فن العيش في المدن

الشوق هو صفة خاصة بالعرب لكننا عادة نخلط بينها وبين عاطفة الحب

TT

قبل أيام قليلة، غادرت سكني وعملي الذي حققت فيه قدرا من النجاح، بعد سنوات من الجهد الشاق، لكن الأكثر أهمية كان تركي لأصدقائي.

الشعور بالمنفى شيء غريب. فهو مثل العضو الحي قادر على تجديد نفسه بنفسه. ففي كل مرة يبدأ من أصيب به بالاسترخاء والانتماء، يتمكن هذا الشعور من فرض نفسه على ضحيته مرة أخرى. فهكذا بعد ست عشرة سنة في إنجلترا أجد نفسي هذه المرة في باريس.

غرفتي صغيرة ونظيفة ومضاءة بشكل جيد ـ مثلما كان يقول همنغواي ـ وفيها كل ما أحتاج إليه. المشهد الخارجي متواضع لكنه مليء بالحيوية وأنا مندهش للسرعة التي أصبح فيها أليفا بالنسبة لي. لصعود درجات السلّم العالي مكافأة تتمثل بقدرتي على مشاهدة السماء وسطح البناية المائل . الشيء الوحيد الذي لم أتمكن من تبريره هو صمت الطيور، التي أراها جاثمة فوق المداخن، لكن بدون أن تشدو. كأن مجيئي دفعها إلى الانغمار في إجراء تحقيق صامت وجدّي أدى إلى تعكير روتين حياتها.

مع ذلك قاومتُ بشكل متعمد كل إغواء بزيارة معارض ومتاحف باريس ـ بالقيام بأقصى جهد لتجنب سياح الصيف وتجنب شيء آخر تعلمته من العيش في المدن وهذا هو التسرع في اكتشاف أسرارها ـ لكنني لم أستطع مقاومة الذهاب إلى مقبرة مونتبارناس. فلعدة أيام بقيت أذهب إلى هناك كل عصر. فالكاتب الأرجتيني جوليو كورتازار مدفون هنا. وكذلك، موباسان، وسيمون دو بوفوار جنبا إلى جنب مع زوجها جان بول سارتر; والشاعر الفرنسي العظيم بودلير، وصمويل بيكيت الروائي والكاتب المسرحي الآيرلندي الذي تبنى اللغة الفرنسية وجنسيتها لاحقا، ثم هناك الرائعة مارغريت دوراس. وهؤلاء هم الكتّاب فقط. وهناك الموسيقيان سيزار فرانك وسانت ساين يرقدان بصمت أيضا. وعظام النحاتين دالو ورود ولورينس موجودة هنا. والأخير يرقد جنب تمثاله «الألم» المنصوب فوق قبره.

وعلى الرغم من أن الفنانين الموتى لا يجذبون الكثير من السياح، مع ذلك كان ممكنا مشاهدة البعض منهم يتجولون بين القبور بحثا عن شاعر ميت.

منذ فترة طويلة وأنا مولع بالمقابر: هدوئها، والشعور الذي يغمر الشخص داخلها ببلوغ المرفأ النهائي، والأكثر من هذا وذاك ما تحمله من جماليات خاصة بها. كان ذهابي الأول إلى مقبرة حينما توفي جدي. بقينا ننتظر هناك حتى ظهور الشيخ المصري الضرير وهو يتقدم صوبنا. كانت طاقيته الأزهرية الحمراء الطافحة بضوء الشمس تحدد موقعه كمَعْلم بين القبور، وعند وصوله صافحنا فردا فردا ثم جلس بجانب قبر جدي وراح يردد بعض الآيات القرآنية. بكت أمي. أما أبي وأخي فتلبستهما تلك التعابير الجدية التي تخلقها مناسبات كهذه لدى الرجال. شعرت آنذاك بالانغمار الكلي في سكون ذلك المكان وهدوئه. حينما كنت صبيا أخبِرت كثيرا عن العذاب الذي يلحق بساكني القبور، لكن كيف يمكن أن يكون هناك عذاب في مكان كهذا مع كل هذا الهدوء الساكن في ثناياه؟ تردد ذلك السؤال في نفسي آنذاك.

بين كل المقابر التي زرتها تتميز مقبرة مونتبارناس بسكون خارق للمألوف. بل انها أصبحت سريعا مكان الزيارة المفضل بالنسبة لي.

ذات مرة، كنت جالسا في إحدى طرقاتها المشجَّرة التي تفصل ساحات القبور بعضها عن بعض، وإذا برجل عجوز يظهر أمامي. كان يرتدي بذلة بيضاء وقبعة بانامية. توقف قليلا، ثم نظر في ورقة بين يديه، ثم استدار واختفى بين القبور. فكرت آنذاك: كم جميلا أن يظهر من وقت إلى آخر كائن حي. هل جاء بحثا عن محبوبته؟

لكنه ظهر لي لاحقا حيث كان جالسا على مقعد خشبي طويل، وحالما وضع عصاه جنبه تحولت إلى كائن بلا حياة. بعد أن استراح فترة طويلة استعاد حركته حيث راح يمشي ببطء ينافس حركة الزمن، ولا يتطلع إلا إلى الأرضية، لكنه حينما توقف ليسترجع أنفاسه التفت إلى المسافة التي تركها وراءه كأن صديقا ظهر له فجأة وراح يقترب منه. فكرت آنذاك: هذا هو ما يعنيه الوطن. مكان مألوف، وطقوس مألوفة، نوع النسيم الذي تميزه بسهولة.

اليوم، وبينما كنت جالسا في المقهى، شعرت ولأول مرة أنني خال من الشعور بالشوق لأي شيء. فمنذ فترة طويلة وأنا سجين لذلك الشعور المتواصل والغريب بشوق عميق، لا لمكان ما أو لوقت ما أو لشخص ما، بل هو شعور بشوق مطلق لا يمكن إطفاؤه برؤية أي شخص أو أي مكان. وإذا تمكن هذا الشعور من التسلل إلى أنفاسي ثانية، فإنه وللحظة واحدة، تخلى عني حينما كنت في تلك المقهى: هاآنذا أشعر أخيرا بالتحرر منه. زرعت تلك التجربة ضيقا في نفسي، إذ كشفت لي كم كان ذلك الشوق المجرد قاسيا معي. أشعر أن الشوق هو صفة خاصة بالعرب. فكل أغانينا وقصائدنا وعلاقاتنا تطري هذه الصفة. بل نحن عادة نخلط بين عاطفتي الحب والشوق بشكل مشوش.

لكنني وللحظة في تلك المقهى شعرت بأنني إنسان خال من الشوق. ربما ذلك ما يعنيه الموت. نوع من العودة إلى الوطن الذي ينطفئ الشوق فيه إلى الأبد.

منذ ذلك الوقت راحت الطيور تغرد في المقهى. إنه شيء جميل حقا. وكلما أسمعها الآن، أغلق عينيّ انتشاء.

* شاعر أميركي من أصل ليبي