صورة العربي الرهيب من أزمنة اغتصاب راهبات مرسيليا إلى مناوشات «جزيرة البقدونس»

ابن حوقل صور الغربيين بأقبح الصفات وجاءت الحروب الصليبية لترسخ سلبيات الصورة النمطية

TT

فتحت جزيرة ليلى جرحا مغلقا على كيد، وغلٍ وعنصرية، واعادت الى الاذهان بقوة وحذر قصة الوجود العربي في اوروبا من اول الحكاية حين كانت قوارب الغزو والفتح هي التي تتحرك باتجاه السواحل الاوروبية لا قوارب الموت، والهجرة السرية.

وجزيرة ليلى ليست هونغ كونغ، ولا كوبا، فالأسبان انفسهم يعترفون انها غير صالحة للحياة، ويسمونها جزيرة البقدونس islidel Perejil، لكن اي قارب عربي محمل بالعسكر يوقظ في مخيلتهم التاريخية، ما لا يستطيعون ـ وان أرادوا ـ نسيانه عن ذلك العربي القبيح، العنيف، الرهيب، المتعطش للدم والجنس والسيطرة.

وعلى ايقاع ما يسمونه احتلالا لجزيرة هي في الاصل مغربية يفتح الجميع دفاترهم القديمة وينبشون سيرة «أثيم» و «زاما» ويجب ان تكون خبيرا باللاتينية لتعرف ان «زاما» هو القائد العربي السمح بن مالك الخولاني، وان «أثيم» هو الهيثم الكلابي، ومع هذين القائدين تنفتح سيرة ما يسمونه «البربرية العربية» التي رافقت التواجد العربي المسلم في اسبانيا واجزاء شاسعة من جنوب ايطاليا وفرنسا.

والى تلك الايام تعود الصورة النمطية التي استقرت في الاذهان عن العرب والمسلمين، وهي صورة يعاد انتاجها مع كل أزمة، فالمخيلة الاوروبية لا تريد ان تتخلى عنها مع كل ما فيها من مبالغات تظهر «زاما» و «أثيم» وغيرهما من قادة الفتح والغزو على صورة شياطين تلغ في الدماء، وتبقر بطون الحوامل وتغتصب العجائز والعذارى، لكن هل يحتاج الانسان الى أدلة ليثبت ان سوء الفهم بين العرب واوروبا كان ضارب الاطناب، ومتجذرا منذ اول احتكاك في القرن الثامن الميلادي...؟

دع عنك حديث الاندلس، ومعركة بلاط الشهداء «بواتيه» وما يرافق الحروب عادة من بروباجندا ترفع عدد جيش المسلمين الى نصف مليون مع ان كل الذين نزلوا على البر الاوروبي لا يتجاوز عددهم الـ 18 ألفا، وخارج منطق البروباجندا وعلى هامشها ستجد بدايات وآليات تشكل الصورة النمطية للآخر، فالمخيال الاوروبي كرس ومنذ عام 738 ميلادية صورة العربي المتوحش، الشبق الذي لا يقيم حرمة للاديان ويغتصب النساء داخل الاديرة. واشهر صورة من ذلك النمط نجدها في قصة القديسة «أوز ابيه» رئيسة دير مرسيليا التي أتاها كما يخبرنا مؤرخو المرحلة «المور» ـ اسم يطلق على العرب والبربر ـ فخلعوا ابواب الدير، فجدعت الرئيسة والراهبات انوفهن ومع ذلك لم يمتنع المهاجمون «المجردون من الانسانية» عن اغتصابهن امام المذبح.

اما نحن فلم تكن نظرتنا لهم اكثر تفهما ولا تسامحا، فها هو ابن حوقل في المسالك والممالك المعروف بـ «صورة الارض» يصف الاوروبيين لنا في القرن العاشر بأوصاف استقرت في المخيلة بعد الاحتكاك الاول فيقول عن بلادهم انها مليئة بـ «البغي والحسد والنكد حسب ما خامر اهل الثغور من ذلك الى استباحة الفساد والفسوق والغدر والغيلة والتضاد والعناد، فجعلوا عبرة للمعتبرين».

* تحسن وانتكاسة

* وبعد مائتي عام من اغتصاب راهبات مرسيليا في ديرهن سيبرز عنصر ايجابي يترك للعرب الشهوانية، والتوحش، والتكالب على المال وينفي عنهم صفة عدم احترام الاديان، وذلك بفضل راهب آخر هو رئيس دير كلوني الذي أسره المور على طريق سان برناردينو ونقلوه الى جبل «كلال» جنوب فرنسا، ورافق اسره، وافتداءه الباهظ التكاليف (ألف لبرة) ـ بالباء ـ قصص كثيرة منها ان احد السجانين داس سهوا الكتاب المقدس الذي كان يحمله القديس «مايول» معه، فخاصمه بقية اصحابه، وانتهت المشكلة بقطع رجله بالفأس عقوبة له على خطأ غير مقصود.

وقبل ان نتفاءل بهذا التحسن الذي سيطرأ على صورة العربي داخل اوروبا سيتحول أسر رئيس دير كلوني عام 972 ميلادية الى محرض على الحروب الصليبية، حيث عادت الامور الى أسوأ مما كانت عليه، وصار المؤرخون واللاهوتيون يتسابقون في اسباغ كل صفات الفاحشة والتوحش علينا، وهي صورة سيعود عصر محاكم التفتيش ليعززها ويضيف اليها تهمة تعاملنا مع الجان لينصب محارق السحرة في كل مكان لكل من يستخدم عقله. وهكذا كان العربي الرهيب حجة لتصفية كل حركات التنوير المعارضة للكنيسة القروسطية.

وحتى لا تفهم الغزوات الصليبية من منظور الصراع الديني وحده، لا بأس ان نلاحظ مع كلود كاهن مؤلف كتاب «الشرق والغرب زمن الحروب الصليبية». ان مسيحيي المشرق كانوا اكثر تضررا من تلك الغزوات من المسلمين، فهم في النهاية كجيرانهم اصحاب عقيدة هرطقية لا يمكن التسامح معها، وهكذا رسخت الحروب الصليبية الصورة النمطية للعرب قاطبة بمسلميهم ومسيحييهم.

واللافت للنظر في تلك الحقب ان المؤرخين المسلمين ـ كابن الأثير مثلا ـ استخدموا لغة اقل تشددا من اللغة التي استخدمها مؤرخون وقساوسة ورحالة غربيون كوليم الصوري، وجيمس اوف فيتري، وجان دوجونيفيل، وايفس البريتوني، وماركو بولو، والى الاخير تنسب المهزلة الكبرى المتمثلة في تكريس جذور الصورة المتطرفة للحشاشين اصحاب الخناجر القصيرة الذين يذبحون بدم بارد، وهذه الصورة ستصبح نموذجا للشرق كله، وللاسلام بمختلف طوائفه.

ولأن التطرف على الجانبين له قنوات اتصال دائمة تصل الى حد التعاون المشترك سنكتشف من خلال رسالة من البابا غريغوري لرئيس اساقفة صور مؤرخة في 26 آب سنة 1236م ان اشرس فرقة صليبية وهم فرسان الاسبثارية كانوا هم الذين يحمون فرق الحشاشين ويشجعون انشطتهم. يقول البابا في رسالته: «... فقد بعثنا اليهم (الاسبثارية) بأوامر خطية ليكفوا عن حماية اولئك الحشاشين».

وقد ذكرت مثال الحشاشين تحديدا لأقوم بنقلة اخرى في اطار تحولات الصورة النمطية، ومؤشراتها، فالصورة تتحول تدريجيا عبر القرون، لكن الاصلية لا تغيب. فهؤلاء القوم يتربون على العنف وذبح الآخرين كما يقول جيمس اوف فيتري في تاريخ الشرق: «سيدهم الشيخ يأمر بتربية صبيان هؤلاء الناس في امكنة سرية تبعث على الفرح والبهجة، وبعد ان يجد في تدريبهم ويعلمهم مختلف انواع اللغات يبعث بهم الى المناطق المتنوعة مزودين بالخناجر، ويأمرهم بذبح الرجال العظام من المسيحيين».

* أحفاد الحشاشين

* وهذه الصورة النمطية وان كانت وليدة القرون الوسطى، إلا انها لا تسقط بالتقادم، ولا تنتهي صلاحيتها عند ثقافات تتغذى على عداوة الآخر.

فهذه الصورة جاهزة على الدوام لاستخدامها اثناء الازمات، وقد حدث هذا العام ما يؤكد هذا المنحى، فبعد هجمات سبتمبر (ايلول) على الولايات المتحدة باسبوعين خرجت علينا صحيفة «صنداي تايمز» البريطانية بمقارنة بين تنظيم القاعدة وتنظيم الحسن الصباح لتثبت ان هؤلاء احفاد اولئك، وان المذهبية، والاساليب واحدة.

وكي يستقيم الميزان لا بد ان نعترف بأن تواريخنا ايضا تمتلئ بأخبار دموية الفلول الغربية التي وصلت الى بلادنا واقامت ما يسمى ممالك الشرق اللاتينية في صور وانطاكية والكرك، واخبار عنف رينو الشاتيوني امير الكرك وقصص مذابحه اشهر من ان توصف. لذا اضطر صلاح الدين ان يقتله بيديه ونادرا ما كان يفعل ذلك عقوبة له على جرائمه.

ومن اشهر الجرائم الاوروبية في المشرق ـ وما أكثرها ـ الحكاية التي يرويها ابن ابي طي عن احتلال الصليبيين لطرابلس، فهناك لم يكفوا عن ذبح الناس إلا حين اكتشفوا حاجتهم لقوتهم العضلية للعمل في المزارع. وبأمثال هذه الصفات تكتمل الصورة النمطية المتوازنة لعنصرين رهيبين.. يقول ابن ابي طي: «لقد دمروا ايضا كل المساجد، وكانوا على وشك قتل كافة المسلمين، غير ان مسيحيا قال لهم: ليس من الحكمة ان تقوموا بذلك فهذه مدينة كبيرة، فمن اين لكم بالناس الذين سيقيمون بها، ما ينبغي القيام به هو ان تفرضوا عليهم ضريبة الاعناق بعد ان تصادروا ممتلكاتهم وتجبروهم على السكن بالمدينة، ولا تسمحوا لهم بالخروج منها وبذا يصبحون فيها كالمساجين فتستفيدون من اقامتهم بها. ثم انهم سمعوا له بعد ان ذبحوا عشرين الفا منهم».

والتفاصيل الدموية تملأ التواريخ حتى حافتها العليا، وهي موجودة بغزارة وتفيد من يريد تصنيع العداوات ولا نريد الخوض في تفاصيل الفرق والحقب. فالاسلام عند الاوروبيين جبهة واحدة، وقد شكل في تلك الفترة كما أكد ادوارد سعيد في «الاستشراق» جرحا مزمنا وعطبا واضحا لاوروبا، وذاك الفهم السلبي للعرب والاسلام والمسلمين هو الذي ساد وسيطر على ادبيات عهود الاستشراق الاستعمارية التي قامت باجراء تعديلات طفيفة على الصورة، واضافت اليها الوثائق هذه المرة، فحين وصلت الجيوش الاستعمارية الغربية كان العالم العربي في قمة التخلف، فالصورة التي عادت بها حملة نابليون الفرنسية بعلمائها ومؤرخيها لم تنقض الصورة التي عادت بها حملة لويس التاسع انما ثبتتها واعادت تأطيرها باضافات طفيفة لا تمس الجوهر.

وعلى مدار ثلاثة عشر قرنا من العداوات والدماء كان هناك ومضات تفاهم وتسامح لم تستطع الصمود امام طوفان الحقد والكراهية وتجريم الآخر فرسل هارون الرشيد وشارلمان لم يطوروا المسألة الى حوار، ومجالس المأمون العلمية اهتمت بالفرس والهنود لأنه لم يكن عند الاوروبيين ما يستحق الدرس، والرومانسية العربية في الاندلس التي سقت ظاهرة شعراء التروبادور في «البروفانس» سرعان ما بترها التزييف العلمي المتقن في الدراسات الاكاديمية للعهود الاستعمارية، عن جذورها العربية وهكذا ارتاح صناع الصورة فلم يعد هناك ايجابيات يمكن تقديمها عن هذا الاخر وبالتالي فإن قطع الحوار معه اسلم من مواصلته سواء استعيدت جزيرة «البقدونس» او لم تتم استعادتها.

وربما كان التراث الفكري لابن رشد والعلمي لابن الهيثم والفلسفي لابن ميمون وابن مسرة هو الاستثناء الذي ظل يحدث تحولات غير مرئية على الصورة النمطية، لكن تلك التحولات حوصرت داخل اسوار الجامعات في بادوا وليدن واكسفورد وغيرها من مراكز البحث ولم تستطع هذه التحولات ان تصل الى اغلبية الشعوب الاوروبية لتؤثر فيها لأن وسائل الاعلام لم تتبنها. فقد كان لتلك الوسائل التي تحرس الصورة النمطية موقف آخر يختلف عن الموقف الاكاديمي.

لقد بدأ الاعتراف مؤخرا وعلى استحياء بفضاء التسامح في الثقافة العربية الاسلامية، وتم تقديم اليهود الذين عاشوا فردوسهم الحقيقي في ظل الحضارة العربية مثالا لذلك التسامح الحضاري، لكن سرعان ما جاء الصراع العربي ـ الصهيوني ليضع حدا لتلك المحاولات، فالاوروبيون الذين نسبونا في العصور الوسيطة الى سارة زوجة ابراهيم الخليل واطلقوا علينا مع المور اسم: السراسينيين SARRASINE اكتشفوا حديثا ابناء سارة الحقيقيين، ودخلوا معهم بعد ان اضطهدوهم على مدار عشرات القرون في حلف لمحاربة ظاهرة معاداة الساميين دون ان ينتبهوا الى اننا ايضا من العرق السامي، فالصورة كما ترى وليدة خطاب فكري يتحول دون ان يفقد عناصره، ويملك دائما قابلية الازدواج والتحيز حسب بوصلة المصالح السياسية.

ويراودني الاحساس العميق بأن موضوعا خطيرا يتعلق بالصورة النمطية للذات والآخر وتحولاتها عبر القرون يحتاج وقفة اخرى نجلو فيها الغامض والخفي من خلفيات صورة ليست فوق الشبهات ترفض ان تختفي لأنها ما تزال تؤدي دورها، وتغذي التطرف والعنف عند الجانبين فمن يريد اقفال الحوار الحضاري لا يحتاج الى نعناع وبقدونس، وعنده تلك الخلطة التاريخية الجاهزة المروية بالدم لتنتج المزيد من التباعد وسوء الفهم.