نزار قباني بعيداً عن المرأة.. قريباً من فلسطين

ميرفت دهّان تتابع جذور الالتزام السياسي عند شاعر المرأة في «نزار قباني والقضية الفلسطينية»

TT

شُغلت مجمل الدراسات حول نزار قباني بالوجه العشقي النسائي من قصائده، ولم يعن الكثيرون بشعره السياسي لا سيما البعد الفلسطيني فيها، وتأتي دراسة ميرفت دهّان «نزار قباني والقضية الفلسطينية» الصادرة عن «دار بيسان» في بيروت، لتلقي الضوء على هذا الجانب الذي لا بد أكل من عصب كل إنسان عربي.. وتحاول ميرفت دهّان في كتابها ان تتبع خطى نزار منذ البدايات، ملتزمة تقصي الخيط الزمني بدءاً من مجموعته الاولى «قالت لي السمراء» (1944) و«طفولة نهد» (1948) حتى مجموعاته الاخيرة، لتصفه من دون تردد بأنه شاعر ملتزم، بالمعنى الايجابي للكلمة، معتبرة قصيدته «خبز وحشيش وقمر» ارهاصة أنبأت بنكسة حزيران، ثم جاءت النكسة أو النكبة الثانية ـ كما يفترض ان تسمى ـ لتفجر رائعته «هوامش على دفتر النكسة» وفيها نعثر على الاحساس بالذنب والرغبة في الثورة والاقتصاص من الذات والآخر.

وقد كان لوقع حرب 67 بالغ الأثر في شعر نزار، مما استحق فصلاً كاملاً من الكتاب حيث نعثر على شاعر حانق، غاضب بعد الهزيمة، لأن العرب لم يستوعبوا الموقف الذي يحتم ان يقفوا وقفة رجل واحد، ولم يتضامنوا الا من خلال الخطب والتصريحات. وقد كان اول ديوان له بعد الهزيمة هو «يوميات امرأة لا مبالية» (1968) وفيه شن حملة ساخطة على الخرافات والزيف والجهل و واصحاب الطرق الشيطانية، وفيه يقول للمرأة: «ثوري، احبك أن تثوري، ثوري على شرق السبايا... والتكايا... والبخور، ثوري على التاريخ، وانتصري على الوهم الكبير...

ثوري على شرق يراك وليمة على السرير».

ولم يوفر نزار بعد الهزيمة الحكام، واطلق حملاته ضد الساسة كما في قصيدته «الممثلون» حيث يقول: «حين يصير الحكم في مدينة نوعاً من البغاء ويصبح التاريخ في مدينة ممسحة والفكر كالحذاء حين تصير نسمة الهواء تأتي بمرسوم من السلطان» حينها لا يخسر العرب معاركهم لاسباب عسكرية بقدر ما يكون الفساد السياسي هو السبب، هذا ما كان يفكر به قباني; الا ان عبد الناصر تحديداً، كان له في قلب نزار مكانة خاصة، بعد ازمة قصيرة انتهت الى مصالحة، بفضل رسالة وجهها الشاعر الى عبد الناصر قائلاً له فيها «يا سيدي الرئيس... لا اريد ان اصدق ان مثلك يعاقب النازف على نزيفه، والمجروح على جراحه، ويسمح باضطهاد شاعر عربي اراد ان يكون شريفاً وشجاعاً في مواجهة نفسه وامته».

وتلحظ الباحثة ان نزار في تلك الفترة العصيبة لم يحث فقط على مقاومة الاحتلال مظهراً بغضاً شديداً للصهاينة، وانما كان يعي تماماً ان المرض داخلي وان سوسة الفساد تنهش المجتمع العربي وتنخر في جسد الانظمة السياسية.

ومقابل الانهيار والانكسار كان نزار، بحسب الباحثة، يرى في المقاوم الفلسطيني شعلة الضوء الباقية في نهاية النفق، وقد احتفى بولادة «فتح» قائلاً: «جاءت الينا (فتح)/ كوردة جميلة طالعة من جرح/ كنبع ماء بارد يروي صحارى ملح/... كالسيد المسيح... بعد موتنا نهضنا...». ومجمل الكتابات النزارية واضحة في ايمانها بأن ما اخذ بالرصاص يسترد بالمدافع كما في قصيدته «طريق واحد» او «منشورات فدائية على جدران اسرائيل»: «ما بيننا وبينكم لا ينتهي بعام، طويلة معارك التحرير كالصيام، ونحن باقون على صدوركم كالنقش في الرخام، موعدنا حين يجيء المغيب، موعدنا القادم في تل ابيب «نصر من الله وفتح قريب»». من هنا احتفاء نزار بأطفال الحجارة وثقته بقدرتهم على الثأر «فقد بهروا الدنيا، وما في يدهم الا الحجارة... واضاءوا كالقناديل وجاءوا كالبشارة» وناشد نزار تلاميذ غزة ان يعلموا الرجال ان يكونوا رجالاً، لأن الصبي منهم يرمي حجراً او حجرين، يقطع افعى اسرائيل الى نصفين» كما جاء في قصيدته «دكتوراه في كيمياء الحجر».

اذا كان النصف الاول من الكتاب يبحث قضية التزام نزار قباني بالقضية الفلسطينية، فإن النصف الثاني يبرز اهمية الجانب الفني من قصائده وما لعبته تقنياته الاسلوبية من دور في خدمة المعنى، حين يكون محوره فلسطين.

هناك عدة عوامل فنية تفاعلت عند نزار واسهمت في ضخ شعره بالقوة واعطائه بعده الثوري، وأُلفته التي قربته من ذائقة الناس. واهم هذه العوامل هي المفردات التي جمعها من يوميات الكلام ووقائع الحياة العادية، الا ان الباحثة تلحظ ان هذه المفردات تكون ساخنة وطازجة وسهلة في الشعر السياسي كما في الغزليات. الا ان قصائد فلسطين تكاد تكون خلواً من المفردات العامية التي تكثر في قصائد الحب، وكأنما هي قصائد ـ بالنسبة له ـ اكثر جدياً ورصانة. واذا اضفنا الى حيوية المفردة النزارية لجوءه الى التنقل بين اساليب التعجب والنفي والاستنكار والاستفهام، وحرصه على تكرار بعض الالفاظ ذات الوقع المؤثر ومن ثم تضمينه الشعر آيات قرآنية، ولجوئه الى استعادة الشخصيات التراثية مثل جرير والخنساء وعنترة العبسي مستريباً من الرموز، في الاحيان، ومطالباً بـ«قراءة ثانية لمقدمة ابن خلدون» هارباً من «بني حجر ومناف وكليب» متعباً من عبء تاريخي لأنه بات يشعر بالضبابية حياله، راغباً في الارتداد الى الطفولة الاولى حتى وهو في الكهولة: «عائد الى محارتي»، «عائد الى سرير ولادتي»، «هل خرجت حقاً من بطن القيروان ام انني ما ازال كالنبي يونس في جوف الحوت».

كتاب ميرفت الدهّان حول نزار يظهر الشاعر، بعد اكثر من اربع سنوات على وفاته، مواطناً عربياً غيوراً على الأمة ومصالحها، حزيناً لما ينتابها من تصدع، ومع ذلك يبقى قادراً على السخرية والهزل والعمل كنحات بارع، يدرك انه عاجز عن التغيير والتأثير الفوريين لكنه مؤمن تماماً ان ثمة صياغة كلامية، كالتي تعب في ترصيعها، بإمكانها ان تؤثر كما نقطة الماء الملحاحة حين تتوالى على الصخر.