شخصيات روائية تتشابه في شيء واحد: البشاعة

من الطريف أن يختار الشاعر عباس بيضون كتابة رواية ذات نكهة بوليسية من دون ستار الشعر وموارباته اللغوية

TT

ليست رواية عباس بيضون «تحليل دم» (صدرت مؤخراً عن دار رياض الريس) هي حكاية «صفية» او «أمينة» او «سميحة» او اي من الشخصيات العديدة التي تطل برأسها من النص. وعبثاً يبحث القارىء عن نقطة ارتكاز يتكىء عليها ليقول: «ها انا قد امسكت بالخيط الاساس واسترحت». فالراوي نفسه الذي نفترض انه يقودنا في رحلتنا داخل تفاصيل الرواية، يعاني من اضطراب في الرؤيا. وربما ان الشيء الاكيد في مسار هذا الراوي المتخبط، هو انه يبحث عن نفسه في متاهات نفوس الآخرين، وكلما ازداد معرفة تفاقم جهله وقلقه.

تفتتح صفحات الرواية بحداد يصفه الراوي بأنه «صفيق»، فقد مات عم الراوي الشاب المهاجر الى دكار، وقضى نحبه في ظروف غامضة. وتكاد الرواية تكون كلها ملحمة حداد على سلسلة من الموتى كما يخبرنا راوينا: «جعلتني وفاة كل من عمي وأبي وأخي بحادث، ابدو ناجياً واشعر احياناً ان نجاتي بقصد». واذا اضفنا الى ذلك، جنون العمة ومن ثم موتها وفجور العمة الثانية، وجنون موسى، احد اقرباء العائلة ومن ثم اختفاؤه فإن المحطات الحدثية المتتالية هي استعادة لحيوات كريهة، مقيتة، تأخذنا في مد وجزر لنعود في كل مرة الى موت العم تحديداً. هذا الموت الملغّز الذي اجتمعت فيه تعقيدات العائلة والوطن من جهة وفساد المهاجرين الى افريقيا بحثاً عن الثروة والربح السريع من جهة اخرى. فقد عمل العم بمساعدة قريبه وسميه موسى في البحث عن الماس وسط عصابات ووكلاء لا يؤمن جانبهم وانتهى الى موت غامض لن تنكشف خيوطه بانتهاء الرواية. لان لعبة المؤلِّف تقتضي ان يوهمنا بأننا في غمار رحلة البحث في امر جريمة وداخل حكاية بوليسية لنكشف في نهاية المطاف ان عباس بيضون يوصلنا، من حيث ما كنا ننتظر، الى كشف عن النفس الانسانية عبر شخصياته التي هي على شدة اختلافها تتشابه في شيء واحد وهو: «البشاعة». فالانسان في الرواية مشوه، ضائع، مرتج الاحاسيس، فيه قبح خارجي يكشف عن عفن داخلي عميق. فالعمة لها حبة قبيحة على انفها، وهي حين تتكلم تُخرج من داخلها الفاظاً مخيفة. اما الاب فيبكي في جلده، لان دمعه قد انحبس، تكدست الافرازات في داخله وصارت تخرج منه عرقاً له رائحة «بول»، «يخلع حذاءه بين الناس فتعمي رائحة جواربه الجو... انها ليست دموعه المحتقنة فحسب ولكن افكاره الميتة». اذن جثث الافكار تسمم الدواخل وتجعل روائحها قاتلة. ومن يبكون ليسوا افضل حالاً من هذا الاب الذي حرم ذرف الدموع. فها هو الشيخ المسنّ صديق الوالد يبكي لكن الراوي يصف هطول دموعه «بالمثانة الفالتة». والعم الذي جعل حياة العائلة حداداً دائماً كان سميناً أكولاً لا يشبع انه «كيس لحم» او «برميل لحم».

الراوي ذاته يشكو البشاعة، فشعره الجعدي وعيناه الضيقتان من الاشياء التي لا يحبها في نفسه، وجهه بيضاوي «اشبه بالقدم»، فمه نما وكبر وصار «شدقاً» وشعره اشعث خشن ركّب على رأسه «كالهشيم».

وبالامكان فهم هذه النظرة المتحاملة على الجسد حين نقع على العبارة التالية: «الدهن، العرق، البول. أليست هذه احشاءنا اولاً. كيف نزيل رائحة لم يعد لها جسم يقاوم؟ القرف، نعم القرف مرض الذين لا يشتمّون، او بالاحرى الذين لا يقدرون على قتل اي رائحة، ويتنفسون فقط انفسهم».

النساء الشابات اللواتي اصبن شيئاً من نفس الراوي وحدهن الناجيات من تلك النظرة الملعونة التي لا ترى في الانسان الا نتناً، وقبحاً وعفناً لا فكاك منه. انما صفية خطيبة العم السابقة التي صارت حبيبة للراوي وكذلك امينة الصبية الشقراء التي نافستها على حب العم جميلتان لكنهما محاطتان باجواء المهربين واللصوص والقتلة. وابحث كما تشاء في الرواية لن ترى شيئاً يمكنه ان يكون فاتناً او متفلّتا من البشاعة سوى الصبا الانثوي، الذي وحده يستطيع ان يحجب ويغلب القذارة الباطنية في رواية «تحليل دم».

لا بد انه من الطريف، ان يختار الشاعر عباس بيضون، وبعد حوالي عشرة دواوين شعرية، ان يكتب رواية ذات نكهة بوليسية يقول فيها رؤيته للإنسان من دون ستار الشعر وموارباته اللغوية.

وحيلة بحث الراوي عن العم واسراره هي محض خدعة ادبية كما يعترف قائلاً: «لم اعرف اين تقودني تلك القصاصات العديمة الجدوى التي وجدتها في اربع علب صفيح» وغير القصاصات هناك الوثائق والرسائل والصور، وهناك ايضاً صفية التي عايشت العم قبيل مقتله، ورغم ذلك «لا تبوح بما يشفي الغليل».

فليس القصد، على ما يبدو، ان يبوح هذا او ذاك، بما حصل للعم الفقيد وإنما ان تتفتق ألسن هؤلاء بما يجول في دواخلهم وخبايا غيرهم، ويُعطوا الكاتب فرصة البوح بواسطتهم.

لقد لجأ عباس بيضون الى تقنيات عديدة، ربما اربكت السرد بدل ان تسهل المهمة. فالحكايات تتناسل والازمنة تتداخل والسير تمتزج ببعضها البعض، والامكنة تصبح امتداداً جغرافياً واحداً في نفس المهاجرين المتنقلين من قارة الى اخرى، وقصص الحب ليس لها بدايات او نهايات واضحة. والموت حزن حالك ومدمر او هو ليس حزناً كما يشرح لنا الراوي بعد صفحات من الحداد الطويل يتحدث فيها عن تأثر والده بموت اخيه الذي لم يكن ذاته حين ودع ابيه: «حين توفي والده عاوده قلقه الدائم من ان لا يحزن عليه. بل خشيته من ان يكون تمنى ذلك في قرارته. ان يكون اشتهى فعلاً موت كل قريب منه».

هكذا تبدو الرواية وكأنها تحكي عن الشيء وضده في وقت واحد. وكل كلام يحتمل عكسه وكل حقيقة تنتظر ما يخالفها. إنها الرواية التي لا تحمل نفسها عبء مصالحة الاشياء لمجرد انها بحاجة لان تتصالح في ذهن القارئ، انها تترك للقارئ ان يحبها او يهجرها او يلعنها دون ان تبالي.