الالتزام الأدبي في الوطن العربي من وجهة نظر ألمانية

TT

كتاب فيرينا كليم الصادر مؤخراً عن دار ارجون بالألمانية، هو مقاربة لقضية العلاقة بين الأدب والمجتمع والسياسة بالشرق العربي، خلال القرن العشرين، فالعلاقة التي أطلقت عليها الأوساط التقدمية العربية مصطلح «الالتزام»، هذا المصطلح، كما ترى الكاتبة، سيظل اشكالياً وغير محدد المعنى، وسيرافق مرحلة بناء الدولة القومية.

ويتتبع الكتاب مسار تطور هذا المصطلح من جهة واستقبال الأفكار الاشتراكية والوجودية بالعالم العربي من جهة أخرى. وترى الكاتبة ان الحديث عن الدور السياسي والاجتماعي للأدب، قد تطور بشكل خاص الى موضوع مركزي للنقاشات الأدبية مع دخول الأفكار الاشتراكية الى الثقافة العربية على يد سلامة موسى، كما ستساهم عقداً بعد ذلك، مجلة الآداب البيروتية في نشر فكرة الالتزام كما تبلورت في فلسفة سارتر الوجودية.

وتبدأ الكاتبة بنقطة التحول الكبرى التي عرفها التاريخ العربي وهي نكبة فلسطين، وتأثير هذه النكبة على الوعي العربي، ومن ثم على مفهوم الابداع، الذي تحول عن تقاليده وأساليبه التي ترسخ الاستقالة التاريخية والاضراب عن التفكير، الى آفاق جددة، تلخصت في مفهومين أساسيين: التجريب والبحث، وترى الكاتبة ان مشروع التحرر من نفق التقليد، قد بدأ بحق، مع سلامة موسى، وقراءته المادية للأدب، ودفاعه عن ارتباط الأدب بالحياة وعن ضرورة تجديد اللغة العربية. ثم تطورت هذه الأفكار عند تلميذه لويس عوض وكتاب آخرين مثل عمر فاخوري ورئيف خوري الذي وجد في التراث سلاحاً فعالاً، «ضد الرجعية والصهيونية والامبريالية». وقد اتفق هؤلاء المفكرون الأربعة على فكرة ان الفن ليس نشاطاً منعزلاً، بل نشاط اجتماعي. ان المادية التاريخية قد علمتهم التأثير والتأثر المتبادل بين السياسة والاقتصاد والوعي، في هذه النظرة الدينامية الى العالم، ليس الفنان كائناً منعزلاً ولكنه مرتبط صميمياً بمجتمعه «فكما يتعلم المجتمع منه، يتعلم هو من المجتمع».

وقد ازداد انتشار مفهوم الالتزام بالساحة الأدبية العربية، مع صدور مجلة الآداب البيروتية سنة 1953، التي أصدرها سهيل ادريس تحت شعار «الأدب الملتزم» كما طوره الفيلسوف الفرنسي سارتر، ضد أدب البرج العاجي، الذي ينأى بنفسه عن هموم المرحلة. وقد طور سارتر رؤيته تلك للأدب، بكتابه «ما الأدب؟» الذي صدر اولاً على شكل مقالاته بمجلة «الأزمنة المعاصرة» وقد عالج سارتر مسألة العلاقة بين الكاتب والجمهور وأكد على الحرية كأساس وهدف للأدب الملتزم.

ومع ذلك فان مفهوم «الالتزام الأدبي» كما طوره سارتر ودافعت عنه مجلة الآداب، لم يسلم من النقد داخل الساحة الأدبية العربية، إذ اعتبر مفهوماً متعدد المعاني وبالتالي غير قادر على حماية نفسه من الاستغلال الآيديولوجي والسياسي، وثانياً ان فرض نظرية على الأدب، هي دائماً عى حساب المضمون الفني والجمالي لهذا الأدب، وثالثاً ان مفهوم الالتزام هذا، مفهوم مستورد، تطور بثقافة غربية، ولم تمتد جذوره بالثقافة العربية. هذا ما عبر عنه كل من عبد الله العروي وهشام شرابي في نقدهما لهذا المفهوم، واعتباره مفهوماً غير أصيل، ومجرد نسخة عن المفهوم الغربي للأدب.

وتخص الكاتبة الشاعر العراقي الكبير عبد الوهاب البياتي بفصل كامل، معتبرة إياه وجهاً مركزياً، من وجوه الالتزام الأدبي، ليس فقط في الأدب العربي، ولكن في الأدب عموماً. البياتي الذي عاش حياته ممزقاً بين الوطن والسجن والمنفى، سوف يظل دائماً وفياً لمثله الماركسي، ووفياً لذكرى اصدقائه الذين اقتسم معهم المنفى: ناظم حكمت وبابلو نيرودا. ويعتبر ديوانه الثاني «اباريق مهشمة» اول خطوة له في طريق الالتزام الأدبي، وهو يصف به حياة الفلاح والعامل العراقي، ويثور فيه على مدينته بغداد، ويحتفي فيه بالثورة الاشتراكية العالمية. ولكنه بعد هزيمة حزيران، سوف يصبح اكثر تشاؤماً وينفتح شعره على السوريالية والرمزية، معتمداً في ذلك على الاساطير، اليونانية منها والشرقية سنة 1974 يصدر الشاعر ديوانه: «السيرة الذاتية لسارق النار»، الذي تأثر فيه بفلسفة ألبير كامي الوجودية، ورؤيته للفنان الذي يريد تحرير البشرية من اللا معنى والجهل القاتل وأوهام المرحلة التاريخية. إذ رغم تشاؤم الشاعر الذي أعقب قمع العديد من الثورت العالمية، ظل وفياً لفكرة الالتزام، انه يرى في لوركا وماياكوفسكي وناظم حكمت ونيرودا أمثلة شعرية، استطاعت ان تصالح الفن مع الحياة، كما تأثر ايضاً بمفهوم كامي عن الالتزام، والذي طوره الكاتب الفرنسي بـ«اسطورة سيزيف» و«الانسان الثائر» والذي يتمثل في مفهومي «الثورة المستمرة» و«التمرد الميتافيزيقي».

ثم تتحدث الكاتبة عن تطور مفهوم الالتزم بالأدب الفلسطيني، وترى بأنه قد تأسس فعلاً مع رواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني. وانه اتخذ صبغة واقعية اشتراكية، غسان كنفاني الذي سيعرض في كتاباته النظرية عن أدب المقاومة بفلسطين المحتلة، لمفهوم الالتزام عند الشاعر محمود درويش ويرى بأنه استطاع ان يرقى بقصيدة الحب الى آفاق رمزية جديدة، حيث يتحول الافتراق عن الحبيبة والحنين اليها، معادلاً موضوعياًلحنين الى الوطن والأرض، لكن محمود درويش نفسه سيثور على الفهم السطحي للالتزام، الذي حول الكاتب العربي الى مجرد حاجب ببلاط السلطة، إذ يرى الان بأن الالتزام فني وليس اجتماعيا، وان النص الشعري الذي يكتبه، وان كان ينبع من الواقع فانه يتأسس جمالياً وليس رهين شروطه الخارجية، اما ادونيس، فانه يرى ان الالتزام الأدبي يتحقق داخل اللغة، بتثويرها واعادة كتابتها.