مبدعون يناضلون ضد النسيان

الفائز بجائزة نوبل 2001: لم يعد الوقت يسمح بالبحث عن وطن صالح لي

TT

أخيراً قرر الكاتب الفريدو بريس ـ ايشنيك، الذي يعتبر مع ماريو فارغاس يوسا، أكبر كتّاب البيرو، العودة إلى بلاده عقب سنوات طويلة من المنفى الطوعي أمضاها في فرنسا، حيث عمل استاذاً في العديد من جامعاتها. والآن هو يتهيأ لاصدار مجموعة قصصية جديدة تحمل عنوان: «الدليل الحزين لباريس». لماذا حزين؟ عن هذا السؤال يجيب الفريدو بريس ـ ايشنيك، قائلا: «لقد أردت أن أقول إن باريس التي عشت فيها، باريس هي «لاكونترايسكارب»، حيث كنت أسكن، باريس ثورة 68 الطلابية، وباريس السبعينات، لم تعد موجودة. باريس التي كنت أجدها والتي باتت الآن باردة. والقصص التي أرويها في المجموعة المذكورة تبرز بشكل خاص ما ليس علينا أن نفعله في هذه المدينة، كأن نعتقد مثلا أننا أكثر تحذلقاً ومكراً وسرعة منها».

وينتسب الفريدو بريس ـ ايشنيك المولود في العاصمة ليما عام 1939 إلى عائلة بورجوازية، وقد أمضى طفولته مدلّلاً لا ينقصه شيء، وفي أرقى المدارس الإنجليزية والأمريكية تعلم. وفي روايته: «عالم من أجل يوليوس» هو يصور هذا العالم الوردي، حيث التّرف والسهرات الجميلة، وحيث البورجوازيون لا يهتمون بما يقع خارج محيطهم. وبعد أن تخرج من كلية الحقوق، ترك بلاده عن طواعية وجاء إلى باريس وهو مليء بالأحلام والمشاريع. وفي منفاه الطوعي هذا، أنجز العديد من الأعمال الروائية التي أتاحت له الحصول على شهرة عالمية واسعة. وعن الفرق بينه وبين مواطنه ماريو فارغاس يوسا يقول: «أنا معجب بستاندال أما هو ـ أي فارغاس يوسا فمتأثر بفلوبير. لذا هو يحب أن يقرأ العديد من الوثائق قبل أن يشرع في كتابة رواية. أما أنا فالمشاعر والأحاسيس هي وحدها التي تحرضني على الكتابة.. وكانت أمي تحب أن أكون شبيهاً ببروست، وكانت تقول لي دائما: «إذا أردت أن تكون كاتباً حقيقياً فلا بد أن تكون شبيها ببروست». ولا بد أن أقول إن أمي كانت تعشق هذا الكاتب عشقاً جنونياً حتى أنها كانت تحفظ مقاطع كثيرة من «البحث عن الزمن الضائع» عن ظهر قلب. وعقب وفاة والدي أخذتني إلى «ايليه» وبالتحديد إلى بيت ليوني خالة بروست، كان الوقت شتاء، وكان البرد شديداً، ورغم ذلك فإن أمي ظلّت جالسة ساعات طويلة، تقرأ بروست، وتحت تأثير أمي قرأت الكتاب المحدثين وأعجبت بنتالي ساروت..».

وعن الوضع في بلاده يقول الفريدو بريس ـ ايشنيك: «بعد إرهاب «الدرب المضيء» وديكتاتورية فيجيهوري، ازدادت الأوضاع سوءاً، وكثر الفقر، وارتفعت نسبة العاطلين عن العمل بشكل مخيف. وكانت النتيجة أن الطبقة المتوسطة اختفت ولم يعد هناك غير أثرياء فوق، وبؤساء تحت، بالاضافة إلى ذلك، فقدَ المجتمع قيمه النبيلة، وأصبحت جميع الفئات الاجتماعية عديمة الذوق، ميالة إلى الابتذال، والسخف..». ومعاتباً صديقه ماريو فارغاس يوسا الذي رشح نفسه لرئاسة الجمهورية عام 1990، يقول: «ما كان عليه أن يفعل ذلك، واعتقد أن جانب الالتزام فيه والذي ورثه عن جان بول سارتر هو الذي دفعه إلى خوض تلك المغامرة الفاشلة منذ بداياتها، إنه عنيد لكنه نزيه. ونحن لسنا على وفاق دائم، خصوصاً في ما يتعلق بالشؤون والقضايا السياسية، لكننا حين نلتقي، نتحدث بكل صراحة حول خلافاتنا. وعندما اقترح فيجوموري، توسيمي، رفضت ذلك رفضاً قاطعاً، ووصفته علنا! بـ «المجرم» وبـ «القاتل». ان نضالي ثقافي وليس سياسياً، ذلك أنني لا استطيع أن أفعل أكثر من ذلك».

ومثل أغلب سكان بلاده، هو ليس مقتنعاً كثيراً بالرئيس الحالي اليخاندرو توليدو، لكنه يقول: «لم يحن الوقت بعد لانتقاده، ذلك أن أمامه جبالاً من المشاكل الخطيرة التي يجب عليه حلّها. واعتقد أنه من الأفضل أن نتركه يعمل، وبعد ذلك بإمكاننا أن نحاسبه على نتائج عمله، ان البلاد مليئة بالأشرار والفاسدين، وهؤلاء هم الذين يعرقلون الإصلاحات الجارية».

* ف. س. نايبول والبحث عن الجذور

* في حوار أجرته معه جريدة «لوفيغارو» الفرنسية في عددها الصادر يوم الخميس 12 سبتمبر (أيلول) 2002، وذلك بمناسبة صدور الترجمة الفرنسية لروايته الأخيرة: «نصف حياة» (Half Alife)، قال الكاتب ف. س. نايبول، الحائز جائزة نوبل للآداب للعام 2001، إنه فضّل عدم ذكر البلد الافريقي الذي يشبه الموزمبيق والذي فيه تدور أحداث روايته، ذلك أنه لم يرغب في أن يذكر مكاناً واقعياً بسبب السياسة والتاريخ وأشياء أخرى. واضاف قائلا: «أنا راض عن حياتي الخاصة وعن حياتي الأدبية، ذلك أنهما مرتبطان ارتباطاً وثيقاً، لقد أردت أن أكتب ما كتبته الآن، واعتقد أنه كان بالإمكان أن يكون هناك رماد كثير في كتبي لو أنني لم أكن راضياً عن حياتي الشخصية، بل لربما كنت انقطعت عن الكتابة أصلا».

وعن علاقته بإنجلترا وبجذوره الهندية، قال ف. س. نايبول: «لقد كتبت القليل عن انجلترا، غير أن الموضوع الذي شغلني خلال الخمسينات هو الجذور التي أنتمي إليها والظلال التي تحيط بمنشأي وطفولتي وسنوات مراهقتي في الترينيداد، مسقط رأسي. وهكذا أمضيت سنوات طويلة وأنا منشغل بهذا الموضوع انشغالاً يكاد يكون كلياً، ناسياً البلد الذي أعيش فيه، أي انجلترا. واليوم أنا أرغب في أن أكتب عن الخراب الثقافي الذي يحدث فيها ذلك أنه لم تعد هناك ثقافة عالية وسامية. كل الأفكار الجميلة قتلت ومستوى الصحف يعرف هبوطاً متواصلاً والجدل المفيد بات شبه مفقود والتعليم في تدنّ مستمر. واعتقد أنه ليس بإمكاننا أن نبدأ من الصفر وأن نخلق جريدة مثل «نيويورك تايمز» من جديد، واعتقد أن الحزب العمالي هو المسؤول عن كل هذا».

وانتقد ف. س. نايبول، الكتّاب المحدثين، وقال: «إنهم ـ أي الكتّاب المحدثون ـ يقلّدون اليوم الأشكال القديمة، غير أنهم يفعلون ذلك بنية تتميز بالخفّة والتفاهة ذلك أنهم يرغبون في شيء واحد هو حب الظهور، لكنهم يريدون أن يعلموا الناس بأشياء يعلمونها قبلهم». واضاف ف. س. نايبول في نفس السياق قائلا: «إن كتّاب القرن التاسع عشر الكبار يكتبون لإعلام القراء بما لا يعلمونه، وعندما كتب بالزاك عن باريس، وعن بعض جوانب الحياة في فرنسا، فإنه كان يكشف عن أشياء جديدة مخفية عن الأنظار، ولكن أن يكتب الكاتب لكي يقول الناس بأن هناك مجموعة من «الهوليغان» تسببت في احداث شغب خلال مباراة لكرة القدم، أو أن هناك مهاجرين يعيشون تحت خط الفقر في انجلترا، أو في غيرها من البلدان الأوروبية، فإنه لا يفعل شيئاً آخر غير الثرثرة الفارغة، ذلك أنه لا جديد في ما يقوله. في روسيا القرن التاسع عشر، كان الناس يقرأون غوغول ودستويفسكي وتولستوي لكي يعلموا ما لا يعلمونه عن واقع تلك البلاد، فلماذا إذن نقرأ اليوم من يقلدونهم؟، أليس من الأفضل أن يقرأ الناس ما يقوله المعلمون الكبار، وليس مقلدوهم؟، الكتّاب القادمون من البلدان البعيدة، من افريقيا وآسيا والهند، يقدمون تجاربهم الإنسانية من خلال الروايات، غير أنهم يفعلون ذلك من خلال أشكال موجودة وجاهزة، وهذه الأشكال لا تتلاءم البتة مع تجاربهم وإنما هي تشوهها، وتضمدها، وفي النهاية، يعترينا إحساس بأن كل الثقافات متساوية، وأن كل المشاعر متشابهة، لكن هذا شيء خاطئ، على كل كاتب أن يبتكر شكلاً خاصاً به».

ومتطرقاً من جديد إلى جذوره، قال ف. س. نايبول: «أمضيت طفولتي في الوسط الاستعماري في ترينيداد، ونحن لا نعرف الكثير عن تاريخ هذا الوسط، ذلك أن المؤرخين هم أنفسهم لا يعرفون عنه إلاّ القليل، وأما الوسط الثاني الذي تأثرت به فهو الهند وتاريخه المؤلم والمليء بالأحداث المرعبة. وفي الترينيداد كنا نعيش جدّ قريبين من إيقاع الفصول ومن أنفسنا. وعندما جئت إلى إنجلترا عام 1950، لم أكن أعرف أن هناك أشياء كثيرة عليّ أن أتعلمها، وشيئاً فشيئاً، ابتكرت لنفسي عالما، وكوّنت رؤية عن هذا العالم الخاص الذي أصبحت أعيش فيه. وهذا ما جعلني أصبح هادئاً فلسفياً، ولم أكن كذلك من قبل، إذ أنني كنت جاهلاً، وأقل اكتمالاً، واعتقد أن أجمل شيء هي تلك المعرفة التي توضح للإنسان الأشياء وتمنحه الهدوء والصبر».

وعن بداياته ككاتب في إنجلترا، قال ف. س. نايبول: «في البداية لم يكن لدي ما أقوله، أو أكتب عنه، وفي عام 1959، عندما غادرت اكسفورد، لم أكن أدري عن أي شيء عليّ أن أكتب، كانت لي أخيراً، عقب سنوات كنت خلالها أسمّي نفسي كاتباً، القدرة على أن أثبت ذلك، غير أني لم أكن أعرف عن أيّ موضوع أكتب. كنت أجلس إلى مكتبي، لكني لا استطيع أن أكتب سطراً واحداً، كنت أخدع نفسي، ومع مرور الوقت أصبحت يائساً، بل انني فكرت أحياناً في الانتحار. وفي تلك السنوات، لم يكن باستطاعتي أن أعود إلى الترينيداد لقضاء العطلة، لذا عشت في اكسفورد فترات وحدة قاتلة، ولم يكن لي لا اصدقاء ولا مال».

وفي نهاية الحوار قال نايبول: «الهند هي أرض أجدادي، وأنا أعرف تاريخها وثقافتها، ولي صلة وثيقة بها، لكن في الواقع أنا لا انتسب إلى أي بلد، ولم يعد الوقت يسمح بالبحث عن وطن صالح لي».

* الماضي الشيوعي الأسود

* في العاصمة البولونية فرصوفيا، صارت أخيراً انطولوجيا تضمّ نصوصاً كتبها كتّاب من مختلف ما كان يسمى بلدان الكتلة الشيوعية، وفيها يتحدثون عن الماضي «الأسود» للحقبة الاشتراكية. وقد علقت احدى الجرائد البولونية الكبيرة على هذه الانطولوجيا قائلة: «نحن سكان البلدان التي تعيش فترة تحول منذ مطلع التسعينات لا نتقاسم نفس الذاكرة، نحن عشنا جميعا في أوروبا الوسطى، والشرقية والجنوبية، لكن في كل بلد كان للشيوعية وجه خاص ومختلف. مع ذلك، وكما يقول ميلان كونديرا، فإن في كل بلد من البلدان الشيوعية، كان النضال ضد نظام الحكم، هو نضال ضد النسيان. ان الذاكرة ممزوجة بالواقع الحالي وبتصوراتنا عن المستقبل تشكل شيئاً عسيراً، حيث تختفي حقيقة الماضي، غير أن هذه الذاكرة تريد أن ترمي إلى العدم كل ما هو مزعج بالنسبة للفرد أو للمجتمع أو للأمة». وتواصل الصحيفة كلامها قائلة: «الشيوعية يمكن أن تبدو لنا وكأنها شيء جميل فقدناه، ولهذا الشعور أسباب عدة، فالشيوعية كانت توفر لنا الأمان وكانت النشاطات غير الشرعية تزودنا بطاقة هائلة على التمرد والتحدي، وكان الانتساب إلى المعارضة يخول لنا أن نصبح مشهورين ونبلاء، ولكن في النهاية لا بد ان نعترف بأنها تسببت لنا في الكثير من الفواجع.