كلب بوليسي يحرس المترجم المنتحل لأقدم نصوص الحكمة

تصرف عبد الرزاق عبد الواحد بترجمة كتاب الصابئة «كنزاربا» يوازي العبث بأبي الهول وإلباسه قبعة مكسيكية

TT

بدأ الفضول من كلب ورسالة ورواية، اما كيف تطورت الى قراءات ومقارنات عن اقدم كتاب للحكمة، فحكاية جديرة بان تروى.

الرواية قديمة ومملة اسمها «دماء على نهر الكرخا» وهي من قصص الحرب العراقية ـ الايرانية التي اعادت نهر المحمرة الرئيسي الكرخا الى الذاكرة، وهي منطقة يرتبط اسمها بالموقف السياسي للشخص. فان كنت تعتقد بعروبتها فهي عربستان، وان كنت تحسبها جزءا من ايران فهي «خوزستان» وان كنت اكاديميا محايدا، فهي البلاد التي استوطنها الصابئة المندائيون بعد ان طردهم اليهود من فلسطين بحدود النصف الثاني من القرن الأول الميلادي، وهذا يعني انها اول مخيم للاجئين الفلسطينيين تسبب به اليهود الاوائل الذين ارادوا احتكار الديانات وكان يزعجهم ان الصابئة اصحاب نبوات وكتب، فهم من الموحدين الذين اعتبرهم الاسلام بين اهل الذمة وذكرهم القرآن الكريم قبل النصارى، وذلك في الآية 69 من سورة المائدة: «ان الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر، وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون» وفي آيات اخرى من سورة الحج وسورة البقرة.

وسر غضب اليهود الاوائل على الصابئة ان هذه الفئة الموحدة بدأت تنسق جهودها مع القوة المسيحية الصاعدة، وقد استلف المسيحيون تقاليد التعميد بالماء من الصابئة الذين كان نبيهم يحيى عليه السلام هو الذي يقوم بالتعميد ومن بين من عمدهم عيسى عليه السلام الذي جاء الى يوحنا المعمدان وقال: عمدني، ويوحنا هو نبي الله يحيى الذي تعتبر تعاليمه من الكتب المقدسة عند المندائيين الذين يطلقون عليه اسم «يهيا يهانا ويسمون كتابه «ادراشا اديهيا» وترجمتها دروس وتعاليم سيدنا يحيى، وربما تكون هذه التعاليم هي كتاب نبي الله يحيى المشار اليه في الآية الكريمة «يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا».

وسوف نعود الى هذا الكتاب وغيره من كتب الصابئة المقدسة بعد ذكر ما جرى من حديث الكلب والرسالة وهذا لا علاقة له بالقدس ولا بالقدسية.

فقد جاءنا بالاخبار قبل شهر ان الشاعر العراقي المندائي عبد الرزاق عبد الواحد قد تقدم بطلب الى وزارة الداخلية في بغداد لتزويده بكلب حراسة بوليسي بدل كلبه السابق الذي قتلته الشرطة خطأ اثناء حملتها لتصفية الكلاب الضالة في العاصمة العراقية، ولم نكن نعلم قبل هذه القصة ان الدولة تزود الشعراء بكلاب بوليسية لحراستهم، من ماذا..؟ لا احد يدري حتى الكلب نفسه.

* السابحون والمغتسلة

* وقبل ان تسأل ما علاقة كلب عبد الرزاق عبد الواحد بتراث الصابئة نحيطك علما ـ وفوق كل ذي علم عليم ـ ان هذا الشاعر متهم في ذات الحقبة بسرقة ترجمة كاملة الى العربية لكتاب «كنزاربا» الكتاب المقدس الرئيسي عند الصابئة المندائيين وترجمة اسمه «صحائف آدم» لكن الشاعر او الذين سرق ترجمتهم حسب الاتهام يشيرون الى ذلك الكتاب باسم الكنز الثمين، وقبل تفاصيل الرسالة التي كشفت عن سرقة الشاعر لترجمة غيره لا بد ان نتساءل عن سبب غياب ترجمة عربية لهذا الكتاب الموجود منذ ألفي عام مع ان جهود حركة الترجمة العربية في العصر العباسي قامت بالاساس على اكتاف مدرسة حران وكل مترجميها من الصابئة.. هنا مليون استفهام ومليار تعجب.

الارجح ان المندائيين اختاروا ان تظل تعاليمهم سرية، ولانهم لم يؤسسوا دولة خارج ارض كنعان، فلربما وجدها اللاهوتيون عندهم ـ الروحانيون ـ فرصة لان يجعلوا من معرفة التعاليم سلطة حقيقية على اقدم فئة موحدة في العالم، ولهذه الفئة اسماء كثيرة فالاخباريون والمؤرخون الاسلاميون كابن النديم يعطونهم غير الصابئة اسم «المغتسلة» نظرا لارتباط عقائدهم بالماء واشهر فرقهم مغتسلة ميسان المشهورة بخمورها، وانطلاقا من هذا الاسم التاريخي استسهل عباس محمود العقاد المسألة فأطلق عليهم اسم «السابحون». وقد بدأت تغيب عنهم صفة المعمدين لمنافسة المسيحيين لهم على هذه الصفة التي اخذوها منهم ومهما تغيرت الاسماء فان العقيدة الاساسية لهؤلاء القوم تزعم ان الماء يطهر الانسان من الداخل والخارج وينظف الروح قبل البدن، وكل من خرج من مسبح او حمام قد يتفق معهم الى حين على الاهمية النفسية لهذه النظرية الروحانية «لا امارس طقوسي بالنار، ولست يهوديا او مسيحيا ولكن امارسها بالماء الجاري الطهور» فهكذا يقول نشيد التعميد عند من اخترعوه.

والآن الى الرسالة، فهناك في المهجر الاوروبي عدة صفحات انيقة متداولة منذ حين وقعها السيد مجيد جابك جاري، يزعم فيها انه تم لاول مرة في التاريخ الثقافي انجاز ترجمة عربية لكتاب «كنزاربا» قامت بها مجموعة من المندائيين كانت تجتمع في مزرعة حمودي مطشر، وقد سبقني الزميل رشيد الخيون للاشارة الى هذه الرسالة الشهيرة وبعد قراءتها يمكن التأكيد على انها تحمل اتهاما من الوزن الثقيل، فالشاعر صاحب الكلب البوليسي لم يكتف بالاستيلاء على الترجمة الجماعية التي تحرت الدقة وظلت اقرب الى روح النص القديم لكنه اعاد صياغتها باسلوب جديد، واضاف اليها الكثير مما لم يكن موجودا بالصحائف، وهذه مسألة توازي تماما تشويه وجه ابو الهول وإلباسه قبعة مكسيكية فوق جبهته العريضة وانفه المكسور.

ان ترجمة كتاب عمره اكثر من الفي عام بمثل هذه البحبوحة في التصرف التي تؤكدها الرسالة بنصوص وعدة «بوثات» مقاطع قضية لا يجوز السكوت عنها ابدا لكن من يحاسب من في بلد مهدد بالمجاعة والحصار والحرب؟ بل من عنده الوقت ليقف عند هذه التفاصيل؟ ونذر ضرب العراق تلوح في اية لحظة، والرئيس العراقي الذي تسلم اول نسخة لـ«كنزاربا» بالعربية من الترجمة المسروقة والمتصرف بها عنده بالتأكيد مليار وثلاثمائة مليون قضية قبل التفكير بجناية عبد الرزاق عبد الواحد على كتاب طائفته الذي منعت ترجمته للعربية مئات السنين لاسباب غامضة.

* الألمان وابن خلدون

* وللصابئة غير «كنزاربا» وتعاليم ودروس يحيى عليه السلام، كتاب التعميد ـ مصوتا ـ وكتاب العبادات ـ ايناني ـ وكتاب قلستا وهو الاهم بالنسبة للشؤون اليومية لانه يحتوي على تعاليم النكاح والعلاقات الاجتماعية. والغريب انه ليس في هذا الكتاب كلمة واحدة عن الطلاق، فكأن المندائيين كالكاثوليك يؤمنون بان ما يجمعه الله لا يمكن ان يفرقه الانسان وهم ايضا يعمدون المتزوجين بالماء بعد تعميدهم الاول.

وغير اختراع التعميد الذي جعلهم يقيمون دائما بالقرب من الانهار وجعل عقيدتهم لا تصلح للصحراء اخترع المندائيون للعالم غصن الزيتون كرمز للسلام والاخوة بين الشعوب، فالشعائر عندهم لا تتم بدون «المركنة» وهي اغصان الزيتون التي يحملها الكنزورا والترميده ـ مناصب روحانية ـ اثناء اقامة شعائر الصابئة.

وقد قسم ابن خلدون المندائيين الى عدة طوائف منها الكاظمة نسبة الى كاظم بن تارح والبيدانية أتباع بيدان الاصغر، والقنطارية الذين تبعوا قنطار بن ارفكشاد واقروا بنبوة نوح عليه السلام وهو بذلك يناقض نفسه لانه في ذات النص من المقدمة وقبل عدة اسطر يعرفهم بانهم من الذين يقولون بالهياكل والاصنام الارضية وينكرون النبوات، وهذا غير صحيح فالاسلام يعتبرهم من الموحدين وهم يعترفون قبل نبوة يحيى عليه السلام بنبوة نوح ونبوة «شيتل» وهو نبي الله شيت عليه السلام، ولولا ذلك لما كان الاسلام قد ادخلهم ضمن اهل الذمة والموحدين من اهل الكتب.

ولا يقدم اللغويون العرب فوائد تذكر في فهم العقائد المندائية واصلها، فالمعاجم تكتفي بالقول انهم «جنس من اهل الكتاب قبلتهم من مهب الشمال». لكن اللغات المقارنة عندها بعض التفسيرات المتعلقة بالاسم، فمندائي بالاصل كلمة آرامية مؤلفة من مقطعين «مندا» وتعني العلم والمعرفة ثم ياء النسبة، وبذا يكون الاسم الاقرب لهم هو «العرفانيون» او اهل العلم والمعرفة لكن يصعب استخدام هذا اللقب طالما ان الفلسفة الاسلامية قسمت فرقها الرئيسية الى اهل برهان واهل عرفان.

ويعتقد المستشرقان اوليري ونولدكه ان اسم صابئة جاء من تعبير «صب الماء» ولعله كان «الصابة» اشارة الى التعميد بالماء ويتابعهم في ذلك الكاتب الايراني سليم برنجي مؤلف كتاب «الصابئة المندائيون» وللكتاب عنوان فرعي طويل يشير الىهم كقوم منسيين، وهناك كتب تراثية ايضا تشير الىهم على انهم الفرقة المنسية او «المنسيون» ومن يرفضون ترجمة كتابهم الاساسي الى اللغات الاخرى لاكثر من الفي عام لا بد ان ينساهم التاريخ مهما عطفت عليهم الجغرافيا.

وفي الآرامية فان صبا وصبوا تشيران الى التعميد ايضا، وربما استسهلت العربية نقل اسم الصابئة او نحته لتشير وتؤكد على حكاية التعميد، ومع ذلك فليس في المراجع الاساسية العربية من يطلق عليهم «المعمدون»، فهذا الاسم جاء لاحقا من الاستشراق الالماني الذي حرص على حرفية الترجمة بالمعنى العقائدي.

وعلى ذكر الاستشراق الالماني فان الرسالة التي تحتج على تشويه الشاعر العراقي لكتاب الصابئة تستشهد في بعض الـ«بوثات» بترجمة خولسن ليدزيارسكي وهي واحدة من اهم الترجمات العالمية لـ«كنزاربا». وغير هذا المستشرق الذي يعتبر حجة في اللغة المندائية كان للبروفيسور ـ الالماني ايضا ـ ماتسوخ آراء لا تبتعد كثيرا عن آراء ليدزيارسكي ونولدكه ودراور حول عقائد وتقاليد ولغة هذه الطائفة العرفانية شبه المنسية.

وسواء كان الكلب البوليسي العراقي يحرس اقدم كتب الحكمة في العالم ام يكتفي بحراسة منتحل ترجمته للعربية ومشوهها، فتلك ليست القضية، فشعراء السلطة الذين يذمون كلاب البوليس في قصائدهم ويستفيدون من خدماتها في حياتهم العملية سيجدون دائما طريقة ما للسرقة والتزلف والنفاق ثم القيام باخفاء الاثر واذا جاز السكوت عن تشويه قصائد وقصص ونصوص ذات طابع غير عقائدي فانه لا يجوز ابدا ان تمر حكاية تشويه اقدم كتاب عالمي للحكمة كـ«كنزاربا» من دون مساءلة وتدقيق والا اصبح التراث البشري مسرحا للعبث غير الفني وغير المسؤول وغير المسموح به ثقافيا واخلاقيا واجتماعيا.

لقد قامت القيامة الغربية ضد رواية «الغواية الاخيرة للمسيح» والفيلم المأخوذ عنها وعمت التظاهرات معظم مدن الغرب بما في ذلك الاقطار المعروفة بقلة التشدد عقائديا، ولا شك ان الترجمة المشوهة لـ«كنزاربا» تستحق احتجاجا ما، ان لم يكن بالتظاهر في الشوارع فبكشف تفاصيل هذه «الجريمة الفكرية» على صفحات الجرائد وفي وسائل الاعلام كافة وذلك اضعف الايمان.