التي انتهى اليها البشر خلال الازمنة التي صنفت فيها تلك الكتب، هذا الى جانب ما تتحلّى به من فن رفيع في الخط والتزويق والزخرفة والتلوين والتجليد، فضلا عن الورق المتفاوت الجودة، الذي كتب عليه، والحبر المتنوع الصنع المتخذ في الكتابة، فنجد في هذه المكتبة نفائس المخطوطات، العربية والتركية والفارسية والهندية والقبطية والحبشية والارمنية واليونانية واللاتينية بينها 244 مصحفا نفيسا ونحو 2500 مخطوط عربي.

* روضة الأزهار:

و«روضة الأزهار وبهجة النفوس ونزهة الابصار» واحد من المخطوطات النادرة، التي تتميز بها هذه المكتبة ـ وسيرد عنوانه كاملا ـ بعد قليل.

مؤلف المخطوط: «مجير الدين محمد بن الأمير سيف الدين بن داود بن علي بن عمر بن قَزَل المشدّ» التركماني الاصل ـ سبط الملك الحافظ بن السعيد بن الامجد صاحب بعلبك. والمعلومات التي وصلت الينا عنه قليلة، اهمها ترجمة معاصره وصديقه (صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي المتوفى سنة 764هـ الذي ذكر انه كان فقيها حنفيا، شاعرا ذكيا يقع بقوة ذهنه على المعنى، وله مشاركة في العربية، ومداخلة في النكت الادبية، ونثره غير طائل، وخطه ليس بهائل.

يعرف الرياضي (الرياضيات) جيدا، اعني في ما يتعلق بالحساب، وآلات المواقيت من الربع والاصطرلاب، ويضع الآلات بيده.. ويكتب رسومها رسما.. وكان يضع من حيل «بني موسى» جمله، ويحّمل نفسه من تجارب أعمالها ما لا يطيق حمله.. وتوفي بطرابلس سنة أربع وثلاثين وسبع مائة «للهجرة».. وكان اولا بصفد ناظر الجيش، فأقام بها زمنا، ثم نقل الى نظر جيش طرابلس.

أعيان العصر وأعوان العصر للصفدي ـ دمشق 1998 ـ ج4 ص438.. ولم يأت ابن حجر العسقلاني في (الدرر ج3 ص436) بجديد، ولم يترجم له الزركلي في «أعلامه».

وأورد له الصفدي عدة قصائد ومقطوعات شعرية منها قوله:

وذي شنب مالت الى فيه شَمعة فردّت لاشفاق القلوب عليه فمالت الى قدامه شغفا به فقبّلت البطحاء بين يديه وقالت بدا من فيه شهد فهزّني تذكّر أوطاني فملت إليه فحالت يد الأيام بيني وبينه فحفّرت أجفاني على قدميه الوافي بالوفيات للصفدي ـ نيسبادن ـ ج3 ص65.

* المخطوط:

* يحمل مخطوط «روضة الازهار» الرقم 4601 في مكتبة شستر بتي ويتكون من 212 ورقة من الحجم الصغير، نسخ في القرن الثامن الهجري ـ الرابع عشر الميلادي، وجاء في «طرة المخطوط»:

ـ تأليف كاتبه راجي رحمة ربه الغفور الودود «محمد بن القاضي داود».. غفر الله له ولوالديه ولآخرته في اليوم المشهود.

ولا ريب ان للمخطوطات المكتوبة بأقلام مؤلفيها مزايا تفوق المخطوطات المنسوخة بأقلام آخرين.

ولتكوين فكرة عن القيمة العلمية والأدبية لهذا المخطوط، لا بد من دراسته من الداخل دراسة عميقة تكشف مزاياه وعيوبه.

* مقدمة المخطوط:

قال المؤلف في مقدمة كتابه:

ليس في الأرض أنفع ولا أحسن ولا أرفع ولا أبين للسان، ولا أجود تقويما للبيان، ولا أشدّ اتصالا بالعقول السليمة، وألذّ في أسماع ذوي الاخلاق الكريمة من حملة آداب سطّرت في كتاب من حديث الاعراب ونوادر ذوي الألباب، ولم ير من العلماء الاخيار ولا من الفضلاء الابرار، إلا ونفسه بهذا الفن متعلقة، ولهذا الأمر شائقة.

ـ عن «الزهري» انه كان يحدّث ثم يقول: هاتوا من أحاديثكم وأخباركم، فإن الاذن مجّاجة والنفس حمضة.

ـ وكان «القاسم بن محمد» اذا اكثروا عليه من المسائل قال: إن حديث العرب واخبار الناس لها نصيب من الحديث، فلا تكثروا علينا من هذا.

ـ روي عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ انه قال: روِّحوا هذه القلوب واتبعوا لها طرائف الحكمة فإنها تملّ، كما تملّ الأبدان.

ـ وروي عن ابن شهاب انه كان يقول: روِّحوا القلوب ساعة وساعة.

ـ وروي عن ركيع عن الاعمش عن أبي خالد قال: كنّا نجالس أصحاب رسول الله فيتناشدون الاشعار ويتذاكرون أيامهم في الجاهلية.

ـ وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ كفاك من علم الدين ان تعرف ما لا يسع جهله وكفاك من علم الادب ان تعلم الشواهد والامثال.

ـ قال شاعر:

ولكل طالب لذةٍ متنزه وألذّ نزهة عالم في كتبه ـ قال بعض الحكماء: عقول الناس مذلولة في أطراف أقلامهم، وظاهرة في حسن اختيارهم وكلامهم.

ـ وقال بعض الحكماء: من قرض شعرا أو وضع كتابا فقد استهدف للخصوم واستشرف للألسن فهو محمود او مذموم.

ـ وحذفت الاسانيد تهربا من التثقيل ومخافة التطويل، وقد كان بعضهم يحذف الاسانيد من سنّة وشريعة فكيف من أخبار مجموعة، ونوادر مسموعة فلا ينفعها الاسناد إن يصل بها، ولا يضرها إن حذف منها. حذف الحسن البصري لحديث فقيل له: يا ابا سعيد عنك، عن مَنْ؟ فقال: ما أصنع ـ يا ابن أخي ـ بعَنْ مَنْ ـ إذا أنت سمعته، فقد نالتك موعظته، وقامت عليك حجته ـ وجعلت لك هذا الكتاب جامعا لفنون الاخبار، ومستطرفات الآثار ورقائق الاشعار، قائما بنفسه كافيا.. مضمنا لكثير من الاخبار الجارية في مجالس الامراء من حملة الفقهاء، وسادة الوزراء ومحاضر خواص السوقة والاغنياء، لتعلم اني قد جمعت وتخيّرت واجتهدت وخيّرت وما عجزت ولا قصّرت وسميّت هذا الكتاب بروضة الازهار وبهجة النفوس ونزهة الابصار الجامع لفنون الآداب وسحر الالباب.. والله ينفع بعضنا ببعض بعزته وحوله وقوته وطوله.

من هذه المقدمة يتضح ان «روضة الازهار» كتاب أدب اعتمد على أحاديث الاعراب ونوادر ذوي الالباب ومن مزاياه:

ـ ان المؤلف حذف الاسانيد (تهربا من التثقيل ومخافة التطويل).

ومنها:

ـ انه تواضع فاعترف انه لا يستطيع ارضاء جميع قرائه، رغم انه جمع في كتابه «فنون الاخبار ومستطرفات الآثار ورقائق الاشعار».

كما انه قال «قد جمعت وتخيّرت واجتهدت وحيّرت وما عجزت ولا قصّرت». وفي هذا شيء غير قليل من التبجح.

ـ ومن اللافت للنظر انه لم يذكر اسماء المصادر التي عول عليها في جمع كتابه هذا، بل ذكر اسماء المؤلفين ومن هؤلاء: الاصمعي، والجاحظ، والثعالبي، وابن الجوزي، وابن قتيبة.

ومن الكتب التي اشار اليها وهي مفقودة اليوم: المزاح لابن الزبير، تلقيح العقول لعبيد الله المرزباني.

يتكون المخطوط من اربعة وعشرين بابا، وينفرد بايراد الكثير من الاخبار والطرائف والاشعار التي لا نجدها في سواه، ومنها اشعار لعدد من الملوك والامراء الايوبيين، على ان من عيوبه عدم نسبة الكثير من القصائد والمقطوعات التي أوردها.

* أخبار الأعراب:

* وبانتظار ان ينبري باحث جاد لتحقيق هذا المخطوط المهم بعد مقارنته بالنسخ الأخرى الموجودة في الرباط والفاتيكان ومعهد المخطوطات في القاهرة، نقدم ادناه نماذج منه مستقاة من الباب الثامن عشر.

وللأعراب حكايات مستغربة، واخبار مستظرفة ونوادر معجبة أوردت منها في هذا الباب ما فيه كفاية إن شاء الله تعالى:

ـ الأصمعي، قال: خرج «الحجاج» يوما فحضر غداؤه فقال: اطلبوا من يتغدى، فلم يجدوا إلا أعرابيا من (بني سلمة) فأتوه به فقال له: هلمّ، فقال: قد دعاني من هو اكرم منك، قال: من هو؟ قال: دعاني الى الصيام وانا صائم. قال له «الحجاج» صوم في مثل هذا اليوم على حرّه؟ فقال له: صمت ليوم احرّ منه. قال: فافطر اليوم وتطوع غدا. قال: فيضمن لي الامير ان اعيش الى غد؟ قال ليس ذلك اليّ. قال فكيف تسألني عاجلا بآجل ليس لك؟ قال: إنه طعام طيّب قال والله ما طيبه خبازك ولا طباخك ولكن طيبته لك العافية.

قال له الحجاج تالله ما رأيت كاليوم، اخرجوه! ـ خطب «المنصور» يوما بالشام فقال في خطبته:

ينبغي ان تحمدوا الله تعالى على ما وهبكم، في ايامي، منذ وليتكم صرف الله الطاعون الذي كان ببلدكم في ايام (بني مروان).

فقام اليه اعرابي فقال:

إن الله اكرم ان يجمع علينا انت والطاعون!.

ـ شهد اعرابي على رجل عند بعض القضاة فقال المشهود عليه:

ـ اتجيز شهادة هذا وهو موسر ولم يحج؟

فقال الشاهد: قد والله حججت.

فقال المشهود عليه: اسأله عن موضع زمزم؟ فسأله القاضي، فقال:

حججت قبل ان تحفر زمزم ـ اصلح الله القاضي!.

ـ قال الاصمعي:

مررت بأعرابي في يوم شديد البرد فقلت له:

ـ ألا تصلي يا اعرابي؟

قال: البرد شديد. فقلت له: فهل قلت في ذلك شعرا؟ قال نعم.

قلت: اسمعني. فقال:

أيارب ان البرد أصبح كالحا وأنت بأمري عالم لا تُعلّمُ فإن كان يوما في جهنم مُدخلي ففي مثل هذا اليوم طابت جهّنمُ!