11سبتمبر.. أية انعكاسات على حياتنا الفكرية والثقافية؟

TT

اذا كانت الفواجع لا تلقي بظلها على الضحايا فقط، بل تهز اسس الحياة الفكرية والثقافية، فأي تأثيرات تركتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، او ستنتجتها في المستقبل!

لا شك ان هذه الاحداث، اذا لم تكن قد غيرت العالم فعلا، فانها فجرت قضايا كبيرة، وخاصة في ما يخص العلاقة بين الثقافات، وبالتحديد بين ثقافتنا العربية ـ الاسلامية والغربية، وظاهرة الاصولية والتطرف، وفي ما إذا كانت نتائج أم أسبابا. وبكلمة،انتجت أحداث سبتمبر، من ضمن ما انتجت، ضرورة بالغة لإعادة النظر في مفاهيم كثيرة، سواء لمحاولة طرحها بشكل سليم، وتوضيحها لأنفسنا وللآخرين، او لاعادة النظر فيها جذريا.

هنا كتاب عرب يتحدثون عن روايتهم لانعكاسات 11 سبتمبر على حياتنا الفكرية والثقافية.

* العرب بعد 11 سبتمبر .. معركتنا ذاتية بالدرجة الأولى

* كمال عبد اللطيف ـ باحث مغربي

* ليس من السهل مقاربة ما جرى ويجري في العالم منذ الواقعة الكبرى التي لحقت بالولايات المتحدة الاميركية قبل سنة، وليس من السهل كذلك تركيب الوقائع والتداعيات التي حصلت في اميركا وفي العالم منذ ذلك التاريخ، ولعلنا نعيش اليوم في مطلع الألفية الثالثة مظاهر حرب كونية جديدة بآليات وأساليب في العمل الحربي مختلفة عن النماذج التاريخية المألوفة، ولهذا السبب سنكتفي في هذه المحاولة بالتوقف أمام ما يمكن أن نسميه حرب الصور القائمة والمعلنة. فقد عمل الإعلام الغربي منذ حصول الحدث المذكور على بلورة وتركيب صور نمطية لعدو مفترض، وقد جرىتعميم هذه الصور النمطية والانطلاق منها في مواجهة العالم.

وفي هذا السياق نشير إلى أننا ننطلق في تصورنا هذا من مقدمتين اثنين، نعتبر في الأولى أن تصحيح الصور التي تبلورت في الإعلام والثقافة الغربية عن العرب والمسلمين ليست مسألة بسيطة ولا تنفع فيها ردود الفعل المرتبطة بمناسبات وأحداث بعينها، ذلك أن حرب الصور، المشوه منها والمطابق لصاحبه، تعد اليوم كما أشرنا آنفا جزءا من الحرب الشاملة القائمة في العالم. فقد تميز عصرنا باستخدامه في أزمنة حروبه المتواصلة لمختلف الوسائل التي تمكن من مغالبة العدو والانتصار عليه وحرب الصور المتخيلة والمركبة والملفقة تعد جزءا من هذه الوسائل.

وننظر في المقدمة الثانية الى أن معركة تصحيح الصور المتناقضة والمختلطة تعتبر في المنطلق والأساس معركة ذاتية، معركة تخصنا أولا وقبل كل شيء، من دون أن يعني هذا الأمر بالضرورة تقليلنا من أهمية الفاعل الخارجي الذي نختزله في الصيغة المجردة والعامة (الآخر) ونرادفه بالغرب وبالولايات المتحدة الاميركية، كما نرادفه في أدبياتنا السياسية بالإمبريالية والاستعمار والصهيونية العالمية... نحن نعتقد أن صراعنا المعاصر مع الغرب لم يتوقف وأنه في العمق صراع تاريخي تحركه المصالح والأهداف التاريخية القابلة للضبط والفهم والتعقل. لكننا نريد في هذا السياق التأكيد على أهمية معركتنا الذاتية، معركتنا مع ذاتنا وهي المعركة التي تتمثل في محاولتنا إنجاز عمليات تصالح مع العالم الذي يؤطر ويشرط وجودنا القومي والإقليمي وانتماءنا إلى العالم.

لنشخص في صورة أمثلة محددة طبيعة هذه المعركة التي أعادتها تداعيات 11 سبتمبر (ايلول) إلى الواجهة، يتعلق الأمر بمصيرنا التاريخي في العالم المعاصر، فنحن قبل الأحداث المذكورة وبعدها لم نستكمل معركة استيعاب منطق الأزمنة المعاصرة، منطق الحداثة والتحديث وهو المنطق الذي يكسبنا كفاءة الحوار الندي المتكافئ مع الآخرين، وهذا الاستكمال لن يتم إلا عن طريق دعم الجهود التي ما فتئ الفكر العربي يبذلها وهو يجتهد في سبيل استتباب وتوطين المعرفة العصرية وتعميمها.

أما المثال الثاني فيمكن تشخصيه في استمرار نظرتنا المحافظة للتراث، بل إن الأمر تحول في العقود الأخيرة من القرن الماضي إلى عملية اكتساح تراثية شاملة ومحافظة أعادتنا إلى لغة عتيقة، لغة كنا نعتقد أن الزمن تجاوزها، فإذا بها تعود لترسم لذاتنا التاريخية ولتراثنا صورا لا علاقة لها بالتاريخ. وإذا كنا نعرف أن المخزون التراثي الرمزي أصبح يوظف بشكل مخيف في معارك حاضرنا داخل مجتمعاتنا وخارجها أثناء مواجهتنا للآخرين، حيث انتعشت في السنوات الأخيرة محاولات في استخدامه في فضائنا السياسي داخل أغلب الساحات العربية فإن العمل في هذه الجبهة بالذات يتطلب إنجاز قراءات عصرية جديدة لتراثنا ولذاتنا التاريخية المتحولة في التاريخ بفعل تأثير متغيرات الزمان.

لا ينبغي في نظرنا أن يترك المكون التراثي حكرا لقراءات جاهلة، بل ينبغي إطلاق مشاريع في البحث التراثي قادرة على انجازاتهم ومراجعة متجاوبة مع أسئلة عصرنا ومقتضيات تجاوبنا الإيجابي والخلاق مع ما يجري ويدور في العالم.

ان التراث الإسلامي، مثله في ذلك مثل مختلف منتوجات البشر في التاريخ، حمال أوجه لا حصر لها. وهو خزان قابل لأكثر من صيغة من صيغ الاستثمار المبدع، أما أن يواصل فهم معين ومغلق للنصوص التراثية حضوره وهيمنته على العقول والضمائر والأفئدة في مجتمعنا فإن في ذلك ما يبرز جوانب من الصور التي نصنعها لأنفسنا ويرسمها الآخرون لنا في زمن لاحق.

عندما نقول إن منطلق معركتنا ينبغي أن يكون هو الذات، وتصحيح صورة الذات عن ذاتها بالعمل من أجل مزيد من التصالح مع قيم العالم الذي ننتمي إليه لنتمكن من المشاركة في إبداع التاريخ المعاصر بالاشتراك مع كل من تعنيهم عملية صناعة هذا التاريخ، فإن هذا الأمر لا يعني أن الآخر بريء مما نحن فيه وعليه. فمن المعلوم أن تاريخنا المعاصر وأن حاضرنا ومستقبلنا لا يمكن أن تفهم بصورة تاريخية ومعقولة من دون أخذ العوامل الخارجية بعين الاعتبار. لكننا نعتقد أنه بعد معارك الاستقلال مع الآخرين الذين استعمرونا، فإن معارك نهوضنا واستكمالنا لعمليات التحرير ترتبط أشد الارتباط بذاتنا، وذلك بحل إشكالات التحديث والاجتهاد والابداع وبناء التوافقات الارادية السياسية والتاريخية داخل مجتمعاتنا في اتجاه بناء المواطن العربي والدولة العربية والمستقبل العربي.

في موضوع العامل أو العوامل الخارجية نفترض أن فهما جديدا لدور الآخرين في تشويه صورنا وتاريخنا يقتضي عدم نسيان أو تناسي منطق الصراع في التاريخ. أقصد أنه يجب في هذا الموضوع بالذات أن نتخلص من اللغة الأخلاقية الطوباوية ومن لغات تمجيد الذات والاعتزاز المفرط بتاريخ تنافست في بنائه تصورات لا نتفق معها تماما، تصورات توطئه وتحوله إلى نماذج فكرية متخيلة لا علاقة لها بالتاريخ الفعلي الحي كما تشكل في دائرة الزمان.

فهل نعرف أنفسنا؟ وهل نعرف ما نريد؟ وهل اتفقنا على تصورات محددة مناسبة لتاريخنا وحاضرنا؟ وهل يمكن أن نتحدث لغة التاريخ والصراع إذا ما اقتضى الأمر ذلك؟

عندما نجيب عن مثل هذه الاسئلة ونصفي حساباتنا مع ذواتنا أولا، فإننا نستطيع أن نبني التصورات والمواقف التي تكفل لاختياراتنا ما يسمح لها بالتحقق على أرض الواقع.

هناك أمر آخر لا بد أن نقر ونعترف به في موضوع معركتنا مع الآخر، معركتنا الفعلية ومعاركنا الرمزية التي يستخدم فيها الآخر أشكالا من التشويه العنيف الذي يحولنا إلى كائنات خرافية، يتمثل هذا الأمر في لزوم التمييز في معركتنا المركبة مع الآخرين بين مجال الصراع السياسي والاقتصادي وهو مجال موازين القوى التاريخية القائمة والمحتملة، ومجال المكاسب الحضارية المعاصرة في العلم والمعرفة والكشوف التقنية، مجال صناعة النماذج العلمية وتسخيرها لمصلحة الإنسان في التاريخ ولمصلحة إرادة القوة التي يطمح الجميع إلى تملكها وتسخيرها. إننا معنيون بالمجالين معا، معنيون من جهة بمواصلة مقاومة المواقف الغربية والسياسات الغربية المعادية لأمتنا ولمكونات تاريخنا الحضاري، ومعنيون في الوقت نفسه بمصارعة ذاتنا للتمكن من تهييء سبل استيعاب مكاسب الحضارة المعاصرة وتوطينها في مجتمعاتنا، وإبداع ما يماثلها وما يكملها وما يتجاوزها. ومن المعلوم ان الأمر الأخير لن يحدث من دون استيعاب المكاسب المذكورة، ومن المؤكد في هذه النقطة بالذات أننا أمام معركة ذاتية.

* الغذامي: الحدث ليس سوى عنوان

* اعتبر الدكتور عبد الله الغذامي الناقد والأكاديمي السعودي ان الولايات المتحدة الأمريكية وبعد احداث 11 سبتمبر (أيلول) أصبحت تملك الحق كله لأنها تملك القوة كلها، والعالم كله عاجز عن قول رأي آخر، مثلما هو عاجز عن مواجهة الكاسر الأميركي. وذكر أن هناك نضوباً عالمياً في رصيد الأفكار ورصد القيم، وصار العالم يبدو وكأنه بلا تاريخ ولا فلسفة ولا رصيد حضاري، وطالب المفكرين والفلاسفة والمثقفين ومعهم كل المضهدين بالعودة الى رصيدهم الأخلاقي والقيمي من أجل التأسيس لثورة أخلاقية تحمي العالم من الكاسر الأميركي والمتفرد المتوحش.

وقال الغذامي في تعليقه لـ «الشرق الأوسط» تعليقا على انعكاسات أحداث 11 سبتمبر على العالم فكرياً وثقافياً ومدى ما لمسه من تحولات في هذا الجانب وطبيعة هذه التحولات: أي تحولات حدثت بعد الحادي عشر من سبتمبر..؟ إن التحول في انكشاف الحال، وفضح المستور، حيث يظهر العالم، كل العالم، عاجزا عن التفكير والتدبير، وتبقى وحدها الولايات المتحدة متفردة وقادرة ومقررة، ما تقوله يكون وما تفرضه يتحقق. هذا ما كشفه الحادي عشر من سبتمبر أمام العيون المجردة.

وهناك إحساس عند الجميع في كل أنحاء العالم باستثناء أميركا، إحساس بأنه لا أحد يملك القوة، لا المعنوية ولا المادية، في أن يمنع ما يمكن حدوثه ولا حتى أن يتدخل فيه، وربما نعجز حتى عن التنبؤ بما سيكون، حتى أوروبا وزعماء أوروبا، يدخلون في حال من اللاقرار واللاقدرة، بينما يبدو الفلاسفة والمفكرون في حال يأس تام، وفي المقابل تظهر الشعوب والنقابات والتكوينات الطلابية في وضع لا ينم عن وجودها ولا يعبر عن قيمتها وتظهر عاجزة لا عن القول فحسب، وإنما عن مجرد التكوين والتجمع، ولست ترى سوى مظاهرات بسيطة على هامش بعض المؤتمرات الكبيرة، وتبدو المظاهرات مجرد صرخات لتبرئة الذمة. هذه الصورة للعالم الذي يبدو عاجزاً هي ما يخيف حقاً، ولئن سلمنا بأن أميركا صارت متفردة، ولا ينازعها القوة أحد، وهذا أمر حاصل، إلا أن ما هو محير هو أن تتقاعس القوة المعنوية العالمية حتى لا تسمع لها صوتاً ولا تتوقع لها من أثر، حتى لدى الشعوب المضطهدة من مثل العرب لم تعد ترى زخماً شعبياً ومعنوياً وقيمياً يقاوم هذا الاستكبار الأميركي. تملك أميركا الحق كله لأنها تملك القوة كلها، والعالم كله عاجز عن قول رأي آخر مثلما هو عاجز عن مواجهة الكاسر الأميركي.

هناك نضوب عالمي في رصيد الأفكار ورصيد القيم، وصار العالم يبدو وكأنه بلا تاريخ ولا فلسفة ولا رصيد حضاري أو ثقافي.

هذا النضوب هو ما يخيف حقاً وهو ما يتيح مجالاً للرعب العالمي الذي يكشف عن حال العالم اليوم، ولو قارنا بين ما كان في عقود مضت وما نحن عليه الآن عالمياً لوجدنا فارقاً مخيفاً يكشف عن تقهقر في المنظومة الانسانية كشحنة أخلاقية ومعنوية وسياسية وفكرية. وهذا يعني ان المشكل حادث من فراغ أخلاقي وقيمي وفكري عالمي وانساني، ولذا تسنى لأميركا أن تملأ صفحات هذا الفراغ بلغتها وتعبيرها ومجازها الخاص، ولذا فإن الحادي عشر من سبتمبر ليس سوى عنوان في كتاب، واذا استنفد غرضه فسيجدون غيره من العناوين لكي يكتبوا كتابهم كما يشاؤون، وليس للعالم إلا أن يقرأ كتابه بشماله وويل للعصاة.

ليس من حل في رأيي إلا بأن يعود العالم والمفكرون والفلاسفة والمثقفون، خاصة، ومعهم جموع الطلاب والنساء وكل المضطهدين، يعودون الى رصيدهم الأخلاقي والقيمي، من أجل التأسيس لثورة أخلاقية تحمي العالم من الكاسر الأميركي والمتفرد المتوحش، وإلا فسنظل نطرح الأسئلة مرعوبين وحائرين وعاجزين عن تصور الحلول.

* الشدي: علينا مواجهة هيمنة الآخر

* محمد بن أحمد الشدي ـ رئيس جمعية الثقافة والفنون في السعودية ورئيس تحرير مجلة «اليمامة» سابقاً

* من المؤكد بأن الحدث الذي غير مجرى العالم، ألقى بظلاله على الثقافة العربية. وأعتقد أن الفكر العالمي منذ حدوث الكارثة لايزال تحت وطأة الذهول والصدمة يوم الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) ولاتزال الحالة ماثلة أمامنا بعد مرور عام من الهجمات الارهابية على أميركا.

وكانت هذه الكارثة فرصة للطرف الأقوى عالمياً بمعايير النفوذ والقوة بأن يعلن عن حرب على الثقافة والفكر، وأن يفرض حصاراً على ثقافتنا العربية الاسلامية من خلال اعلان العداء على كل معطيات وعوامل الثقافة الانسانية التي تفترض التلاقح الفكري والتفاعل الثقافي والعمل على تعزيز دور الثقافة بصفتها الوحيدة الباقية عندما يفقد الانسان كل شيء.

هذه الحقيقة بما تحمله من انعكاسات عالمية أثرت بلا شك على العالم بأسره وطال تأثيرها كافة جوانب الفكر وأشكال الثقافة والفنون. وإزاء هذه الحالة من الذهول كان لابد للأمة الإسلامية قيادات وشعوباً ومثقفين وكتاباً أن تواجه هذه المعركة بشيء من الثبات والتروي والتمسك بكل مقوماتها الدينية والتربوية والاقتصادية والثقافية.

إن ما يدعونا هنا في المملكة العربية السعودية إلى الفخر والاعتزاز هو ذلك الموقف المشرف والشجاع لحكومة خادم الحرمين الشريفين وولي عهده والذي أصبح مع الأيام درساً تستفيد منه كافة الدول في حقها الشرعي والمشروع برفض أي تدخل يمس ثوابتنا الدينية أو الوطنية واتخاذ قرار واضح كل الوضوح لاستراتيجية المستقبل التربوية والتعليمية من تعاليم ديننا السمح ومن أنظمة الحكم والشورى كما جاءت في الشريعة الغراء.

ولا شك بأن أهل الفكر والثقافة الصحيحة والخالية من كل أهواء أو أغراض من العوامل الهامة التي يمكن لها لعب دور كبير في مواجهة هيمنة الآخر وتدخله السافر في معتقدات وثوابت الأمة لإملاء نوع من الحياة بحجة الإرهاب وتصدير فكر مناف للحقيقة والحق.

* نبيل عبد الفتاح: عجز المؤسسات البحثية العربية

* الباحث نبيل عبد الفتاح رئيس تحرير «تقرير الحالة الدينية» بمركز دراسات الأهرام، يقول: لو تأملنا تداعيات هذه المأساة سوف ندرك ان مأساتنا كانت أقسى ويمكن معرفة ذلك من الخطابات التي انتجت في العالم العربي غداة الصدمة «السبتمبرية» وكان أولها الخطاب المرئي الذي تابع الحدث مباشرة وقد شاب مستويات التحليل الكثير من نقص المعلومات وضعف القدرة التحليلية، ربما كان لطبيعة الحادث، كما جرى الخلط بين الأمور الدينية والعملية الإرهابية التي تمت وبين ماهية القائمين بها وبرنامجهم السياسي.

وكان الأخطر في هذه التداعيات هو انكشاف الجماعة الاكاديمية بالعالم العربي ولاسيما المتخصصين في العلاقات الدولية والنظم والحكومات المقارنة حيث تأكد غياب مراكز علمية متخصصة في النظام السياسي الأميركي والسياسة الخارجية والتركيبة الحزبية الداخلية والبنى المختلفة للمجتمع الاميركي وتركيبته الاجتماعية والتاريخية ونمط حياته وأنظمته القانونية.

وقد كشف هذا النقص الفادح ضعف المؤسسات الجامعية والبحثية في شتى بلدان العالم العربي، وهو ما لفت النظر أيضا الى أحد الاعطاب البنائية لعمليات انتاج الخطاب السياسي والاكاديمي في بلادنا، كما كشف ميلا الى سجالات دفع المسؤولية عن الذات وإلصاقها بالآخرين بما يعني وجود أزمة في ثقافة المسؤولية، وإعادة احياء كل نظريات المؤامرة على نحو بات كاريكاتوريا.

وقد قاد هذا الخطاب بعجزه ـ حسب كلام عبد الفتاح ـ وافتقاره الى المعرفي والمعلوماتي إلى فتح سجالات شجارية بين الاسلام والغرب، والعرب والغرب والأوروبيين والاميركان، والاستقلال والاستعمار، وهي أمور تتسم بأدنى مستويات التبسيط والخفة في التعامل مع ظواهر وتحولات بالغة التعقيد والتركيب فلم نعد بإزاء ظاهرة الاستعمار القديمة ولم يعد الغرب غربا بالمعاني التي انتجت في عهود النهضة.

وذكر عبد الفتاح ان الأكثر خطورة في تداعيات ما بعد كارثة 11 سبتمبر (ايلول) هو هذا النمط من الانساق اللغوية والاصطلاحية التي فقدت قدرتها على الوصف والتعريف بالظواهر المعقدة داخل المجتمعات الغربية وعلى المستوى الكوني وهو ما يبدو ملاحظا في الخطاب الشفاهي والمرئي الذي بثته الفضائيات العربية وبدا متسما بالعفوية والانطباعية وبدا معظم المتساجلين منزلقين الى مستوى عجيب من الهجاءات المتبادلة حيث لا توجد أي قواعد ضابطة للسجال أو الهجاء، وهذا ما كان واضحا في التركيز على الجوانب الذاتية بعيدا عن الموضوع، وكان نتيجته تهميش وعدم الحديث عن الاخطار الحقيقية التي يواجهها العالم العربي ومجتمعاته وخاصة في تناولهم للقضايا التي تمس أنظمتهم السياسية وإبداعات مثقفيهم وشعرائهم وفنانيهم.

وذكر عبد الفتاح ان الخطاب المكتوب لا يختلف عن الخطاب الشفاهي، فهو يعاني أيضا من أزمة بنائية داخل مراكز انتاجه وتوزيعه، وتأتي أزمته من استخدامه لألفاظ عامة غامضة غير محددة اصطلاحيا ودلاليا، وبروز ألفاظ استعارية ضخمة ذات ايقاعات مجلجلة غير منضبطة وغير قادرة على وصف ما يحدث وتحديد أسبابه بعمق.

وأشار عبد الفتاح الى ان احداث 11 سبتمبر «وضعت ايدينا على غياب شديد لبنية معلوماتية تفسر لنا ما حدث وطبيعته ونتائجه ومخاطره وما علينا من مسؤوليات إزاء الحادث، كما كشفت الواقعة غياب أي منهجية للتحليل في الخطاب المعلوماتي الذي اتسم بالانطباعية والذاتية»، وإننا إزاء لغة مهجنة تتسم بالمزاوجة بين لغة ايديولوجية قديمة وهنت وبين لغة معاصرة توظف على نحو جمالي وبياني، وباستثناء ما أنتجه الباحث السيد يسين حول هذه الأحداث ومعه قلة من المحللين لا توجد كتابات تعاملت بدقة وبعمق مع الأحداث التي هزت العالم، حيث مالت معظم الكتابات الى التصميمات والشمولية.

ان ما كشفت عنه الأحداث من محاولات نفي المسؤولية عن المسلمين أو العرب في القيام بالعملية بدعوى انها بالغة التعقيد، وبما يعني اننا متخلفون واننا لا نستطيع أن نقوم بأي عمل يعتبر ظلا باهتا لمقولات أنتجتها المؤسسات الاستشراقية الغربية عن العقل العربي ووصفه بأنه بسيط لا يميل للتعقيد أو التركيب، لكن يجب ان يدرك المحللون للظاهرة ان العالم العربي يتحضر، وان هناك جيلا من الشباب العربي تربى في حضن الغرب وأكاديمياتها وعاش في مجتمعاتها وهو مختلف تماما عن جيل الآباء من الحركات الاسلامية السابقة، وهو جيل منخرط تماما في ذهنية عالم ما بعد الثورة الصناعية ويجب أن نعي ذلك جيدا. الى ذلك وعلى الجانب الآخر كشفت الأحداث أيضا وجود نوع من الخطاب الاستعلائي لا يزال قائما ومستمرا في المجتمع الاميركي، ويضمر الكثير من العنصرية.

وقال عبد الفتاح «يجب ان ننظر الى المجتمع الاميركي بعمق ونتخلى عن النظر إليه على نحو حلمي. اننا نتحدث عن غرب خرافي واميركا اسطورية، وقد كشفت الأحداث خلافا لذلك، وكلها مشاعر لم نعرفها ولم ندر بها إلا مع هذه الأحداث التي استيقظ عليها العالم يوم 11 سبتمبر الماضي، وذلك على الرغم من صداقاتنا وسفاراتنا الموجودة هناك التي لم تكفل لنا أيا من المعرفة بالواقع الاستعلائي الأجوف هناك والذي تعشش مقولاته في مخيلة الكثير من البلدان والمجتمعات الغربية».

* ردود فعل عربية وإسلامية غير متوازنة

* عدنان السيد حسين ـ استاذ جامعي وباحث لبناني في العلاقات الدولية

* من حيث المبدأ، فإن أي حدث عالمي كبير يترك انعكاسات في مختلف المجالات بما في ذلك الفكر والثقافة والاقتصاد والعلاقات الدولية بشكل عام. يلاحظ انه بعد 11 سبتمبر (ايلول) 2001 اتسعت موجة التطرف بدلاً من ان تنحسر سواء في الغرب او في العالم العربي والاسلامي وبقية مناطق العالم. السبب الاساسي لهذه الموجة المتعاظمة يكمن في ان الحداثة التي يطرحها الغرب اصبحت مادية اكثر من اي مرحلة ماضية، وصارت دوغماتية اكثر من قبل وتقوم على المنفعة اكثر من اي شيء آخر.

من الطبيعي ان تأتي ردة الفعل من جانب العرب والمسلمين غير متوازنة في بعض الاحيان وان تكون اسيرة الماضي وما فيه من انجازات حضارية يجري التمسك بها في زمننا الحاضر. لكن فاتنا ان الحضارة الاسلامية الماضية تحتاج الى تجديد وتحديث ومواكبة العصر من خلال الاجابة عن اسئلة كبرى ابرزها مثلاً، ما هو موقفنا من حقوق الانسان المعاصر؟ ما هو موقفنا من حقوق الغير او الآخر؟ وما هو تصورنا لتعزيز التعاون الدولي بين الامم والشعوب؟

ما يؤسف له ان صناع القرار السياسي في بلادنا لم يركزوا على الإجابة عن هذه الاسئلة، فهم مشدودون الى الماضي والى كيفية معالجة نتائج احداث 11 سبتمبر بأقل الخسائر الممكنة. واقع العصر هو ان الثقافة العربية او الاسلامية لا يمكن ان تنفصل عن الثقافات الاخرى. فنحن شئنا ام أبينا معنيون بالتفاعل مع الثقافات الاخرى وان كنا لا نجاريها في كثير من مضامينها. هذه الملحوظة لا تسقط من الحساب اهمية التعاون الدولي رغم الصلف الاميركي السياسي الذي يدفع باتجاه العولمة، وفي بعض مضامينها الكبرى هي امركة. هذا ما يفسر جانباً من الجواب على السؤال الاميركي الكبير: لماذا يكره العالم الولايات المتحدة؟

في الواقع ان الكره ليس للشعب الاميركي، ولا يجب ان يكون كذلك، بل الكره هو لسياسة الادارة الاميركية المتحيزة، والمفرطة في المادية وممارسة سياسة القوة. ولعل الفترة الماضية من عهد جورج بوش الإبن تؤكد هذا المنحى الاميركي الخطير.

ان التصور الغربي، واحياناً العالمي حول دخول العالم مرحلة ما بعد الحداثة، صار مهتزاً ومعرضاً لاعادة النظر، خصوصاً ان الولايات المتحدة والغرب يعودان من جديد الى سياسات تقسيم المعمورة وتصنيفها الى فئات ومستويات اجتماعية وثقافية مختلفة. فالعولمة لم توحّد نظرة العرب الى الآخر، كما أنها لم تستطع ان تلغي التعددية الثقافية والفكرية بين الدول وفي داخلها. العالم المتصور في مرحلة ما بعد الحداثة لم يتضح بعد حتى في ذهن الداعين اليه.

فإذا كانت الحداثة هي تتويج للثورة الصناعية الثانية بعد الحرب العالمية الثانية، فإن مرحلة ما بعد الحداثة المصاحبة للثورة الالكترونية والمعلوماتية تعود من جديد لتركز على اقتصاد الخدمات، اي على المنفعة والاسواق المالية وعلى الاحتكارات والكارتلات الضخمة في العالم. بتعبير آخر، نحن امام استعمار جديد، ولو كان مُقنَّعاً بزي العولمة والديمقراطية وحقوق الانسان. وحسبنا في هذا الصدد الاشارة الى مؤتمر جوهانسبيرغ وقبله الى مؤتمر ديربان حيث وقف العالم الصناعي وخاصة الولايات المتحدة في موقف الدفاع عن المصالح المادية البحتة حتى لو أتت على حساب الارض ومن عليها. فالبيئة مهددة كما الانسان، والهوة الاجتماعية بين الغني والفقر تتسع رغم الوعود المعسولة التي تطلقها قوى العولمة. في هذا المناخ يطرح السؤال داخل الغرب عن حقيقة معنى مرحلة ما بعد الحداثة. في اعتقادنا ان جوهر الحداثة الذي من المفترض ان يكون متمركزاً حول ارتقاء حياة الانسان، هو الذي يجب ان يسود ويستمر قبل احداث 11 سبتمبر وبعدها. وبصرف النظر عن الانفعالات الغريزية للمجموعات الاثنية والكولونيالية في العالم.

* المشروع الأصولي وصل إلى طريق مسدود

* خالد زيادة ـ باحث لبناني

* من المبكر الحديث عن نتائج 11 سبتمبر (ايلول) 2001 على الصعيد العالمي او حتى العربي، فعدا عن الحرب الغامضة النتائج التي حدثت في افغانستان، لم نلحظ خلال سنة فائتة، تحولات دراماتيكية في اي بلد من بلدان العالم. وبالرغم من هول احداث 11 سبتمبر، والضحايا الذين سقطوا في نيويورك وواشنطن، فإن الاحداث العالمية لا تقاس بعدد الضحايا، والدليل على ذلك ان عدداً اكبر من الضحايا سقط ايضاً في افغانستان خلال الشتاء المنصرم وسط لا مبالاة عالمية لافتة. اهمية احداث 11 سبتمبر تكمن في دلالاتها الرمزية، كون القوة العظمى في العالم قد تعرضت لاعتداء استهدف مراكز قوتها، وقد اثار هذا الاعتداء ذهول العالم اجمع، لان عدداً قليلاً من «الاشخاص» تمكنوا من اختراق مدينتي القوة في العالم مستخدمين التكنولوجيا المعقدة التي هي رمز تفوق الولايات المتحدة الاميركية نفسها.

ان الادارة الاميركية التي اعلنت الحرب الشاملة هي التي انطلقت من هذا الاعتداء لتقسم العالم الى محورين مثل بن لادن الذي قسم العالم الى فسطاطين، بعد ان كان العالم قبل انحلال الكتلة الاشتراكية منقسماً الى معسكرين متكافئين الى حد بعيد. ان ما يسيطر على العالم اليوم هو اختلال فظيع للتكافؤ. وهذا هو التحول الرئيسي الذي نشهده على الصعيد العالمي، وهذا الاختلال لم ينشأ يوم 11 سبتمبر، بل بدأ قبل ذلك بسنوات، كانت الولايات المتحدة الاميركية خلالها تثبت تفوقها وتكرس أحاديتها.

وبعد سنة من احداث سبتمبر 2001، نلاحظ انفراط عقد الاصطفاف خلف الادارة الاميركية الذي فرضته على دول العالم. فهل ستلجأ هذه الادارة قريباً الى حرب جديدة (في العراق مثلاً) من اجل رص دول العالم خلفها وتكريس سياساتها، وهل سنشهد في السنوات التالية سلسلة من الحروب تخوضها الولايات المتحدة للاستمرار في تكريس هيمنتها، على غرار ما يصرح كبار المسؤولين الاميركيين الذين يبشرون بحروب متعاقبة؟ بذلك تكون احداث 11 سبتمبر 2001، بداية تحولات تفرضها الولايات المتحدة الاميركية على العالم.

لا تمثل احداث 11 سبتمبر صداماً بين قيم الحداثة الغربية، وبقية ثقافات العالم، وخصوصاً الاسلام. فاذا كان تنظيم «القاعدة» خلف الاعتداءات على نيويورك وواشنطن، فإن تنظيم «القاعدة» ليس ناطقاً ولا ممثلاً للثقافة الاسلامية او القوى الحية في العالم الاسلامي. وتصريحات اسامة بن لادن بعد 11 سبتمبر التي قسم فيها العالم فسطاطين تبسط مغزى الصراعات العالمية وتعيدنا الى ثنائية ساذجة. وكهوف افغانستان التي عاش فيها بن لادن، ليست العالم الاسلامي الذي أثبت قدرات على اكتساب الحداثة الغربية خلال مائتي سنة، والا فماذا نفعل بتراث النهضة والاصلاح، وهل نضع الطهطاوي ومحمد عبده وطه حسين خارج الاسلام؟

واذا تعثرت الحداثة في بعض بلدان العالم الاسلامي، فليس لعدم قابلية الشعوب الاسلامية على استيعاب الحداثة بل بسبب سياسات خاطئة تتحمل الدول الغربية مسؤولية جزئية عنها، اما الجزء الآخر من المسؤولية فتتحمله القيادات التي تولت شؤون البلدان التي خرجت من الاستعمار وسط القرن العشرين. بل اذهب في القول الى أبعد من ذلك، ان احداث 11 سبتمبر كانت قفزة في الفراغ من جانب الذين اعدوها ونفذوها، ذلك ان المشروع الاصولي قد وصل الى طريق مسدود. فخلال اكثر من عشرين سنة من نمو الاصوليات الاسلامية، تدلنا التجارب على اخفاقها في برامجها بالرغم من التأييد الذي حصلت عليه من جماهير مؤمنة حقاً ويائسة من الاخفاقات التي حصدتها الشعوب الاسلامية في معارك التنمية والاستقلال والديمقراطية. على العكس من ذلك اذاً، فأحداث 11 سبتمبر، ينبغي ان تدفعنا الى قراءة جيدة في علاقاتنا مع العالم الذي يذهب اكثر فأكثر الى التوحد، بحيث نثبت موقعنا فيه.

اعتقد بأن التحولات الفكرية لا تقاس بوقائع الاحداث السياسية مهما عظم شأنها. فمن المحتمل ان يسبب هذا الحدث او ذاك اعادة نظر في بعض الامور والافكار، لكنه لا يسبب تحولات حاسمة.

وفي جميع الاحوال، فإن التحولات الفكرية في الغرب قد حدثت على امتدد النصف الثاني من القرن العشرين وبعد الحرب العالمية الثانية بشكل ادق. ان الوجهة التي اتخذتها هذه التحولات الفكرية هي انخفاض شأن النظريات والافكار الكبرى التي كانت تسيطر على اوروبا آنذاك. وبعد انهيار الاشتراكيات الوطنية في المانيا وايطاليا، استطاعت الماركسية ان تستقطب العقول النيرة لعقدين قبل ان تأخذ في الافول هي الاخرى كما هو معلوم. ولم تعد اوروبا تنتج افكاراً كبرى، ولكنها اخذت تبرز نظريات نقدية وتنكب على اعادة النظر في اسسها الفكرية مع البنيوية والتفكيكية... الخ.

لم تعد اوروبا التي استمرت في انتاج الافكار لاكثر من ثلاثمائة سنة، تنتج افكاراً تنتشر في العالم. لا شك بان اوروبا ماضية الى الافول ولكن اميركا لم تستطع ان ترث التركة الفلسفية العظمى لاوروبا، لقد انتجت اميركا ادباً كبيراً وسينما عظيمة لكنها لم تعط للعالم سوى الافكار التي تبرر القوة والسيطرة على غرار هنتنغتون وفوكوياما. وتحليل هذا الامر يحتاج معالجة عميقة ومتأنية من جانب مثقفي عالمنا الذين عليهم ان يدركوا الفارق الثقافي بين اوروبا واميركا.