مبارزات غرامية لمخيلات مختلة و«دون جوانات» في جلود الخرفان

يزيد بن الطثرية ومياد الجرمي يخوضان أغرب مباراة في المضارب العربية لاختبار عفة النساء

TT

كلام ابن الزبدة، زبدة الكلام، وحكايته، خلاصة «الفشر العربي»، وما تنتجه ثقافة الاعلاء من شأن الذات الى السموات العلى، وارسال الآخرين الى اسفل سافلين، هذا غير العقد النفسية وما تفرزه من كوارث مركبة.

ولك ان تنسب كل الشرف الى نفسك ونساء قبيلتك، لكن ذلك الشرف يظل ناقصا ان لم تُقر به للآخرين وانت ولا شك «أهبل او تكاد» ان لم تعترف بالقانون الطبيعي الذي لا يمنح المجد كاملا لك والذل والعار للآخرين، ففي كل صندوق فاكهة ومهما كانت جودته هناك واحدة معطوبة او اكثر، لكن هل النساء صناديق فواكه والخارجة منهن على أعراف القبيلة هي المعطوبة، ام ان العطب في المخيلة الجماعية التي تصدق التخاريف والنرجسيات.

وبلا طول فذلكة فإن قصة يزيد بن الطثرية تصلح لاختبار تلك المخيلة المختلة التي تضع كل العيوب في نساء الآخرين لتسلبهم حق المفاخرة بالشرف والعفاف، وبذا تظل هاتان الصفتان حكرا على من يصنع الرواية ويضع الدراهم في جراب الراوي.

ولأن الرواة يرون الشك في عينيك قبل ان يبدأوا بالحديث، يبنون سلفا مسرحا كبيرا معدا للحدث الكبير، فأنت على وشك ان تشهد اليوم مباراة في الشرف بين قبيلتين، ولن تستوعبها وتصفق للرابح ان لم تشاهدها على خشبة متقنة الصنع، فالمسرح والزخارف احيانا يعوضان نقص النص وعدم اتقانه، خصوصا حين يكون مكتوبا بنيَّة الفشر الأكيد.

ويزيد بن الطثرية ليس عاشقا فحسب، ولكنه دون جوان كامل الاوصاف والمقاييس، ويجب ان يكون كذلك حتى ينجح في سلب نساء قبيلة كاملة قلوبهن. وكانت مباراة الشرف الرفيع كما يخبرنا الرواة بين قبيلة جرم وقبيلة قشير، والاولى كما يوحي اسمها من العرب شبه البائدة، اما الثانية فقد ظلت فاعلة ومتواجدة وخصوصا في ميادين الغزل حتى القرن الثالث الهجري، ومنها لمن يذكر الصمة القشيري صاحب قصيدة «حننت الى ريا ....» التي تحب لأجلها كل ذرة رمل في نجد حين تسمعها بصوت فيروز.

وكي يوضح الرواة اصول اللعبة قبل ان يصلوا للمباراة، يزعمون بلغة أبي الفرج ان «الغزل في جرم جائز حسن، وهو في قشير نائرة»، اي مكروه ومستهجن، ويضيف الشارحون الى الرواة بعدا اجتماعيا فيوضحون بأن قشير الضاربة في البداوة كانت اقرب الى الخشونة وجفاف الذوق على عكس جرم التي عاشت على اطراف المدن، فتأثرت ببعض عادات الحضر في علاقات الرجال بالنساء.

وقد اقحلت ارض جرم فارتحلت القبيلة ونزلت بجوار قشير وكان فيهم فتى اسمه مياد وهو غزل حسن الوجه، تام القامة، آخذ بقلوب النساء.

والعبارات السابقة ضرورية في تجهيز المسرح، فمياد هو الخصم الذي سيواجه يزيد بن الطثرية القشيري في لعبة تجريب عفة نساء كل قبيلة، ولا بد ان يكون مياد الجرمي كذلك ليواجه يزيد، فالأخير ايضا كان من احسن الناس وجها واطيبهم حديثا، وكان يفتن النساء برقة حديثه وحسن غزله، والصفات الذاتية تلك تنبيك ان الرواة كانوا يحضرون قشير سلفا للنصر على جرم في مبارزة الغرام والانتقام.

* الثقة بالنساء

* والآن الى صلب النص فقد استغل مياد الجرمي غيبة رجال بني قشير عن حيهم، وذهب الى القشيريات يطلب الغزل والمحادثة فرددنه ردا قبيحا وارسلن للرجال عجوزا لتخبرهم بما يجري لنسائهم في غيبتهم، فاستشاطوا غيظا ودعوا فورا الى اجتماع طارئ لقرار جاهز وغير مسموح فيه بأي «فيتو» او تعديل.

وطرحت في ذلك الاجتماع افكار انتقامية متشنجة كثيرة، لكن صوت العقل انتصر ليكتمل النص، فقر قرار القوم على ان يشكو مياد الى شيوخ قبيلته ليقوموا بتأديبه على ما فعل.

ويخبرنا ابو الفرج المولع فنيا بأمثال هذه الروايات، ان وجوه قشير جاءوا الى بني جرم فقالوا غاضبين ومستنكرين لعادة الغزل المكشوف: ما هذه البدعة التي جاورتمونا بها؟ وان كانت هذه البدعة سجية عندكم فليس لكم عندنا رعاء ولا سقاء فابتعدوا عنا او آذنوا بحرب.

ولما استفسر الجرميون عن سر ذلك الغضب وسمعوا حكاية مياد قهقهوا ضاحكين وقالوا للجرميين: لعلكم لا تثقون بنسائكم لذلك تقولون هذا الكلام وهنا تطاير الشرر من العيون، فكل شيء مباح ويمكن تبريره إلا التشكيك بشرف نساء القبيلة.

وعند ذلك الحد وحين صارت الايدي على مقابض السيوف ولعلع الغضب على الالسنة وفي الصدور ظهر الاقتراح المبيت في ذهن الراوي على لسان شيخ جرمي قال:

«الرأي عندي يا بني قشير ان تبعثوا رجلا الى بيوتنا اذا خلت الديار من الرجال ونبعث رجلا منا الى بيوتكم لنفس الغرض ـ اختبار عفة النساء ـ ونتحالف ألا يخبر رجل منا زوجة ولا أختاً، ولا بنتاً بما دار بين الرجال».

وزيادة في الحيطة التي لا يفكر بها بذلك الاسلوب إلا كل مخرج قدير، اقترح الشيخ الجرمي ان يأخذ المتبارزان علامة من كل امرأة تقبل الغزل، ونجح الاقتراح بالاجماع ونام القوم بانتظار اليوم الموعود بعد ان اختار الجرميون مياد، واختار القشيريون يزيد بن الطثرية، وهو زبدتهم قولا وفعلا واسما، فالطثرية لغة تعني زبدة اللبن، فالرجل زبدة ابن زبدة او: Creme de la creme، كما يقول الفرنسيون الذين لا يجرؤون على وضع نسائهم في تجربة من هذا النوع العربي الفريد في المبارزات الغزلية ربما لأنهم يعرفون النتيجة سلفا، ولا يريدون احراج النساء بهذه الاساليب العربية في الاختبار.

ولم يكن جمال ابن زبدة اللبن سلاحه الوحيد، فهو شاعر حسن الغزل وبعض قصائده مما يعده النقاد من عيون الغزل كقوله في وحشية:

امسى الشباب مودعا محمودا

والشيب مؤتنف المحل جديدا

وتغير البيض الاوانس بعدما

حملتهن مواثقا وعهودا

وان لم تجد جديدا في هذا المعنى وهو ليس من زبدة المعاني، فهناك ابيات اخرى يعدها ابو محضة الاعرابي من مغنج الكلام ومنها:

بنفسي لو من من برد بنانه

على كبدي كانت شفاء انامله

ومن هابني في كل امر وهبته

فلا هو يعطيني ولا أنا سائله

واين هذه «المغنجات» من غنج ديك الجن الحمصي «يا رقيق الدل والغنج»، لكن للاعراب في ما يهوون مذاهب فلا تلمهم اذا ادخلوا الحب في باب الهيبة كي لا يضطر الحبيب ان يُسأل فيجيب كما فعلت الجرميات اللواتي تأخرن في رواية قصتهن مع يزيد واظنها صارت معروفة، لكن لا بأس ان نرويها بسند ابي الفرج مرفوعة الى سعاد بنت يزيد بن زريق ـ وانظر الى الخبث هنا ـ فالمرأة حين تروي عن النساء تصبح اكثر مصداقية لأنها تعرف خباياهن اكثر من الرجال.

* يوم الامتحان

* تقول سعاد بنت زريق في روايتها عن اليوم الذي اعقب الموافقة على مبارزة الغرام:

«فلما كان اليوم الثاني غدا مياد الجرمي الى القشيريات وغدا يزيد بن الطثرية القشيري الى الجرميات، فظل عندهن بأكرم مظل لا يصير الى واحدة منهن إلا افتتنت به وتابعته على المودة، وقبض منهن رهنا، وسألته ألا يدخل من بيوت جرم إلا بيتها فيقول لها: وأي شيء تخافين وقد اخذت مني المواثيق والعهود وليس لأحد في قلبي نصيب غيرك، وما زال كذلك حتى صليت العصر فانصرف يزيد بفتح كثير ـ خواتم ودبل واساور وبراقع ـ وانصرف مكحولا مدهونا شبعان ريان مرجل اللمة».

والآن وقبل ان تفرح مع هذا الدون جوان المنتصر القِ بالله عليك نظرة على حال ذلك الجرمي المنكود واسمع مصيره على لسان سعاد ايضا:

«وظل مياد الجرمي يدور بين بيوت القشيريات مرجوما مقصى لا يتقرب الى بيت إلا استقبلته الولائد بالعمد والجندل فتهالك لهن وظن انه ارتياد ـ رغبة ـ منهن له حتى اخذه ضرب كثير بالجندل ورأى البأس منهن وجهده العطش، فانصرف حتى جاء الى سمرة ـ نوع من الشجر ـ فتوسد يده ونام تحتها نويمة حتى افرجت عنه الظهيرة وفاءت الاظلال وسكن بعض ما به من الم الضرب وبرد عطشه قليلا، ثم قرب من الماء حتى ورد على القوم قبل يزيد فوجد أمة تذود غنما في بعضن الظعن فأخذ برقعها وقال هذا برقع واحدة من نسائكم، فطرحه بين يدي القوم وجاءت الأمة تعدو فتعلقت ببرقعها فردوه عليها وخجل مياد خجلا شديدا».

وقبل ان تظن ان القشيريين اخبروا نساءهم بالامتحان شاهد معنا الآن المشهد الاخير: «عودة المنتصر»، فقد جاء زياد في المساء وكاد القوم ان يتفرقوا، فنشر ما معه بين ايديهم، فاذا بكمه ملآن «براقع وذبلا وفتخا» فاسودت وجوه جرم، وبسط كل رجل يده الى ما عرف، فأخذه وتفرقوا عن حرب.

ولا نعرف لماذا اسودت وجوههم اذا كان الغزل عندهم جائزاً، ولكنه الراوي الذي ما كاد يصل الى آخر الرواية حتى نسي اولها، فهو سارد فاشل لا يهمه القص بقدر ما تهمه العبرة. فبيت القصيد عنده ان القشيريات شريفات. اما الجرميات فلا يمنعن يد لامس، ولا يقلن: لا لمن يعابثهن من الغرباء.

ولا تنته القصة «دون جوان اللبن» هنا، فالعقدة الاولى ليست إلا سلما يقودك الى العقدة التي تليها، وهي قصة لا تقل غرابة عنها، لأن يزيد بن الطثرية وقع اثناء اختباره للجرميات بحب واحدة منهن هي وحشية، فلما احبها تغيرت عادات جرم، ومنعوه من الوصول اليها، فصار يأتيها بين القطعان وهو يحبو على اربع وعلى ظهره جلد خروف، فتسر به وحشية وتدخله سترها وتجمع عليه من تثق بهن من صويحباتها فيقيم اياما بلياليها، ثم يعود. ولولا الخجل لتمادى الرواة في وصف هذه البوادر الاولية للغرام الجماعي، لكنهم سكتوا، وحسنا فعلوا، فتقاليد السمر العربية الليلية لا تقل نفاقا عن احاديث النهار، وما هذا اللبن إلا من ذاك الحليب.

وقصص يزيد بن الطثرية في التغزل بوحشية وغيرها اكثر من الحصر، وسمعته بين شعراء الغزل لا تقل «فتاكة» عن اي شاعر لهج يفوز بالطيبات ولا يأبه بمراقبة الناس، وقد صدق هو نفسه سمعته «الدون جوانية» فكان يقول: من افحم عند النساء فلينشد شعري.

وليس في شعره ما يفك عقدة اللسان طبعا، لكنها العاهة العربية الدائمة للرجل العربي الذي يظن كل ذات برقع مشروع طريدة يجب ان تسقط في شباكه بغمزة او كلمة او لمسة، وكلها حكايات يجب ادخالها في باب «الطرديات». وحكايات الصيد والقنص لا تحت بند العواطف الانسانية، فالحب ارقى من ان يختزل ويبتذل بهذه الطريقة المريضة التي تسيء الى عمقه وشفافيته وتنزله الى مستوى «التسالي» ناهيك من خطره الاعظم الذي يقزم المرأة وعواطفها ويحيلها الى مجرد دمية لا عمل لها في الحياة غير الاستجابة لنرجسية اصحاب العاهات.