قصة قصيرة

شوارع

TT

جون راي * عندما كنت طفلا، رجوت والدّي ألا يعبرا بي ـ اثناء التجول ـ من احد الشوارع قرب كاتدرائية «سان بافون».

شارع صغير ريفي هو، ببيوت صغيرة وبائسة برائحة البخور والحوامض التي ترافق موسم الصوم الاربعيني، رفع والداي كتفيهما بلا مبالاة، ثم انهما ـ ما داما لا يعيران اي اهتمام لمخاوفي ـ قاما بدفعي امامهما للسير في الشارع البغيض. صامتا كسمكة، كنت اشعر بخوف وتوجس كبيرين.

بعد هذا، اختفى ذلك الرعب. لكنني مع ذلك كنت اتحاشى الشارع بشدة. وفي احد الايام، وكنت وقتها في اوائل العشرينات، كنت اسير قرب «الالكريكية»، واذا بي افاجأ بوابل من المطر. كان ذلك، اعتقد، في احد مساءات العيد، وكنت متعجلا للعودة إلى المنزل، حيث تنتظرني متع كثيرة هناك. هكذا اختصرت الطريق: عبر الشارع الكريه بالطبع.

هناك لاحظت ان احد المنازل البورجوازية قد تحول إلى مخبزة. ياه! كم احب الكعك المحلى.

كان هناك بريق يتحرك كبندول الساعة مسقطا قوسا ذا الوان متعددة فوق الطوار. وفوق الرفوف تتربع انواع من الحلوى المتعددة الاشكال. هرم من الكعكات الصغيرة اثار انتباهي بشدة. دفعت الباب، فانتشر في المكان صدى القطع النحاسية الصغيرة المعلقة في خيوط عدة لتعلن مجيء الزبون. لكن، لم يحضر احد.

ناديت: «هل يوجد احد هنا؟». لكنني لم اتلق إلا الصمت كجواب. كانت هناك ستارة بنفسجية تفصل المكان عن صالة اخرى. رفعتها لأكشف عن صالة انيقة وصغيرة للاكل الخفيف. كانت النافذة مقفلة باحكام بدفتين زجاجيتين ملونتين. كانت مضاءة من الخارج بواسطة ستارة حمراء شفافة، اعتقدتها في بادئ الامر نارا كبيرة متأججة.

اطلقت نداء ثانيا لم يكن ذا جدوى.

كان هناك ـ ايضا ـ باب جانبي يفترض ان يؤدي إلى ممر داخلي. كان مغلقا ولم استطع فتحه. في الخارج، ازداد المطر حدة وتكاثف الظلام. فجأة اتخذت قراراً في لا مبالاة لم اعهدها في نفسي.. كشفت عن هرم الكعكات ذاك وحشوت كيسين من الورق بها وانا اقول لنفسي: «سأعود غدا لأؤدي ثمنها».

الجميع قالوا بأنها ـ الكعكات ـ ممتازة، كل من ذاقها اعترف انه لم يذق مثلها في حياته، وقد كان هذا صحيحا إلى حد بعيد.

لم اعد في الغد إلى المخبزة، لكن بعد ايام من ذلك. لم تكن هناك اية مخبزة! بل وجدت نفسي امام ذلك المنزل البورجوازي الذي كنت اراه دائما.

اتجهت إلى حلاق مجاور للمنزل واستفسرته عن الامر..

ـ مخبزة؟! لم توجد هنا ابدا ـ قال الرجل الطيب ـ منذ عشرين سنة وانا اعمل هنا. أؤكد لك انك مخطئ.

لكن، هناك ثلاثة شهود يؤكدون لي انني لم اكن ضحية حلم او هلوسة، فعندما فاجأني المطر، كنت رفقة «فيليكس ويدني» احد اصدقاء الدراسة. وعندما خرجت من الشارع، وفي نقطة التقائه مع شارع «ميروار»، قابلت جارتي «مدام بون» التي قالت لي:

ان اكياسك الورقية ستبتل وتتمزق. اعطنيها، سأضعها تحت معطفي.

ثم اننا ـ نحن الاثنين تابعنا الطريق معا.

والكعكات الصغيرة.. لقد اتينا عليها عن آخرها، وقد كنا ثمانية او عشرة اشخاص ممن شهدوا بمذاقها اللذيذ جدا!! كيف حدث ما حدث اذن؟ لن استطيع ان اعرف ابدا.

* «(جون راي) كاتب بلجيكي (1887 ـ 1964)، كتب نصوصا عديدة باللغة الفرنسية والفلمانية، كان يعشق السفر والمغامرة. نشر الكثير. لكن احدا لم يلتفت إلى نتاجه إلا بعد موته. ليعد ـ بعد هذا ـ من بين اكبر الكتاب البلجيكيين المعاصرين» ترجمة: عبد الواحد استيتو