صورة شكسبير

أحمد إيسوب *

TT

عندما ذهبت للمرة الاولى الى العمل لدى تورس للديكور (خلال عطلة الجامعة الصيفية)، اخذني السيد وينترتون، المدير، في جولة حول الشركة وقدمني للموظفين، كان ذلك عندما قابلت دون كارليل، رئيسي المباشر في العمل. كان مرتديا لباسا لافتا، قميصا بنيا، ربطة عنق برونزية وعددا من الاقلام بدت مثل سلسلة من الطواطم تنزل من جيب جاكيته العلوي. كانت طبيعته هادئة ومزاجه رائقا وشعره البني النظيف اللامع مصففا بعناية فوق جبهته العالية. شاربه ولحيته الصغيرة مشذبان بحرص. كنت مأخوذا بشبهه الكبير لصور شكسبير التي تزين اغلفة العديد من مسرحياته. كانت نبرته لطيفة عندما قال «كيف حالك؟ انا مسرور لانضمامك الينا لفترة»، فقد كانت لصوته نبرة مصقولة ورخيمة مثل نبرة ممثل محترف.

بعد ذلك تطورت علاقتي به بسرعة وعرفته اكثر، كمشرف مسؤول، كان رائعا، كان يطلب مستوى عالياً من الجودة في العمل من موظفيه الذين يصممون ديكورات لمنازل الاثرياء ومكاتب رجال الاعمال اصحاب الملايين في المدينة. كان جامعيا حاصلا على درجة البكالوريوس في الآداب، كان حينها طالبا بارعا في الأدب الحديث. كنت اصغي بشغف لما يقول عن بعض الكتاب الذين اعجب بأعمالهم. أحد افضل الكتاب عندي هو أف. أس. نيباول، قال لي مرة اثناء فرصة الغداء في المطعم «هل قرأت شيئا من اعماله؟».

ـ «معظمها»

«اعماله الاولى، نعم، لكني اعتقد ان عمله الاخير في افريقيا يعاني من كونه لا يستند الى قاعدة» «لا، ابداً، اعتقد انه محلل ومراقب ممتاز لافريقيا ما بعد الكولونيالية، سقوطها في الفوضى، الانهيار، التدهور، الاستبداد». تركته يستمر في الحديث ثم سألته لماذا لم يتخذ مهنة اكاديمية. «واعيش من صندوق الاعانات؟» سأل، ثم مسح فمه بأناقة بمحرمة المائدة، هذا صحيح، فالاكاديميون لا يملكون قوة اتحاد التجارة، الذي صار اتحادا فاعلا وذا سلطة متنفذة، مع مرور الايام، تنوعت محادثاتنا لتغطي مجالات مختلفة. دون كارليل، بدا لي مثالا للحضارة والثقافة الغربية في الادب، التاريخ، الموسيقى، السينما، المسرح، كان يظهر براعة ومستوى ثقافيا رفيعا مع ان معلوماته في الثقافة الافريقية والشرقية كانت سطحية، لكن دراسة مثل هذه الامور غير متاحة في معاهد التعليم الاوروبية في البلد.

في السياسة كان مثقفا جدا وليبراليا في طرح آرائه «المساواة في التعليم، وتكافؤ الفرص، يجب ان يكونا هدفا لمجتمع عقلاني، لكن لا اعتقد اننا يجب ان نتحول اليهما الآن».

ـ «متى يجب ان نتحول اليهما؟».

ـ «عندما يتعلم كل فرد، فيستطيع تجربة مسؤولية التصويت».

ـ «سيأخذ هذا وقتا طويلا. انا واثق من ان الطبقة الارستقراطية الحاكمة تريد الاستمتاع بثروات البلد دون ان يشاركها أحد في ذلك».

ـ «هذا مؤسف»

كان هناك مشرفون آخرون في الشركة، لكن اتضح لي بسرعة ان دون كارليل كان يطمح الى منصب مدير مفوض في الشركة في يوم ما. هو يستحق هذا المنصب لكونه المشيد الاساسي لسمعة الشركة في المدينة. ليس فقط لاستثمار معلوماته في كل مجالات التصميم والديكور الداخلي بشكل ناجح جدا، انما ايضا لأنه لم يغادر قط مكتبه في وقت انتهاء الدوام، فكان يبقى لانهاء بعض النثريات، وكان يصل في الصباح الى مكتبه قبل الاخرين بنصف ساعة. واذا ما عقد اجتماع للمشرفين مع موظفي الشركة، يكون هو قد اعد بعناية جدول الاعمال والامور المقرر مناقشتها، بكفاءة وذوق وانسجام بدرجة عالية.

بعد شهر، سافر المدير الى نيويورك في رحلة عمل، وترك دون كارليل يدير الشركة، انتهت نقاشاتنا، بالطبع هو يتحدث معي بخصوص العمل، واستشيره في بعض الامور عند الحاجة، حدث في احدى المرات، ان ذهبت صدفة الى مكتبه، فرأيت شيئا قلب كل فكرتي عن هذا الرجل.

لم يكن في مكتبه، لكني لاحظت رسالة كانت لا تزال على الآلة الطابعة، ولاعتقادي انه سيعود في اي لحظة لاكمالها، دخلت الى المكتب، نظرت الى اللوحة المعلقة على الجدار، صورة سفينة هنري الثامن، ماري روز المشؤومة، للحظة وقعت عيناي مرة اخرى على تلك الرسالة، التي كانت موجهة الى السيد ونترتون في نيويورك، لا اعرف ما الذي جعلني اقرأ بعضا من محتوى الرسالة، ربما كانت لمحة سريعة بالخطأ، ربما اكتسبت بعضا من صفات موظفي المكاتب بالاطلاع على كل الرسائل، وربما لأن عيني جذبتا لهذا البوح: «انا اشك في ان الخادمة جين تسرق السكر من المخزن، فالكثير منه نفد، بسرعة اكثر من السابق، ربما كانت تسرق السكر (ومن يدري ماذا ايضا) على مدى السنين».

رجعت الى مكتبي، مملوءا بالاحساس بالخيبة، مرتبكا ومشوشا بعمق. اسئلة عديدة قفزت الى ذهني. كيف يمكن لرجل مثقف ان يرتكب عملا خسيسا كهذا؟ هل يريد ان يعطي المدير انطباعا عن حرصه ورعايته للشركة؟ هل طموحه في ان يكون مديرا مفوضا حثه على استخدام جين كلعبة لتحقيق مآربه؟ تذكرت روزينكرانتز وهو يقول لهاملت: «هل تريد ان تستخدمني كلعبة» وهاملت يجيبه: «نعم، فهذا ما يشبع عظمة الملك». فهل كتب دون كارليل ذلك عن الخادمة البيضاء؟ مقولة مارسيلوس لهوراتيو من على شرفة قلعة السينور ايضا قفزت الى ذهني: «شيء ما يفسد في الدنمارك».

بعد ظهر نفس اليوم، اتتني جين بالشاي وسألتني فيما اذا كانت لدي اي رسائل لتأخذها معها (فنقل الرسائل الى مكتب البريد كان احدى مهامها اليومية ايضا)، قلت لا، ثم وبسرعة قلت: «جين، انا سأخرج لمقابلة صديق لفترة قصيرة، فإذا كان لديك اية رسائل سآخذها في طريقي».

ذهبت ثم عادت ببعض الرسائل، رأيت تلك الرسالة من بينها. للحظة عبرت ذهني صورة باهتة لدون كارليل، على خشبة المسرح، يربت على كتف جين وهو يسلمها تلك الرسالة اللعينة، فكرت بهاملت وكيف ارسل روزينكرانتز وغلدينستيرن الى حتفهما:

«عاليا من فوق مقصورتي ملتفعا بعباءتي، في الظلام تلمست طريقي لأجدها، لأجد بغيتي وأضع يدي على تلك الرزمة».

راودتني الرغبة بفتح الرسالة واضافة شيء ما في آخرها بحيث يصرف نظر السيد ونترتون عن دون كارليل نهائيا، لكن، طالما انا لست متورطا بالموضوع شخصيا، قررت ان لا افعل. ارسلت كل الرسائل عدا رسالة دون كارليل. عندما مررت بجانب صندوق الزبالة المربوط بعمود الانارة في الشارع: توقفت، مزقت الرسالة وقذفتها اليه.

* ولد أحمد ايسوب في الهند عام 1931، بعد حصوله على ليسانس الآداب، قام بالتدريس في مدارس خاصة في جوهانسبرغ لغاية عام 1974، انتقل للعمل في المدارس الحكومية في ليناسيا حيث يعيش الآن وقد تفرغ للكتابة. كتابه الاول «الحاج وقصص اخرى» ظهر عام 1978 ثم اعقبه بروايتين. ومنها بدأ يطل نجمه كواحد من ابرز كتّاب جنوب افريقيا. صدرت له بعد ذلك مجموعة قصصية بعنوان «نورجيهان وقصص اخرى» عام 1990، وكانت هذه القصص تنشر تباعا في المجلات المتخصصة مثل ستافرايدر، كونتراست، وذي انكليش اكاديمي ريفيو.

في كتاباته، لم ينفصل أحمد ايسوب عن بيئته الاولى الهند، ولم يبتعد ايضا عن احداث بلده الثاني (جنوب افريقيا) الاليمة تحت اضطهاد الحكم العنصري، فيبدو حريصا على توظيف ثقافتي افريقيا والشرق معا خصوصا في النص التالي الذي نشر للمرة الاولى عام 1983 في «ذي انكليش اكاديمي ريفيو».

* ترجمتها عن الانجليزية فدوى فاضل