شاعر سويدي تعلم من ابن عربي الرمزية والسوريالية

اتجه إلى الشرق يبحث عن شيء لم يجده في تراث أوروبا وتقاليدها

TT

لم تعرف ساحة الادب السويدي شاعرا تأثر بسحر الشرق الى تلك الدرجة من العمق والانسجام، كما عرف عن غونار اكيلوف، الذي صادف الاحد الخامس عشر من شهر ايلول الجاري، ذكرى ميلاده الخامسة والتسعين. بطبيعة الحال هناك كتاب معاصرون كثر من بلدان الشمال الاسكندنافي ومن السويد تحديدا تشم في كتاباتهم نسائم الشرق البعيد، لكنك امام اكيلوف تحس الشرق بعمق تفاصيله في معظم قصائده التي تركها لنا، قبل ان يغادرنا العام 1968 فتجد تكوينه الشعري خليطا من التراث الادبي الاوروبي المتلاقح بالصوفية العربية ـ الفارسية والطاوية الصينية ومن تأثير مخطوطات الهند القديمة والابنشادية الهندوسية التي يندمج في رؤاها الكون والروح في وحدة متكاملة، وشيء من تقاليد الشعر العربي. وبخلاف اقرانه من شعراء اوروبا في القرن الماضي، لم يتأثر اكيلوف كثيرا بتقاليد اوروبا في القرن الثامن والتاسع عشر، ولم يتوقف عند فلاسفتها وكتابها امثال شوبنهاور ونيتشه وغيرهما، رغم انه تأثر برامبو، في بداياته الشعرية، حيث تناغم معه بثورته المحدثة وصرخته النبوية المنذرة في زمن الكراهية والقتل. فكتب اولى اعماله الشعرية عام 1932 بعنوان «متأخر على الارض». وهو بالاحرى ديوانه الثاني بعد «شظايا» الذي اصدره عام 1928، من خلال قصائده في «متأخر على الارض» يلمس المرء روحية رامبو ونبونته بالدمار والعدمية. فعندما زار اكيلوف برلين العام 1933 تنبأ بهذا الخراب الذي جلبته الحرب العالمية الثانية لأوروبا، فيصاب بالحزن، لكنه الحزن الذي يدفع الانسان الى المقاومة وليس الى القنوط والاستسلام لليأس. فيصدر عام 1938 ديوانه «الحزن والنجمة» الذي جعله موضوعه الرئيسي الصراع مع الالم والظلام والموت، لكنه سرعان ما يذوي الى الصمت، لكنه الصمت المدوي، فيصدر ديوان «اغنية المسناة» العام 1941. الذي يتحدث عن الصمت كلغة احتجاج. «كم نادرا يتخلى ملك السلطة عن سلطته ـ ان نمتنع عن الذات والكلام ـ هو الشيء الوحيد الذي يمنحنا القوة». لقد خط الشاعر موقفا ثابتا من السلطة والسلطان، ايا كان صنفه طالما يبني سلطته على معاناة الآخرين، وهكذا كان موقفه من الدين والعقيدة ايضا، لكنه استثنى عقائد الشرق وافكاره الساحرة.

اكيلوف سأم اوروبا، واتجه نحو الشرق يبحث في صوفيته وبوذيته وهندوسيته عن شيء لم يجده في تراث اوروبا وتقاليدها، يبحث عن التوحيد، عن الحقيقة الكلية والاجابة على سؤال الوجود. فوجد ضالته عند محيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي وطاغور. ومن وحي تأثره بهذا الشاعر الهندي يكتب اكيلوف قصة قصيرة بعنوان «حلم حول الهند». غير ان الصوفي الشيخ ابن عربي الذي ولد في الاندلس العام 1165 ودفن في الشام عام 1240، كان بالنسبة له الاكثر قربا وتناسبا مع تطلعاته. «لقد تعلمت من (ترجمان الاشواق) مارغيت فيه من الرمزية والسوريالية».

ومن روح «ترجمان الاشواق» الف اكيلوف ثلاثيته التي بدأها بـ«ديوان امير اميجيون» الذي اصدره العام 1965. والديوان هنا ليس ديوان الشعر، بل هو الحضرة او المكان الذي يتداول فيه القاضي شؤون العامة ويفصل بأمورها، وهو المفهوم الذي استخدمه العرب ايضا ولنفس الوظيفة. لقد اعتبر اكيلوف هذا الديوان الاقرب الى افكاره، فقد جعل منه ساحة للتعبير عن صوته الرافض لتقاليد الحياة السياسية البالية ولاعلان انحيازه وللتمرد. فالقصائد تشكل دراما خيالية تاريخية مبنية احداثها على خلفية النزاعات الاقليمية بين بيزنطة الرومانية، المنحدرة نحو الانحطاط وبين الامصار الاخرى والاقوام الآخرين، والامير شخصية مفتعلة سبغ عليها اكيلوف سمات شرقية وغربية هجينة الانتماء وازدواجية العقيدة تتمازج فيها الانتماء الارمني والكردي والفارسي والعربي واليوناني وحتى الكرواتي. وكل هذه تشكل اصداء للقرون الوسطى التي كانت حية في آسيا الصغرى، حسب المستشرقة سيغريد غاله.

وقد تخيل الشاعر امير اميجيون مشاركا في معركة «مذكرات» الواقعة فعلا العام 1071 ميلادية على حدود الامبراطورية البيزنطية آنذاك، وقد فقد بصره في تلك المعركة. وهذا الحدث استوحاه من فقدان بصر الامبراطور رومانوس ديجونيس حقيقة، بعد ان عوقب مع غيره من القادة بسبب خسارتهم المعركة وهزيمة الامبراطورية.

وهنا اختار اكيلوف ان يعرض لنا، في القرن العشرين، احداث حياة سياسية جرت في القرن الحادي عشر، ليقول لنا ان الامر لم يختلف كثيرا عما كان وان اهتمامها بالحياة السياسية وتقاليدها العتيقة البالية التي ما زالت تتحكم بعادات سحيقة القدم في دولنا ومدننا، يأتي من كرهه لها، كما يقول، انه يكره بيزنطة مثلما يكره اليونان القديمة وينحاز للتمرد. لكن «لا خيار لي، فالدولة ما تزال بيزنطية. والفردية هي الحرب على كل الاوامر» كما يقول ويؤكد بأنه اختار الصوفية التي تعني الحرية بالنسبة له، وان الصوفي هو الاقرب والادنى الى الارض. امير اميجيون خاسر حرب اعمى، هكذا رسمه اكيلوف وقد وصف موضوعه العمى فلسفيا، بمعنى انه اعطاها بعدا غير بعدها التاريخي الذي يماثل عمى «اوديب الملك». فحالما غرز الجلاد اسلاك الحديد المتقدة في عينيه وانطفأ النور فيهما اخذ يبصر نحو الداخل، قال: «لم ار ضوءا اشد من هذا الوهج الاحمر الحامي ـ ولا ظلاما اشد ـ لكني علمت يدي ان تبصرا ـ «من قصيدة الزنزانة، ترجمة سعدي يوسف».

موضوعة العمى طرقها اكيلوف في مرحلة متقدمة من عالمه الشعري، ففي عام 1938 كتب «اشتر اغنية للاعمى». اما ديوانه الآخر من ثلاثيته، فهو «حكاية فاطمة» الذي يتحدث فيه عن فتاة طيبة معشوقة لامير تنجب منه طفلة، لكنها تطرد من حريم البلاط فتعيش حياة بائسة، اذ تبيع نفسها من اجل سد الرمق. في قصائد هذه المجموعة الشعرية يكشف اكيلوف عن قوة الرؤى التي يستمدها الانسان، قوة الارادة الداخلية، وكل ما يجري حوله في الزمن الرديء ولم يستطع افساد روحه. (لا الشمس، ولا القمر، ولا النجوم ـ منحتني النور ـ لكنه الظلام ونور الحب في داخلي ـ مخترقا جسدي).

آخر دواوينه وخاتمة ثلاثيته اطلق عليه «دليل العالم السفلي». وفيه يلحظ القارئ ترجمة حسية حية لـ«ترجمان» بن عربي. فما استهواه في قصائد هذا الديوان هي الانوثة التي كان اكيلوف يحن اليها بعدما حرم من حنان امه. لقد وجد ذلك في صورة الانوثة الشعرية التي سبغ بها بن عربي ديوانه مجسدا حبه الصوفي بـ«هي» (شعرنا هذا بلا قافية ـ انما قصدي منه حرف ها ـ غرضي لفظة ها من اجلها ـ لست اهوى البيع الا ها وها ـ «ترجمان الاشواق، قصيدة من الساهي». اكيلوف لمس نقاء الحب وصفاته في قصائد العشق الصوفي التي نظمها عربي عن فتاة تسمى «النظام» التقاها بمكة وقد وصفها بـ«عذراء، طفلية هيفاء، تقيد النظر،.. تلقب بعين الشمس واليها» ويسترسل بالوصف ليقول «فقد قلدناها من نظمنا في هذا الكتاب احسن القلائد». وبنفس الروح التي يتحدث بها عن عربي في «ترجمان الاشواق» عن فتاته، يتحدث اكيلوف في «دليل العالم السفلي» عن فتاة التقاها تدرس الرهبنة بكنيسة في مدينة سبليت الساحلية بكرواتيا. ومصطلح الدليل يستخدمه اكيلوف كمراداف للترجمان، كرمز للنظر الى رؤاه واحلامه، اما العالم السفلي فقد استمده من ملحمة جلجامش لكن اكيلوف اراد به اكثر من ان يكون استعارة تاريخية فحسب، فقد استخدمه كأداة لغوية للدلالة على الصراع مع سلبيات الحضارة الاوروبية، حيث اللهاث وراء الثراء وجبروت القوة المدمرة والعبث والتحلل الخلقي، كما يسميه هو.

تعرف اكيلوف على عالم الشرق في الثانية عشرة من عمره، عندما قرأ رواية الكاتب والرسام السويدي فيرنر فون هيدنستام «هانس الينيوس» التي جسد فيها معايشته في مصر وسورية وفلسطين واليونان، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر بلغة شاعرية داعبت خلجات الفتى الصغير الذي عاش، منذ نعومة اظفاره، يتيم الاب، بعد مرضه ووفاته بالسفلس ومحروم من حنان الام التي تذكرته لتنصرف لمآربها ومجونها. كانت رواية هيدنستام بالنسبة لاكيلوف بوابته لعالم الشرق، ثم يأتي الهندي رابيندراند طاغور ليعزز هذا الانبهار الحسي بفلسفة الشرق وليتسامى حسه بدراسة الفن والموسيقى الهندية. وفي هذا السياق يلحظ احد اكثر المتابعين والمحللين لشعر غونار اكيلوف، الشاعر والناقد السويدي آنرس اولسون، ان اكيلوف قد صمم على اتخاذ طريقه نحو الشرق مبكرا، وهو ما يزل على مقاعد الدراسة الثانية، حينما خط على غلاف احد كتبه المدرسية عبارة «ان عالمي هو الشرق». ثم ذهب، في العام 1926 الى لندن ليدرس اللغتين الفارسية والهندية، في معهد الدراسات الشرقية. لكنه لم يمكث هناك كثيرا ليعود الى السويد، الى ابسالا ليدرس الفارسية والعربية. ثم يغادر الى باريس ليتعمق في دراسته لعالم الشرق. وخلال فترة مكوثه القصيرة في لندن يتعرف اكيلوف على «ترجمان» بن عربي باللغة الانجليزية.