مبدعون مجانين بالكلمات

الكسندرا فولر تروي فصولا من طفولتها في ما كان يسمى «روديسيا» وبلجيكية تتذكر الكونغو

TT

يقول داني لافاريار الذي يعد حاليا واحدا من اهم كتاب جزيرة هايتي، انه يحب ان يكتب كما لو انه يهذي. واحيانا يخيل له انه يطير فوق المنازل ويحلق بعيدا عن الارض الساكنة تحت اقدام الناس. ويضيف بأن قلبه في «بورت دي برانس» عاصمة جزيرة هايتي حيث ولد عام 1953 وان عقله في مدينة مونتريال حيث اقام في المنفى في حين يوجد جسده في ميامي حيث يعيش راهنا. وبالرغم من انه متزوج وأب لثلاثة ابناء فانه يقول: «عندما اكون جالسا امام الآلة الكاتبة اصبح اعزب. لي فقط فراش كأنه فراش جندي وزجاجة روم ومدينة خيالية. لا أحد يقول لي ماذا اكتب. بالنسبة لي الكتابة تمرين مطلق للحرية.

أنا مجنون بالكلمات. كلمة شرارة مثلا، معها تنفجر طفولتي في رأسي في الحين».

وهو يروي تفاصيل طفولته هذه في «رائحة القهوة» وفيها يتحدث عن السنوات التي امضاها عند جدته المدعوة «وا» التي كانت تتأرجح على كرسيها الهزاز وهي تروي له قصصا عن الجن والشياطين والحيوانات العجيبة. وفي الليل، يظل الى جانبها حتى ساعة متأخرة ليتأمل النجوم. وكان ابوه سياسيا مناهضا لنظام فرانسوا دوفالييه. وبسبب الملاحقات التي كان يتعرض لها، فر الى كندا مع عائلته بحثا عن الحرية والامان، بعيدا عن نظام كان يغتال معارضيه في وضح النهار. وفي روايته الاخرى «صوت العصافير» يروي داني لافاريار الساعات الاخيرة في «بورت دي برانس» قبل تركها والتي كانت تعيش تحت الارهاب الذي سلطه عليها ديكتاتور آخر يدعى «بابي دوك». وهو يشبِّه جواسيس النظام وعملاءه بالحيوانات المفترسة قائلا: «تماسيح تتلاقى في صمت. اسماك القرش تدخل. فهود تخرج. نمور تتثاءب».

وعند تركه جزيرة هايتي فاتح شهر حزيران (يونيو) 1976، وجد داني لافاريار نفسه خارج القطعان البشرية التي كانت تمنعه من القيام بما يسميه هنري ميللر بـ «الرحلة الداخلية للذات» ولم يعد يخاف الموت الذي كان يترصده في منعرج كل شارع. وعندئذ احس بانه ولد من جديد. وعندئذ قرر ان يقيم مسافة بينه وبين السياسة لتصبح الكتابة وحدها قدره ومصيره. وهو يقول عن مساره الجديد هذا: لقد شعرت ان شخصا آخر بعث للحياة. وقد اندهشت لذلك اندهاشا شديدا. ومنذ ذلك الحين ابتعدت عن السياسة. لم تعد بمثابة كأس الشاي التي لا بد ان اشربها كل يوم كما هو الحال في هايتي. السياسة بالنسبة لي تبدأ داخل الحياة الشخصية. علينا ان نناضل ضد الديكتاتورية وايضا ضد اولئك الذين يريدون تدمير الحياة، والذين يرغبون في ان نغط سأما وقنوطا والذين يسممون «أوقاتنا الجميلة». ويرفض داني لافاريار ان يلقب بـ «الكاتب الكاريبي» (نسبة الى البحر الكاريبي)، ويقول: «اذا ما وصفني احدهم بذلك وقال ان اسلوبي «استوائي» فإني سأكسر له خلقته»، وهو يظهر اعجابا كبيرا بكل من خورخي لويس بورخيس وجيمس بالدوين لانهما حسب رأيه رفضا المكان الذي فرضه عليهما كل من التاريخ والجغرافيا.

* رقصة الفهد

* «رقصة الفهد» هي الرواية الثامنة للكاتبة البلجيكية ليف جورسين، وتدور احداثها في الكونجو عندما كان الجنرال موبوتو يموت في المغرب في حين كان لوران ديزريه كابيلا يتأهب لتسلم السلطة. وكانت البلاد تعيش قلاقل وهزات عنيفة والناس في حيرة من امرهم اذ ان المستقبل كان يبدو غامضا ومجللا بالمخاطر والمصاعب. وكان النهب في المدن عملا يوميا. والشخصية الرئيسية في الرواية هي المؤلفة نفسها. وهي تذهب الى الكونجو لتتابع الاحداث عن كثب. وها هي تجوب البلاد لتعاين الخراب والدمار والخوف وعمليات النهب والسرقة التي تتم في وضح النهار، في الآن نفسه هي تحاول جاهدة انقاذ البعض من الفارين من الموت والباحثين عن الامن في بلاد اصبح العنف فيها سيد الموقف. وعندما يبدأ انصار كابيلا في الخروج من الغابات التي كانوا يعيشون فيها، يشرعون في نهب المدن، وقتل الناس كما لو انهم «وحوش ضارية». وقد قال احد النقاد بأن «رقصة الفهد» تعتبر وثيقة جد مهمة ليس عن الكونجو وحده وانما عن العديد من البلدان الافريقية الاخرى التي عرفت مذابح ومجازر واحداثا سياسية دامية خلال العقد الاخير من القرن العشرين.

* طفولة في زيمبابوي

* عاش شانجيراي هوف المولود عام 1954، فترة الاحتلال البريطاني لبلاده (زيمبابوي) وايضا سنوات التمييز العنصري فيها ايام ايان سميث ثم الاستقلال الذي تحقق عام 1980 والذي افضى عقب مرور بضع سنوات على ذلك الى نظام روبرت موجابي الديكتاتوري البغيض. وقد امضى شانجيراي هوف سنوات طفولته ومراهقته في ضيعة والده شمال البلاد. وكان هذا الاخير متزوجا من ثماني نساء. وفي روايته «الاجداد» يروي تفاصيل هذه المرحلة والشخصية الرئيسية طفل يدعى «موشا» وهو لا يملك الكلمات الكافية لوصف ما يدور من حوله. وكان يرى يوميا رجالا من قريته يؤخذون بالقوة للعمل في المناجم والبيض يضطهدون ويهينون الناس، ويرى الفلاحين يطردون من اراضيهم ليواجهوا الجوع والموت. واما النساء فيعاملن مثل العبيد في البيت العائلي الكبير وعليهن تسلط المظالم يوميا.

من هذه الرواية نقرأ هذه الفقرة: «هكذا ولدت الطفلة الصماء البكماء. وفي حياتها كلها لم تنطق بكلمة واحدة. كانت صمتا شاسعا يفضي الى صمت اكثر اتساعا. وانا لم اكن اسمع غير صمتها وكنت مسافرا يحلم بالوصول الى المكان الذي يرغب في الوصول اليه ويسمع ذلك الطائر الضائع في سفره الليلي».

* أبناء التمييز العنصري

* في روايتها «انتصار» تعالج الكاتبة الجنوب افريقية مارلين فان نيكارك بدقة وبراعة فائقة واسلوب بديع موضوع التمييز العنصري الذي عاشته بلادها عقودا طويلة. وشخصيات الرواية الذين ينتمون الى عائلة واحدة يعيشون علاقات شاذة. فالاخت ترتبط بعلاقة جنسية مع احد اخوتها ومنه تنجب طفلا. وثمة ابن يمارس الجنس مع امه في الخفاء. وهناك ايضا اناس يعيشون خوفا دائما او هم غاطسون في عالم الرذيلة. والعالم الذي تدور فيه احداث الرواية يتميز بالتفكك والاضطراب. ولعل مارلين فان نيكارك ارادت من خلال ذلك ان تبين ان نظام التمييز العنصري الذي قام على تفوق البيض على السود، كان نظاما بشعا ولا انسانيا، ولم تكن القيم النبيلة التي كان يدعي انه يمتلكها غير اكاذيب لاخفاء وجهه البغيض.

* دموع الحجر

* من روايتها التي تحمل عنوان «دموع الحجر» تروي الكسندرا فولر اطوار طفولتها في ما كان يسمى بروديسيا وايضا اطوارا من حياة والديها اللذين وصلا الى هناك في ابريل (نيسان) عام 1966 هاربين من تفاهة الحياة البورجوازية الصغيرة في الريف البريطاني. ورغم ان الحرب كانت مشتعلة بين السود والبيض فان القادمين الجديدين كانا يعتقدان ان الوضع سيظل على نفس الصورة التي كان عليها سابقا، لذا هما يشرعان في العمل بجد ونشاط لان المستقبل كان يلوح لهما مشرقا. ولكن شيئا فشيئا تأخذ الاوضاع في التدهور، وتغرق العائلة الصغيرة في الازمات والمشاكل. وفي الضيعة التي تستقر فيها عام 1974 والتي تقع على الحدود الفاصلة بين ما كان يسمى بروديسيا والموزامبيق، تزداد الاوضاع سوءا، خصوصا ان الحرب الدائرة بين السود والبيض اصبحت جد قريبة.

وواصفة ذلك، تكتب الكسندرا فولر: عندما كنا نمر بالسيارة، كنا نعاين الكراهية على وجوه السود. وخارج احد المحلات التي تبدو على واجهتها آثار الرصاص، هناك ناقوس معلق في شجرة. وعندما تمر سيارتنا، تضرب عجوز مقرفصة الناقوس بشدة مدهشة وعندئذ تصوب امي رشاشها وتصيح فينا «اخفضوا رؤوسكم يا اولاد!» وفي العام 1980 استقلت روديسيا لتصبح زيمبابوي وعندئذ تقول الام: بالكاد نظن ان كل شيء انتهى وانه علينا ان نعترف باننا اخفقنا في النهاية. نعم لقد اخفقنا.

* بولوني مكتشف افريقيا

* في العام 1908، شارك الارستقراطي البولوني الشاب يان شيكانوفيسكي في رحلة علمية استكشافية الى افريقيا مع جمع من الطلاب وقد قام الدوق ادولف فريديريك دو ماكلامبورج بدفع نفقات الرحلة المذكورة. وبين اكتوبر (تشرين الاول) 1908 وابريل (نيسان) 1909 قطع الارستقراطي الشاب 5000 كيلومتر مشيا على الاقدام. في رواندا قطع سلسلة من الجبال البركانية ليصل الى الكونجو الذي كان آنذاك مستعمرة بلجيكية.

وهناك يكتشف الاستغلال الفظيع للسكان المحليين والذي كان يتم بأمر من الملك البلجيكي ليوبولد الثاني الذي كان يأمر جنوده بقطع ايادي وارجل الذين يرفضون تنفيذ الاوامر. وهو يكتب قائلا: في القرى التي مررت بها، لم يكن هناك رجال. فجميعهم كانوا يقومون بأعمال هنا وهناك. والاعمال الشاقة التي كانوا مجبرين على القيام بها كانت تأخذ منهم كل اوقاتهم التي يمضونها دونما نار او مكان للنوم في الغابات او على الطرقات وبطونهم خاوية. ويبدو هؤلاء الرجال في اقصى حالات الارهاق واليأس. ويحضر الارستقراطي البولوني مشهدا غاية في الوحشية فيسجل وقائعه شاب كسر صحنا من الخزف الصيني يجلد بالسوط حتى يغمى عليه. وبالرغم من مرور وقت طويل على تلك الرحلة، فان الملاحظات التي سجلها الطالب البولوني الارستقراطي تبدو كما لو انها تعكس الاوضاع الراهنة في القارة السمراء التي لم يخلصها الاستقلال من المصائب التي ما زالت تكابدها حتى هذه الساعة.