الكتابة النسائية.. الذاكرة.. المغرب

سميرة المانع

TT

كيف يتفادى المرء الشكوك والاتهام عندما يكتب عن بلد ما، بشكل إيجابي، بعد زيارة له بدعوة قبل فترة وجيزة؟ لا يُلام من يعتقد أن الكتابة ستكون، في الغالب، مراعاة خواطر ومدارة أشخاص، إن لم تكن بصريح العبارة مجرد تملق ورياء، اعتاد عليهما بعض الأدباء بعد زيارتهم للبلدان، بنفس الشاكلة، وهذه مسألة عامة.

سأكون ممتنة لو اقتصر الظن بي فلا يزيد عن اتهامي بالمجاملة لاصحاب الدعوة، والكتابة لمجرد الرغبة في أن أرد الجميل لهم عن طريق سهل ألا وهو الكلمات. عجباً هل أنجو حقاً، إنها لمسألة عويصة، بل ورطة.

كم بودّي أن أهزل كما هزل صديق عراقي أديب مغترب في بلاد النرويج، عندما أرسل لصاحبه الساكن بلندن رسالة، مملوءة بالمرح وروح الدعابة والهزار، قائلا فيها: «لا بدّ أن الصيف اللندني ـ بما فيه النسوان الحليوات، وهنّ من نعم الله ـ قد امدكَ بالصحة والعافية وراحة البال. في عام 1998 كنتُ بلندن في الشهر السابع، وكان «الجو» حاراً، فوقفتُ في «شارع العرب» اُمتع النظر ببنات البترول الخليجي، وترف البترول على شفاههن واجفانهن، طفرت مني تصجيمة (تعليقة) على واحدة تستأهل، قلتُ مبتسما: «أموت عالكويت» ردت بسرعة البنات المتعودات على هكذا نفخ سياسي أو حرشة سياسية: «وهي هم «ايضا» تموت عليك، صدقة لله»، ظهر أن الـبُـنيّـة نص عراقي ونص كويتي وشوية بدون». السطور أعلاه اقتبستها حرفيا من رسالة طويلة مضحكة ممتعة، فيها إشارة سريعة، غير مقصودة بالطبع، تؤكد أن المرأة في المنطقة العربية، عموما، باتت متغيرة. لم يعد بيت الشعر لشوقي حيث يقول: خدعوها بقولهم حسناء والغواني يغرّهنَّ الثناء المتغنى به ببطر على شفاه الرجال، متمنين دوام استمراره، قادرا على الصمود بوجه هذه المتغيرات الجديدة بسلوك النساء، أو على التطورات الخطيرة في أخلاق المرأة وعلاقتها بالجنس الآخر. هي، كما يبدو، لم تعد فريسة ساذجة، سهلة لمن يريد القنص عن طريق الخداع. أما إذا وقعت، وهذا ما زال حاصلا لا شك إلى الآن، وتظاهرت بالرضى، قابلة بالدور المخطط لها، فسرعان ما يكتشف الرجل غباءه. يدرك، بعد فوات الآوان، أنها استعملته، بدورها، لاغراضها، وهي مجارية له لاسبابها الخاصة. معظمها تتعلق بالعوز المادي ينضاف اليه الجهل المتبطن ببصيرتها، وهذه سمة بارزة في مثل هذه الأحوال.

ما دامت الأمور تتغير بسرعة فائقة في القرن الواحد والعشرين، لذا من الأوفق للرجل، كنصيحة مجانية، أن يبدل استراتيجيته، إذا أراد أن يكسب قلب المرأة الحديثة حقاً. لم تعد الأخيرة، كما يُلاحظ، مكتفية وراضية بمن يتغزل بجمال عينيها أو شعرها أو طولها الفارع ورشاقتها. من الآن فصاعدا، عليه ان يفتش عن أشياء أخرى، عن أمور تتعلق بعقلها وذكائها. يحدثها كصديقة، أفكاره وافكارها بمثابة الند للند.

جلستُ في مطار الدار البيضاء وحدي متشبثة بمثل هذه التصورات. أنتظر الطائرة لتقلني إلى لندن بعد انتهاء ندوة «الكتابة النسائية: ذاكرة المكان»، المعقودة لمدة ثلاثة ايام في مدينة آسفي المغربية والتي نظمها المكتب المركزي لاتحاد كتاب المغرب تكريما للشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان. نظراتي مشتتة هنا وهناك، دماغي مزدحم بذكرى شخوص وحوارات الندوة الممتعة وما طرحته من آراء. أخبرونا أن مدينة آسفي الجميلة الواقعة على المحيط الأطلسي كانت المحطة المهمة للقائد العربي عُقبة بن نافع. آثاره ما زالت باقية فيها إلى الآن. أتذكر هذه المعلومة ثم أنتقل إلى ما يجري حولي في المطار. شاهدتهن بنات المغرب، اصحيح ما أرى؟ فتيات شرطيات، أخريات موظفات عموميات، فتاة شابة تلبس سروال الجينـز قربي على منضدة مجاورة بالمقهى، مع والديها وكلاهما بالزي الشعبي، الجميع ينتظر موعد إقلاع طائرتها التي ستقلها بعد قليل إلى إحدى الديار. الأب يضع يده على كتفها مشجعاً، تتحدث مع الآخرين بثلاث لغات، عربي، إنجليزي، فرنسي. كلا الوالدين ينظران لها بكل تقدير وإعجاب. يشعر الناظر لهم أن هذا الأب الواسع الصدر والأم المحرومة من التعليم، الحزينة لفراق ابنتها، يفتخران بابنتهما المسافرة إلى أماكن بعيدة. يعرفان أن ابنتهما صارت امرأة لا علاقة لها بالحريم، وهي خلاف امها المتدثرة بالخوف، تستطيع أن تقرأ ببساطة مواعيد هبوط الطائرات وإقلاعها المتقافزة على سطح لوحة الإعلانات في المطار. تذكرتُ أحد الشخصيات العراقية المعروفة، الذي تزوج من امرأة لجمالها وشبابها في الماضي. هرب منها ومن أمور أُخرى مؤخراً، مغتنماً فرصة هجرة القرن العشرين العراقية اللامسبوقة بتأريخهم كله، تركها مع ثلة صبيان وفتيات، أخبرني متضايقا، عندما سألته عنها: «دعيها، تصوري أن زوجة كاتب الطابعة عندي في الشركة تستطيع أن تقرأ لوحة إعلانات المطار، بينما هي لا تعرف». أردتُ أن أقول له، لولا الحياء: «وأنتَ ماذا كان دورك في جهلها؟ ألم تشجعها على الجمال والمظهر الخارجي فقط طيلة عيشك معك؟ ألم تحرمها من التعليم، وعملت ما عملت من أجل الإسراع بالزواج منها قبل إعطائها الفرصة؟».

لا أريد أن أذكر اسماء جميع النساء والرجال المشاركات / المشاركين في الندوة المذكورة أعلاه، لضيق المجال. لكنني، ومن دون استثناء، صرتُ سعيدة بلقائهن مع الرجال المشجعين المتحملين لهن، الذين كانوا هم سندهم. أداروا الندوة لهن ونظموها معهن بإخلاص. كانت ملامحهم ونفسيتهم تحمل نفس أريحية الرجل الكبير المتسامح الواسع الصدر الذي شاهدته في المطار مودعا ابنته. الاختلاف بين الاثنين هو كون نساء الندوة المشاركات، ملأن الجلسات بالتصريحات وعبارات التذمر والاستياء من الرجال الذين مارسوا عليهن وعلى اخواتهن عملية قمع واضطهاد منظمين ومنذ أمد بعيد. وهم جالسون يستمعون بصبر وصمت، يصغون بكل محبة وأدب وتقدير لآراء تلك النسوة المتحليات بزينة العقل قبل كل شيء. جالسة في مطار الدار البيضاء، فتشتُ أين ولادة بنت المستكفي تُرى؟ إنها ابنة أمير بالوراثة، لابد أن تكون لديها طائرة خاصة، باعتقادي. حولي أميرات بكفاءتهن وجدارتهن، لم تاتِ الإمارة لهن عن طريق الوراثة. المغرب يزهو ببناته من الجيل الجديد، السائرات حثيثاً لملاحقة العصر الحديث. انعكس هذا على ابداعهن الأدبي ايضاً. يطالعه المرء بفضول اليوم، عندما يعالجن بهمة وتصميم وشجاعة سوء اوضاع المرأة بالمغرب، فاضحات النفاق الاجتماعي وتردي أوضاعها الاقتصادية مع مصاحبة الجهل، ليستخدم جسدها، أحيانا، كبضاعة للمشتري الدافع ثمناً أعلى. إن الاكثار من التطرق إلى الهم الأخير في قصصهن، ليس من أجل الاثارة الرخيصة كما يجري في كتابات الجنس معظم الأحيان، وانما لفحص المشكلة من جميع أطرافها. المسألة، كما يظهر، تشبه معالجة موضوع الهم السياسي في كتابات المرأة بالمشرق العربي عموماً، تلك التي يئست من السياسيين بقدر ما فشلوا من ان يحققوا لها أو لاولادها حياة حرة كريمة في وطنها، بل ظلوا جاثمين عليه منغصين العيش فيه. لمَ لا يكون الأندلس المفقود متحققاً اليوم هنا؟ حتامَ نظل نبكي على ضياعه، نحنُ الكسالى، مكتفين بموشحاته:

زادك الغيث إذا الغيث همى يا زمان الوصل بالأندلس إنه موجود هنا، لو أردنا. أليس هؤلاء من حولي في المطار، من رجال ونساء احفاد اولئك الذين بنوا الأندلس من قبل على ارض اسبانيا؟ كيف ننسى الصنيع ؟ لمَ يظل الماضي حلما فقط، نتعشقه كجنة مفقودة، هاربين من الواقع المحزن إليه. جالسة، اليوم، وفي مخيلتي الأندلس وهو يبنى مرة أُخرى، على أكتاف هؤلاء. ينتشر الجمال، الفكر، التسامح، التلاقح المثمر بالحضارت. كل الإشارات تومئ اليه، موجودة على طول الطريق. لن نغادر اماكننا ونذهب الى ارض غيرنا اسبانيا، لدينا ما يكفي من عقول وانهار وجبال وحقول وخيرات. شيء واضح. لمَ الحيرة في الإعمار والبناء؟ أخبار المغرب تصل الى المشرق حتماً، ما دام الأمر على حد قول الشاعر الجزائري سعيد هادف في قصيدته «كيما يشع الصباح الخلاسي»: «ووهران أُنثى هلالية من سباسب نجد إلى الساحل البربري تمدد انساغها».

يعود المهاجرون التعساء من ابناء المنطقة إلى أوطانهم وذويهم بعد تشرذمهم في أنحاء المعمورة. كفى غرقا في البحار، متنفسين الصعداء، يجدون طوق نجاةٍ أخيراً.

منذ مدة طويلة صرتُ مقتنعة أن أقيس تطور البلدان بمدى ما تتمتع فيها المرأة من أمان وثقة بالنفس واحترام. بناء الأوطان لا يتحقق عن طريق الخرائط بالأطلس الجغرافي أو في هيئة الأُمم المتحدة. الوطن، كما يبدو، هو مقدار ما يكون سكانه راضين بالعيش به، يحبون البقاء فيه، يوفر لهم العيش الكريم بكل فضائله وامتيازاته، ابتداء من الحرية، إلى العمل، إلى العدالة في توزيع الثروة، إلى المساواة أمام القانون في القضاء. هذه كلها مجتمعة ستكون هدف الأندلس القادم. لقد وجدتُ نساء المغرب قربي متطلعات لتحقيق هذا الرخاء. حكمتهن ستصيبني. لن نكتفي نحن المشارقة بالمثل القديم في الزواج، ألا وهو: «بنت المغرب لابن المشرق» فقط. الموضوع أوسع من ذلك بكثير. ليس أمرا شخصيا فرديا لمجرد عقد زواج كغيره من الزيجات اللاحصر لها. إنه التلاقح المثمر، المتفرع من شجرة بالمغرب ممتدة إلى المشرق تحمل مميزات عطاء قارات ثلاث، آسيا وأفريقيا واوروبا. نسغ هذه الشجرة متأثر بغيره من انساغ في الكرة الارضية كلها، أيضاً. الأرض متصلة ببعضها بعضاً بجذور غير مرئية، كما تقول المؤسسة الاولى لحركة مكافحة التلوث بالعالم كله وعالمة البيئة الأميركية «راشيل كارسون». الكون واحد، ما يضر هنا يضر هناك والعكس صحيح. ستكون اختنا وابنتنا المغربية، إذا ما ضبطت الرؤية، كما وعتها من تجاربها المريرة القاسية، والمتكلمة بعدة لغات حالياً، مرشدتنا في سفينة العصر الحديث، التي طالما تحطمت على صخور اللامبالاة، القسوة، الأنانية، والغباء. إنها قادرة، لو واتتها الظروف، بتصوري، على تقديم شيء مفيد لها وللبشرية جمعاء، ولا أحسن من أن اشعر بقومي وقد صمموا ووافقوا على أن تدلهم امرأة، لا تأتمر بأوامر الرجال، بل بوصلتها حسها الأنثوي للمحافظة على الجنس البشري. ستكون الحروب آخر ما تلجأ إليه. ما أروع ذلك.