شكسبير يطل من برجي مركز التجارة العالمي

تحولات سبتمبر تطغى على عروض مهرجان القاهرة الدولي للمسرح

TT

برزت التحولات الفكرية والسياسية التي عاشها العالم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) 2001 عددا كبيرا من العروض التي قدمت حتى الآن ضمن فعاليات الدورة الرابعة عشرة لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، وامتزجت هذه التحولات بالأسئلة الفكرية والجمالية التي أثارها المهرجان في دوراته السابقة، ويواصل مناقشتها واثارتها في هذه الدورة سعيا الى ترسيخ بعض المفاهيم الفنية الجديدة على الواقع المسرحي المصري والعربي، في مقدمتها مفهوم «العرض» كبديل أكثر رحابة وحرية من مفهوم «المسرحية» باطاره الاكاديمي ـ الكلاسيكي، ومن ثم الارتكاز على الأساليب والتقنيات المسرحية الجمالية الحديثة في الأداء الجسدي والصوتي، والاعتماد على إيقاعات اللغة والموسيقى والفنون التشكيلية بشكل متنوع مما يتيح للفنان مساحة للمغامرة داخل نسيج العرض نفسه.

* تحت الأرض

* في هذا الاطار لفت الانتباه عرض الافتتاح المصري «تحت الأرض» للمخرج اللبناني الأصل وليد عوني الذي يمثل مصر رسميا في المهرجان، واثارت مشاركة عوني جدلا واسعا بين الفنانين المصريين فهو أكثر المخرجين مشاركة في دورات المهرجان، وبرغم تحفظ أغلبية الرأي العام النقدي على عروض عوني رافضا اقتحامه المتكرر على فرص باقي التجارب المصرية، جاء عرض «تحت الأرض» مفارقا لأفق التوقعات النقدية والفنية، فالعرض ذو نسق متكامل، وايقاع منضبط متنام، واهتمام دقيق بالتفاصيل والعلاقة بينها، ومفرداته يمكن بيسر تأويلها لتعطي مفاهيم واضحة «وربما مباشرة» فالمسافة بين قصدية العمل ونتاجه الفني وصوره الجمالية مليئة بالعلامات التي برغم كثافتها وتتابعها اللاهث يمكن الوصول لدلالاتها الواقعية.

على المسرح مستويان، زمانيا ومكانيا، تصل بينهما ستارة شفافة بحيث يبدو ما خلفها كظلال وخيالات. الزمن الاول هو الماضي بمخزونه الجمعي والفردي، تاريخ وحقب وعلاقات صراع وتناحر بين الانسان والطبيعة، بين الشعوب والثقافات، بين الافراد والأعراق والقوميات، والزمن الثاني هو الحاضر وآفاق المستقبل المرهونة بتحديات واحتمالات الواقع المضطرب، ومن الماضي تأتي كل الصراعات التي تجد تعبيراتها الخاصة من محدداتها وانتماءاتها الثقافية والسياسية والحضارية التي تلون العلاقة بين الأنا والآخر بألوان مختلفة، ألوان النفي والقهر والسيطرة، ألوان الفرح والتواصل والتفاعل، ألوان تمحو ألوانا وعلاقات تطرد أخرى.

الظلال التي تنبثق من خلف الستارة «من الماضي» تأتي لنا وتدخل وتدخلنا معها في رحلة كشف عما تحمله الأرض والانسان من أفراح وأحزان عبر انتقالات وقفزات في سجل «مأساة الوجود» وتمثلاته التي يحاول الانسان رغم كل ما يرتكبه في حقوق الارض وحقوقه من انتهاكات وجرائم وخطايا، تدميرا للبيئة الطبيعية التي تثور لنفسها في أوقات متباعدة متمردة على استبسال الانسان في محاولاته السيطرة عليها وترويضها. فالآلية والتحديث المفرط للحياة يحول الأرض الى مكان شديد الخطورة يقف على حدود التدمير الذاتي والفناء، ومن ثم فالحيوانات والنباتات ومختلف أشكال الطبيعة بين حدين واحتمالين، إما الدمار الذاتي أو الانتباه واستدراك هذا الانفلات المجنون في قهره للطبيعة والذي يتجاوز كل الحدود ليقف دون ادراك أو قلق على حافة تدمير الوجود الانساني بأسره، ويصل الصراع بين الأنا والآخر في «تحت الارض» الى الحدود القصوى، فالتناقض بين المركز المهيمن والمتجبر وبين الاطراف التي تحاول التمرد هو تناقض لا حل ولا كوابح له.

وليد عوني في كل هذا لا يتوقف أمام سؤال بديهي: من المسؤول عن كل هذا؟ واهمال التفكير في هذا السؤال هو الخلل الرئيسي في الرؤية ومنهج العرض. صحيح ان الخطر يشمل الجميع إلا ان المسؤولية لا يمكن ان تكون متساوية، فالمساواة بين «البلدوزر» وبين بساتين النخيل التي يكتسحها ويدمرها هي غير منطقية قبل ان تكون غير اخلاقية، والصياد الذي يستخدم أدوات بدائية ليوفر طعامه اليومي فقط لا يمكن أن يتساوى في المسؤولية مع الصياد الذي يستخدم الليزر في الصيد لصنع حذاء فقط من جلد الحيوان.

يستفيد عوني من تقنيات مسرح العرائس ومسرح خيال الظل مستغنيا عن اللغة والتعبير الجسدي والرقص وحتى الوجوه، فالتشكيلات والصور التي يقدمها تظهر في لوحات تشكيلية وايقاعات بصرية موفقة ومعبرة بذاتها ولا تحتاج عناصر من خارجها لتوصيل رؤيته وأفكاره، كما ان الشخصيات الأربع التي تظهر في أركان المسرح الأربعة، وتقوم بتنظيم وأداء الأفعال الفاصلة بين اللوحات، هي موضع الجدل الأهم في العرض.. فهل تحيل هذه الشخصيات الى عناصر الطبيعة الأربعة: الماء والهواء والتراب والنار التي تصورتها الفلسفات القديمة، أم تحيل الى الثنائية الميتافيزيقية المطلقة: الخير والشر، بالاضافة الى الانسان والطبيعة، أم تحيل الى تلك العلاقة الجدلية الغائبة: صورة الآخر داخل الأنا، وصورة الأنا داخل الآخر، وكذلك الأنا والآخر في مرآتين متقابلتين، عوني ترك هذه الشخصيات غامضة وملتبسة قاصدا ان يترك المشاهد أمام لغز كبير (وربما كان وجودها في العرض لضرورة فنية وتقنية وتشكيلية فقط)، الحداثة قد تكون نتيجة وليست سببا، ويمكن تصور انها الضحية وليست الجاني.

ومع ذلك يبقى عرض «تحت الأرض» انتقالا ونضجا لافتا في رؤية وأداء وليد عوني، فتناوله لقضايا ومعضلات العولمة والتوازن البيئي وتناقضات الحداثة وصراع الأنا والآخر بخلفياته العقائدية والثقافية والسياسية (خاصة التناول النقدي الذي يمزج بين التعاطف الانساني مع ضحايا احداث 11 سبتمبر والسخرية في نفس الوقت من صورة أميركا كقوة عظمى لا تقهر، دون السقوط في تبرير الفعل أو تضخيمه وإلصاقه بالعرب أو المسلمين)، جاء عبر صياغة تشكيلية وصور نفسية عبرت بدقة عن انفعالات انسانية وعلاقات موضوعية بعلامات واشكال وتكوينات دالة ومعبرة وبجمال فني على المستوى البصري والذهني.

* طقس مفتعل ومراهقة فلسفية

* الوصول الى حالة المسرح الطقسي يتطلب ان يندمج المشاهد والمؤدي في حالة شعورية وحسية بحيث تتواصل الشحنات النفسية الكامنة والواعية بينهما، هذا ما لم ينجح في تحقيقه العرض المصري «انسان الطبيعة» المشارك في المسابقة الرسمية والمعتمد على نصي «كاسبار» لبيتر هاندكه و«حي بن يقظان» لابن طفيل، فقد حاول هاني غانم مؤلف العرض ومخرجه ان يورط المشاهدين في بحثه العبثي المفتعل عن معنى وغاية الوجود الانساني لكن شفرات العرض ظلت مغلقة ومشتتة في أغلب أوقات العرض.. يدخل المشاهد الى قاعة العرض التي تحولت الى كهف بدائي منقوش عليه آثار دالة على مسيرة الانسان التاريخية، وهناك منصة تحيل الذهن الى مائدة العشاء الأخير أو الى الصليب الذي يحمله الانسان كمصير حتمي وحيد للخطيئة الأزلية المستمرة، غانم المؤدي الوحيد يتمثل في صورة الانسان البدائي «ابن الطبيعة» الذي يكتشف بمفرده وعبر تجاربه وتأمله حقائق الوجود الانساني والالهي، وهو إذ يرتقي ماديا وحضاريا وتصيبه لعنة «برج بابل» فتتفرق لغته وعقائده ويخترع آلات دماره، يصل الى «موت الانسان» بعد ان يكون قد مات «المطلق» الذي صنعه أو اهتدى الى وجوده، هذه الرؤية «العدمية» المفتعلة وغير الأصيلة ترتكز على كلمات مبتورة تتكلف لغة مسرح العبث دون أن تتفهم منهجه ورؤيته، ويبدو العرض هجينا يطارد (دون أية ضرورة فكرية أو فنية) هم التواصل والتفاعل الثقافي مستخدما بضع لغات أجنبية في شريط صوتي خارجي تعيد ترديد ترجمة لنفس الكلمات في محاولة للتعبير عن شمولية المأزق الانساني متناسيا انه منذ البداية يتحدث عن الانسان بصورة مطلقة، لذلك تظهر الشذرات الفلسفية التي يستند إليها في صياغة مراهقة متكلفة لا تنتج صورا أو علامات يمكن فكها بسهولة من قبل أغلبية المشاهدين.

* ثرثرة قليلة وتركيبة ناجحة

* الصفر ليس نقطة بداية، انه لحظة انتقالية مشبعة بسلب الماضي وفوضوية الحاضر بارتجالاته الصاخبة وتطلعاته الممكن منها والمستحيل، هذا ما تجسد في العرض اللبناني «بيروت صفراً» فالصفر بيروت عابرة من جحيم الحرب الأهلية وارثها الجنوني الى غموض الحاضر والتباسه وأحلام الشباب اللبناني الذي لم يعرف إلا أصوات القتال وإيقاعات النفي. العرض لفرقة «مقامات للرقص والمسرح» تصميم واخراج عمر راجح الذي اعتمد منهجا تركيبا معمليا يمزج بين أساليب أداء متنوعة «وربما متناقضة» لصياغة العرض فنجد مشاهد واقعية وشعرية وتغريبية بجوار مشاهد من مسرح القسوة والمسرح الفوري، كل هذا يجمعه إطار أدائي يعتمد منهج الآليات الحيوية لمسرح ماير هولد المعتمد على الأداء الجسدي والحركي كوسيلة تعبيرية.

ثلاثون مشهدا يمتزج فيها التمثيل والرقص والغناء للتعبير عن تطلعات وأشواق مجموعة من الشباب (ثلاث فتيات وثلاثة شبان) للانفلات من كوابيس الحرب وقيود الواقع الاجتماعي والسياسي والبحث عن حياة جديدة واجابات لأسئلة بسيطة: ما الحب وكيف يزهر؟ ما الوطن وكيف يتعايش أبناؤه؟، وكيف يجد الانسان انسانيته المهدرة؟

أداء الممثلين الحركي والصوتي والشعوري تتحكم فيه تقاطعات وتداخلات منضبطة تصنع إيقاعات متنوعة رغم وجود بعض الثرثرة في التعبير واللغة والحركات، فالفائض التعبيري يثقل بعض أجزاء العرض، يأتي ذلك من رغبة راجح في الاقتراب من كثير من مشكلات الواقع والرغبة في تناولها من عدة رؤى من دون أن تضيف بعض هذه الرؤى جديدا، وهو ما يخلق حالة من التشتت البصري والفكري، كما وقع التنوع السمعي (الصوتي والموسيقي) في تداخل مفتقد للهارمونية بحيث تبدت الرغبة في الثراء والتعدد فوضى غير مقصودة.

لكن العرض اجمالا به طزاجة وثقة ظاهرة في الرؤية والأداء، وانشغال فعال بالتفاصيل، مع استخدام جيد للفراغ المسرحي وصياغة سينوغرافية موفقة يعيبها فقط اختيار اللون الأصفر ليهيمن على الاضاءة وخلفية وأرضية المسرح، فقد تصور راجح ان الأصفر الذي يحيل الى الخريف سيكون تعبيرا ناجحا عن المرحلة الانتقالية التي يعيشها الشباب اللبناني غير مدرك لتأثير هذه الأجواء القاتمة على المتلقي وكان من الافضل ان يستخدم تنوعا وتداخلا لونيا للتعبير عن تنوع احتمالات الواقع وانفتاحه على تأويلات كثيرة.

* لوسي.. هجاء سياسي مضطرب

* لوسي هو الاسم الذي أطلقه علماء الحفريات الطبيعية على أقدم الهياكل البشرية المكتشفة، وإليها يستند المخرج اللبناني روجيه عساف في هجائه السياسي للواقع المعاصر. على المسرح ثلاث مقابر أو كهوف تخرج منها وتتسلقها مجموعة من البشر الذين لم يصلوا لمرحلة التطور الطبيعي التي وصلتها لوسي (أول انسان يقف على قدمين منتصبا) انهم المجتمع البشري البدائي الذين يتحكم فيهم قانون الغاب البقاء للأقوى، وهم لا يتقبلون تمايز لوسي وفرادتها فيحاولون ان يعيدوها الى حظيرتهم، لكنها تقاومهم ويستمر الصراع بينهم. تسود لوسي ويبقى الآخرون يطاردون سلالتها التي تكتسب بعضا من قانون الغاب ولكن يبقى تمايزها، من الحاضر القريب تأتي هندومة (مولودة عام 1948 الذي لا تغيب دلالته) الثائرة على الواقع الظالم وتتصور ان بذرة الجنون الانساني والرغبة في السيطرة وقهر الآخر كامنة في أحشاء لوسي فتطاردها عبر الزمن لتقضي عليها لتخلص سلالتها من الجرثومة والشر المجبولة عليه، وأي مصير يتصور لمثل هذه المحاولة التدميرية إلا الفناء الكلي للوجود الانساني في مقابر الحضارة الحديثة المنحازة والظالمة بالضرورة.

هذا هو الهجاء السياسي المفرط في التعميم والمستند الى تصورات لحظة مأزومة يتجرعها عساف ويريدنا ان نشاركه كذلك الاستسهال والاندفاع الجامح باتجاه كهوف الأوهام والخنادق والتصورات الحدية المطلقة.

دلالات العرض (المعتمد على نص من اعداد عساف وحنان الحاج عن قصة للكاتبة اندريه شديد ورواية لجواد الصيداوي) صارخة بمطلقات زائفة فالمواجهة بين العقائد والثقافات والحضارات ليست حدية ونهائية كما يصورها عساف والوقوع في أسر اللحظة المأزومة لا يصنع إلا تشاؤما غير منتج، تشاؤما يجعل المشاهد يكره نفسه بعد ان يكون قد استعذب الشعور بكراهية الآخر له فكرهه بدوره.

* لوسي.. المرأة العمودية

* نص مكتوب بلغة جامدة تتوسل الشعرية فتسقط في مباشرة وخطابية ديماجوجية، وفي أغلب الأوقات يبدو النص أو الحركات زائدين والعلاقة بينهما مضطربة يشتت أحدهما تركيز المشاهد عن الآخر، ولأن هندومة هي الشخصية الوحيدة (تؤديها حنان الحاج) التي تتكلم يبدو العرض أحيانا كثيرة وكأنه مونودراما بملامح ميلودرامية ووعظية يزيده أداء الحاج الرتيب برودة وبعدا عن حيوية المسرح وينقطع التواصل بين المشاهد والعرض الذي يشترك مع العرض المصري (انسان الطبيعة) في إدعاء امتلاك وتقديم الحكمة المطلقة والتصورات الكلية النهائية لمأزق ومسار ومصير الوجود الانساني، فكلاهما قدم نظرة طولية للتاريخ انطلاقا من أفكار مقولبة، وفي حين كان هاني غانم مجترا ومراهقا في رؤيته وأدائه كان روجيه عساف جامدا وشائخا ووعظيا.

وكان لافتا أيضا في هذا المهرجان كم المعالجات المسرحية المعاصرة لنصوص البريطاني وليم شكسبير على مستوى الفرق العربية والأجنبية، حيث قدمت مصر عرضا مسرحيا بعنوان «حلم ليلة صيف» على هامش المهرجان، وقدمت بريطانيا عرض «مؤتمر هاملت» لفرقة مسرح زلوم، بينما قدمت فرقة المعهد العالي للفنون المسرحية بسورية عرض «حلم ليلة صيف» أيضا، بينما قدمت فرقة مسرح اليونان القومي عرض «خاب مسعى العشاق»، ومدرج أيضا ضمن الايام القادمة العرض الهولندي «تاجر البندقية» لفرقة توبل جروب امستردام، لكننا عندما ذهبنا لمشاهدة العرض اليوناني «خاب مسعى العشاق»، اخراج ستاتسين ليغانيوس فوجئنا مبدئيا ان مدة العرض ثلاث ساعات كاملة، ورغم ان العرض حاول تقديم الناحية الفكاهية لعالم شكسبير ممتزجا بالحس العصري، إلا اننا فوجئنا للمرة الثانية ان العرض كلاسيكي تقليدي للغاية، كما انه ضمن عروض المسابقة الرسمية بدليل وجود أعضاء لجنة التحكيم حولنا.

واذا قارنا هذا العرض اليوناني الكلاسيكي بالعرض القبرصي «في الظلمة تبدأ العين ترى» لفرقة مسرح آريانا اكونومو للرقص، سنجد ان هذا العرض الذي عرض على هامش المهرجان ولم يجد العناية الكافية من ادارة المسرح العائم بالجيزة التابع للثقافة الجماهيرية برغم تقنيات العرض التجريبية وتميزه بجودة على المستوى التجريبي والإبداع الحركي البصري.

* الأميرة والأقزام وعودة شكسبير

* ومن العروض الأجنبية اللافتة التي عرضت حتى الآن العرض المسرحي التجريبي الايطالي «سنو دايت» لفرقة تياترو ديل كاريتو، الذي قدم معالجة بصرية تقنية لحدوتة الأميرة والأقزام السبعة الشعبية الشهيرة للأخوين جاكوب وفيلهلم جريم، فقد قدمت المخرجة ماريا جراتزيا شيبرياني بالتعاون مع مصمم العرائس والمشاهد جراتسيانو جورجيو تنويعات شديدة البراعة، اعتمدت على المزج بين الحكى والموسيقى والغناء الاوبرالي والعرائس الدقيقة الحجم والعرائس ذات الحجم المتضخم، وبين الممثل البشري الذي يرتدي ملابس العروسة وقناعها، فقد اختار العرض ان يقدم أحداث الحدوتة الشعبية الشهيرة داخل دولاب خشب متعدد النوافذ والأبواب، حيث خصص جزءا لمسرح الأحداث وأجزاء أخرى أكبر لظهور الممثلة التي ترتدي ملابس عروسة لتجسيد دور زوجة الأب الشريرة، أما أهم ما يميز هذا العرض الحيوي المتدفق الايقاع، هو مدى القدرة على التحكم في العروسة وبعث الحياة فيها وكأنها ممثل بشري يتجاوب وينفعل مع مقتضيات الصراع الدرامي.

فقد اعتمدت مخرجة العرض ومصممة الرقصات والمؤدية أيضا آريانا اكونومو في هذا العرض المونو، على احاطة العرض بالطبيعة الشعائرية لتصوير الانسان ومحاولاته للوصول الى التكامل والفردية، وذلك من خلال طرح التحاور بين الارض والسماء أو الجسد والعقل والروح، مع التركيز على عنصر النار كعنصر اساسي من الطبيعة، وذلك بالتمازج مع اشعار «تي.إس. إليوت» و«ثيودور رونكي» لتختلط لغة الكلمة بلغة الجسد للتعبير عن الجنين الروحي داخل الانسان.

ثم انهالت علينا بعض من العروض المحدودة المستوى أو التقليدية تماما، مثل العرض اليوناني «ملف كارمز» لفرقة المسرح المحلي اخراج ايزابيلا مارتزو بولو، وقد تضمن العرض مقالات دانييل فارمز والرسائل التي كتبها لأبيه اثناء طفولته اضافة لمقتطفات من سيرته الذاتية، وربما يكون العرض جيدا لو عرض في سياق آخر خلاف مهرجان المسرح التجريبي حيث وقفت تقليديته مع حاجز اللغة اليونانية عقبة أمام استمتاعنا بهذا العرض رغم اجتهاد ممثليه، وينطبق نفس الحال تماما على العرض الألباني «الملك يموت» لفرقة المسرح القومي اخراج آرماند يورا وتأليف يوجين يوسنكو، ورغم محاولات العرض ابراز التعارض بين الأداء الجسدي على المسرح وايحاءات الكلمة والحالة النفسية، إلا ان اللغة الألبانية التي لا يتقنها أحد أضاعت هذه المحاولات علينا دون قصد.

أما العرض الصيني «ووشانج وتورياو» اخراج وانج يا شونج، فقد اعتمد على اظهار ترجمة جانبية واضحة تماما على أحد أجناب مسرح الجمهورية ليتمكن الجمهور من عبور حواجز اللغة الصينية، ورغم استمتاعنا بقدر ما بالألوان البراقة للملابس والديكور، إلا أن الترجمة الانجليزية كانت طويلة للغاية بسبب اعتماد المسرحية كاملا على الكلمة والأداء التقليدي الكلاسيكي تماما، مما كان يضطرنا لتحويل رؤوسنا وانتباهنا كثيرا عن خشبة المسرح لنقرأ هذا الكم الهائل من هذا الحوار الطويل والمزدحم للغاية.

وقد تكرر نفس الأمر مع العرض المالطي «تل من الصخور المحطمة» اخراج سايمون بارتولو، الذي قدم باللغة الانجليزية معالجة مسرحية لأفكار قصيدة «تي. اس. اليوت» الشهيرة «الارض الخراب» أي رحلة الانسان بعيدا عن الانسانية الى غير الآدمية، لكن العائق هنا كان تواضع مستوى العرض في حد ذاته، من حيث كافة المفردات المسرحية خاصة أداء الممثلين الذين ينتمون للهواة.