التجربة الفنية عندما تكون معادلا للحياة

التعامل مع الأسطورة والشخصيات التاريخية في «صهيل في غرفة» لنبيل ياسين

TT

لم استطع ابدا ان انسى عبارة نافذة وردت في محاضرة لاستاذنا الدكتور علي عشري زايد، استاذ النقد الحديث بدار العلوم ذات يوم من ايام مارس (آذار) عام 1977، عندما كان يحاضرنا عن «استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي الحديث».

قال: «ليس ورود اسم شخصية تاريخية، او حكاية اسطورية في قصيدة لشاعر ما برهانا على موهبته، او دليلا على عمق ثقافته.. بل طريقة تناوله الفني لهذه الشخصية، او تلك الحكاية، هي البرهان والدليل».

تذكرت هذه العبارة وانا اقرأ هذا الديوان. الديوان اسمه «صهيل في غرفة»، وصدر قبل اسابيع قليلة في الهيئة العامة للكتاب بمصر، في طبعة من طبعاتها الشعبية. وقصائد الديوان، لا تحمل عناوين، وانما هي مجرد ارقام، او فلنقل «فواصل للتأمل» بين قصائده. اذ لا استطيع ان ازعم ان ما بين دفتي هذا الكتاب قصائد مستقلة، بل يشكل الديوان كله قصيدة واحدة، ذات تجربة مكتملة وكاملة.

لذلك لن يكون غريبا لو قسمنا مقاطعه الى «حركات»، اذا شئنا ان نستدعي قاموس نقاد الموسيقى الكلاسيكية، لتسمية اجزاء هذا الديوان.

* المفتتح

* فلنبدأ بالمفتتح، وهنا يجب لفت الانظار الى ان «وحدات» او «حركات» هذا الديوان، تصعب قراءتها مستقلة عما قبلها او ما بعدها. فالتجربة الفنية واحدة، واللغة تعبر عن مرحلة بعينها في مسيرة الشاعر الفنية، ورؤيته بابعادها الوجودية والجمالية واللغوية شديدة الاتساق، اي تستطيع ان تعتبر هذا الديوان، بضمير مستريح، قصيدة واحدة، وان كانت طويلة طولا مفرطا.

يبدأ الشاعر خطوته الاولى لتوريط قارئه عاطفيا عبر ما يمكن ان تسميه «التماس الوجداني»: «مشينا معا هي التي مرت عليك كما تمر الطيور المهاجرة في قطعة غيم هي التي لم تبق الا قليلا إلا ريثما أبدلت الريح بالترانيم والرعد بالهديل، والبراري بالنافذة والوحشة بالعطر تلك التي رأيتها قبل الف عام».

مقطع يذكرك بمدخل «كارمينا بورانا»، وهي القصيد السيمفوني الشهير للموسيقار الالماني كارل اوف.. حيث هدير الوتريات يسير في طريق مستقيم تقطعه، بين الفينة والاخرى، ضربات الطبول.

فانت لا تعرف بعد من مشى مع من، لكن تفترض ان احدهما هو الشاعر والثاني امرأة، قد تكون، كعادة الشعراء، حبيبته الواقعية او الرمز (الوطن مثلا)، لكنه يلجأ، بمكر فني، الى التصوير البصري، عبر اسلوب اطلق عليه البلاغيون القدامى «الالتفات». فجأة يفاجئك الشاعر، وهذا جزء من محاولة توريطك في تجربته، بان يسرق انتباهك الى صورة خارجية تماما: «هي التي مرت عليك كما تمر الطيور المهاجرة في قطعة غيم هي التي لم تبق الا قليلا.. الخ..» المقطع السابق هو «المقدمة التصويرية» التي تنير لك الطريق، وتفتح لك باب تجربته الفنية والجمالية. وهي حركة مليئة بترسانة من الصور البلاغية الجزئية، تشبيهات ومجازات واستدعاء اسماء اسطورية، ترسم لك صورة متنوعة الابعاد، لا تملك معها الا ان تستسلم لمكر الشاعر، كما هذا المثال: «يكفيك هذا الرحيل الطويل يكفيك هذا الماضي الذي يتدحرج امامك مثل صخرة الماضي حاجز الدنيا الذي يلحسه يأجوج ومأجوج حينما يحل المساء لكي يخلطا الاحياء بالاموات حتى اذا حل الفجر تركاه للغد، فيعود كما كان قبل كل مساء».

انظر الى تلك الترسانة البلاغية التي حشدها الشاعر في المقطع السابق، من استعارة (الماضي الذي يتدحرج)، ومجاز (خلط الاحياء بالاموات)، واستدعاء شخصيات اسطورية لها دلالتها في الميثولوجية الدينية (يأجوج ومأجوج).

* الحركة الاولى

* ثم يعود الشاعر، في مقطع لاحق، وبالتحديد في المقطع الرابع، ليرتدي رداء الحكمة.. ومن من الشعراء لم يسع الى ان يرصع قصائده، او يدمج تجربته الابداعية بحكمته الخاصة، التي يتفاضل فيها الشعراء بمدى نجاحهم في ادماجها في تجربتهم الفنية. يقول: الحياة فاكهة..

هكذا قالت لي. وقالت لي: الموت شجرة.

حين يأكل كل انسان فاكهته يصل الى قطف الشجرة.

تلك هي الحكمة التي طلعت من برزخ تحت طلوع الشمس.

الفلاسفة الذين ناموا على صوت هدير البرزخ لم يفيقوا بعد.

اخذتهم سنة من النوم منذ الف عام.

تركوا وصاياهم لدى براذينهم وحميرهم كي يوقظوهم دون جدوى.

لقد اكلوا الفاكهة مرة وقطفوا الشجرة عامدين.

أهي الفاكهة المحرمة التي يشير اليها الشاعر؟

أم هي شجرة المعرفة التي اشار اليها التراث الديني السامي؟ فالفلسفة ـ الحكمة، كانت على الدوام، اضافة بالطبع الى العاطفة، من اسئلة الشعر، التي استخدم الشعراء مقولاتها لبناء وتشكيل تجاربهم الجمالية، بل كانت لحمة وسداة كل تجارب بعضهم (ابو العلاء المعري على سبيل المثال).

واليك مثالا آخر حيث تتحقق «وحدة المعرفة»، على الاقل فيه: كل شيء في التاريخ الا الشهوة.

لا يحتفظ لنا بها تاريخ ولا زمن. هكذا علينا ان نكون قراصنة ونهاجم سفن النساء في البحار لنأتي بهن الى المخادع والمقصورات.

ما زينة الحياة الدنيا؟ المال ام النساء ام الفكرة؟».

فهنا نجد نوعا من النسيج الفني، الذي يمزج بين عناصر ذات طابع حسي وديني وفلسفي وعاطفي، وهذا مزج شديد المعاصرة، لان التجربة الشعرية الحديثة، التي يعبر عنها الشعراء المحدثون، لم تعد مجرد تعبير عن تجربة فنية او حياتية، بل هي التجربة نفسها.. او الحياة نفسها بعد ان دخلت في مصفاة الشاعر الروحية والابداعية.

* الحركة الاخيرة

* وعبر اعادة انتاج جمالية للحياة كما خبرها الشاعر، او بتعبير ادق اعادة العيش فيها عبر اللغة، (الشعر هو، في الاصل ابداع في اللغة)، وعبر الصورة الفنية (الشعر هو فن التفكير بالصورة كما قال بول فاليري يوما) يختم الشاعر تجربته بثلاثة مقاطع يطول بعضها ويقصر: يقول في احدها:

«متى اقول للحب وداعا؟؟

لست اجرؤ على ذلك.

حتى لو وقف قبالتي حاملا حقائبه.

ومعدا فرسه ومطفئا نار الموقد ومستعدا للرحيل».