أرملتان ومدينتان وحفنة أباطرة وعباقرة وصعاليك

ليالي الأنس والغم في المدن كلها لكن فيينا تمتاز باحتضانها لموتسارت وشتراوس وعشرات الكتّاب والفنانين

TT

دانوب.. عامد النظر.. لكنه ـ وبالإذن من شتراوس وشولوخوف ـ ليس أزرق فهو يتراوح بين الأصفر والأخضر بحسب كثافة الغيم، وحركة الظلال، ورغبات الروح التي تعلو، وتهبط، وتضطر ان تسافر مع الجسد إلى الضواحي، فليالي الأنس ليست في فيينا إنما في ضواحيها، حيث الألف حانة والموسيقى التي تصدح من كل الحدائق.

ولم تكذب اسمهان ولا خدعتنا، وما ينبغي لها، فقط كانت تتجمّل وتقر بالوقائع، فحين نكون مع من نحب تصبح كل ليلة قمة ليالي الأنس وكانت ـ حينذاك ـ مع أحمد سالم الحبيب الذي سرقته من تحية كاريوكا وتزوجته، فلما اتهمته في «ليالي الغم» بالقاهرة أنه حاول قتلها واستدعوا الست تحية للشهادة وسألوها إن كانت تحقد على اسمهان لخطف أحمد سالم منها، قالت: بالعكس، لقد قدمت لي بتخليصي منه أكبر خدمة في حياتي!

وإن كانت اسمهان لم تكذب وطلبنا منك ألا تصدقها، فلا تستغرب وتتهمنا بالتناقض، ففيينا ليست روضة من الجنة ولا «حتة» من الجحيم انها ككل مدن الله الحلوة ومخلوقاته الأنثوية الفاتنة تغري وتغوي وتقلق، وأحياناً تصيبك بالضجر والتثاؤب، خصوصاً «عندما يأتي المساء» وتقفل المتاحف، والقصور التاريخية أبوابها، وتظل أمامك مجموعة شوارع ومقاه مضجرة حول كاتدرائية «ستيفانزدوم»، فإما الى «هافيلكا» حيث كان يعسكر «فرانز كافكا» أو إلى «لاندمان» التي «طوّبوها» باسم «فرويد» لكثرة ارتياده لها في أواخر القرن الثامن عشر أثناء عكوفه على إتمام كتاب «تفسير الأحلام»، قبل أن يغني عبد الحليم بقرن «بحلم بيك أنا بحلم بيك».

ولا تستعذ بالله فوراً مع ذكر هذين الاسمين فرويد وكافكا، فأبسط مدينة في الجغرافيا أنتجت أعقد شخصيتين في التاريخ، وهذان لا علاقة لهما بليالي الأنس، فتلك الليالي كانت تعقد في القصر الامبراطوري الصيفي «شونبرن» الذي شهد أحزان الامبراطورة «ماريا تيريزا» وأفراح الامبراطور نابليون بونابرت الذي كان يكمل كل غزوة عسكرية بواحدة جنسية، وفي فيينا خالف مبادئ الثورة الفرنسية وتزوج من أميرة من آل «هابسبورغ» الذين حكموا النمسا سبعة قرون، وأنتجت تلك المصالحة الامبراطورية مع أعرق ارستقراطيات أوروبا نابليون الصغير الذي مات بالسل في عشرينه وبقيت في القصر صورته بخدوده الموردة، وبجانبها السرير الذهبي الذي أهدته بلدية باريس للامبراطورة ماريا لويزا ابنة ماريا تيريزا الزوجة المنكودة والمنكوبة بصفقة زواجها من نابليون لينام عليه الطفل الذي يسميه التاريخ الفرنسي «الصقر الصغير».

ولعل ماريا تيريزا أشهر أرملة في أوروبا قبل الملكة فيكتوريا، فقد ترمّلت بعد أن خلفت من رجل واحد ستة عشر أميراً وأميرة زوجتهم جميعاً من ملوك وملكات القارة، فكان لها في كل بلاط نفوذ، وأشهر بناتها الأميرة المنكودة الثانية «ماري انطوانيت» التي طار رأسها بالمقصلة الفرنسية بعد حكاية «البسكويت»، وبذا تكون الامبراطورة النمساوية قد صاهرت الملكية، وصاهرت الثورة وخرجت صفر اليدين من الصفقتين.

* حكاية حب نمساوية

* وفي قصر «شونبرن» في ضواحي فيينا، وبعد أن تعبر بمخدع الامبراطورة الأم الذي صار بعدها مخدعاً لنابليون ما بين (1805 ـ 1809)، تصل بعد الغرفة التي زخرفها الأولاد هدية للأم إلى «غرفة المليون» التي أخذت اسمها من تكلفتها، فقد تكلفت مليون جيلدر ذهبي في سنوات القحط والجوع، ويا ليتها تبهج العين، فخشبها المنشور من شجر الورد البرازيلي يزيدها قتامة، ولولا الرسوم الأصلية، وأوراق المخطوطات الهندية التي تعود إلى القرن الثاني عشر، لما كان فيها ما يغري بالنظر غير صورة الأرملة الحزينة «ماريا تيريزا» التي لبست الأسود خمسة عشر عاما قبل أن تلتحق بزوجها وحبها الأوحد إلى الرفيق الأعلى.

لقد كان الامبراطور «فرانسيس ستيف اوف لورين» أميراً مخلوعاً، حين أحبته ماريا تيريزا ومراهقاً غريباً لجأ إلى النمسا بعد أن احتلت فرنسا إقليم اللورين الذي تتنازع مع ألمانيا على حكمه وحكم الالزاس منذ عشرات القرون. وبعد نظرة وابتسامة وموعد وقبلة، وما هو أكثر وأعمق، صار الأمير الغريب ملكاً على قلب الامبراطورة وبلادها وظلت كنساء عصرها مكتفية بالحكم من خلف الستائر المزركشة، وتلك مسائل لا تخفى على العيون المدربة كعيون الفنانين ـ مثلا ـ ففي صدر إحدى قاعات القصر صورة للعائلة الهابسبورغية أيام «ماريا تيريزا» وزوجها والامبراطورة في الصورة تشير بإصبعها إلى صدرها وكأنها تقول: أنا التي أحكم بينما اصبع الامبراطور تومئ نحوها مؤكدة أنها هي التي تحكم فعلاً وقولاً، وبالنظرية والتطبيق، ففي حالات الحب الحقيقي نادراً ما يفكر العاشقان بالتفاصيل والفتافيت.

وان تحزن امرأة على زوج راحل وتلبس السواد بعده كل تلك السنين مسألة لم تعرفها البلاد قبلها، لكنها تكررت في حالة الملكة البريطانية فيكتوريا التي لبست السواد إلى آخر عمرها حزناً على البرت، وكادت أن تكون نموذجاً للأرملة كما يريدها المجتمع. ولولا التنقيبات الحديثة في سيرتها ولولا فيلم «مسز براون» الذي أوحى بوجود عشيق اسكتلندي لملكة بريطانيا العظمى، لما عرفنا عن ذلك التاريخ السري شيئاً، وقد حملت فيكتوريا لقب امبراطورة اضطراراً بعد أن صارت امبراطوريتها لا تغرب عنها الشمس. ويقال في التاريخ البريطاني ان كل ودّها لرئيس وزرائها دزرائيلي تشكل بعد ان نجح في إقناع البرلمان بمنحها ذلك اللقب الامبراطوري الذي لم يستخدمه في بريطانيا قبلها ولا بعدها أحد.

فهل نفترض بعد الأرملة ماريا تيريزا، والأرملة فيكتوريا، ان حكايات «الأرملة الطروب» و«الأرملة اللعوب» اختراعات عربية بحتة؟

الأرجح أن الجواب بالسلب، فأمام أرملتين وقورتين رصينتين لا تستطيعان «التخبيص» العلني بسبب المنصب، هناك في التاريخ الأوروبي مئات الأرامل الطروبات اللعوبات اللواتي يشبهن أراملنا في «ألف ليلة وليلة»، وعند جميع الشعوب، فالأرملة تبكي بعين وتنظر بالأخرى إلى الرجال لاختيار حبيب أو زوج المستقبل، لكنها حين تكون امبراطورة وتدرك صعوبات الزواج من آخر غير الراحل العزيز تضطر لكل ذلك الوقار وتلك الرصانة التي تجدها مجسدة على وجه ماريا تيريزا في غرفة المليون وفوقها مسحة حزن، لا بد من وجودها على وجه كل إنسان مرهف، فمن حسنات هذه الأرملة الحزينة أنها أول من اصدر قانوناً بإلغاء التعذيب في سجون الامبراطورية وذلك قبل ربع قرن من قيام الثورة الفرنسية ضد صهرها الأول آخر «اللواوسة» الظالمين المستبدين.

* مدن النار السرية

* وتجر المقارنة بين الأرملتين فيكتوريا وماريا مقارنة أخرى بين المدينتين، ففيينا على عكس لندن، لا توحي لك بأنها مدينة سرية غنوصية رغم كثرة كنائسها، وربما كان طراز البناء القوطي الذي يهيمن عليها يعطيها ذلك «البراح المريح»، فنوافذ العمارة القوطية وسقوفها نزاعة الى التناسب، والضخامة، خصوصاً في الأدوار الأولى، ولا بأس بعدها ان تصغر النوافذ كلما ازداد النور بازديادك قرباً من السماء، ورغم ذلك الفرق فإن المدينتين توحيان ضمناً بالكبت، وربما كانت ضخامة الحجر هي التي تساعد على سحق وتقزيم مشاعر الإنسان في مدن النيران السرية والرغبات الدفينة في الأعماق.

وقد قيض للعاصمة البريطانية من يفضح كبتها وتناقضها في شخص وسيرة «أوسكار وايلد»، وانتظرت فيينا إلى أن أتاها فرويد ليحكي عن أحلامها الجنسية المكبوتة والدفينة بتلك اللغة الموحية والمشتعلة التي تأخذ شكل الفوازير والألغاز:

لا من نار ولا من جمر

يتقد ويستعر

مثل حب مستتر

لا يعلمه أحد.. ما هو

ولا تتعب نفسك في تفسير الحلم مع فرويد، ففي متحفه في فيينا ستجد عشرات المفاتيح والألغاز الجنسية عن هذه الشخصية التي نظرت إلى العالم من ثقب صغير في قلب فيينا وسهولها وضواحيها الشاسعة التي تشجع على غير ذلك، لكن لا تنس أن فرويد سليل العقلية اليهودية المحضة وكذلك كافكا وغيرهما من عباقرتها ومشاهيرها.

وعلى ذكر اليهود، فإن فيينا تحتفي بكل من مرّ أو عاش بها، باستثناء هتلر الذي ولد فيها ودرس الفنون الجميلة في كليتها وهناك عشق اليهودية الحسناء التي أعطته الطعنة الأولى ورفضت حبه من دون أن تدري أنها بتلك الطعنة تمهد لخراب قومها.

وفيينا التي تعلمت أن تنغلق كالمحار على أسرارها، لا تحكي كثيراً عن هتلر ولا عن عشيقته اليهودية ولا عن حارة اليهود «جويش كوارتيت» التي شهدت الفظائع ثم أعطت ما للتاريخ للتاريخ، وما للحاضر للحاضر، وتحولت حالياً إلى حارة حانات ومرابع ليلية وفرفشة، في مدينة الألف حانة ومليون قيثارة وبيانو.

ان فيينا ليست مدينة للأباطرة بقدر ما هي مدينة مقر ومعبر للصعاليك الكبار، وتحديداً صعاليك عالم الموسيقى، ففيها عبر كثيراً وعاش قليلاً الصعلوك الجميل «موتسارت» الذي يرقّص القلوب إلى اليوم بالناي السحري وسيمفونية «جي ماينر» التي استعار الرحبانيان بعضها للأغنية الفيروزية الذائعة «يا أنا.. يا أنا» وقد عاش هذا العبقري في حي الصعاليك والملوك «غرابن»، وله غير المنزل المعروف باسمه شقة في شارع «تليفر غرابن» قام مكانها حالياً فندق «تيجرا»، وعلى بُعد عشرة أمتار منها الشقة التي أقام فيها تلميذه بيتهوفن حين أتى من بون مسقط رأسه إلى رحاب موتسارت الذي كان يصعد ـ آنذاك ـ كالصاروخ في سماء فيينا رغم مكائد ساليتري وأشياعه من الموسيقيين الرسميين.

وبقايا موتسارت الفنية في كل مكان بالعاصمة النمساوية، ففي القصر الامبراطوري الشتوي في «هوفبيرغ» معرض للآلات الموسيقية التي عزف عليها مع موسيقيي عصره، وفي القصر الصيفي «شونبرن» صورة له مع والده وهو في السادسة من عمره قبل المرحلة التي تبناه فيها أسقف ستراسبورغ، وقد رسمت تلك الصورة في وليمة امبراطورية بمناسبة زفاف الابن الأكبر لماريا تيريزا، ومقابل تلك الصورة واحدة أخرى لمئات العربات التي جاءت من مختلف أنحاء أوروبا لمشاهدة ذلك الزفاف الذي صار حديث عصره، وفي المنعطف بعد تلك الصورة في الغرفة الصينية تمثال صغير لتشارلز آخر أباطرة الهابسبورغ الذي حكم لسنتين ودمرته مع أسرته نتائج الحرب العالمية الأولى بعد حكم متواصل استمر من 1287 إلى 1918 للميلاد، فسبحان مقلّب القلوب والعروش.

وغير موتسارت فإن فيينا كانت مرتعاً لصاحب «الدانوب الأزرق» يوهان شتراوس الذي تجد تمثاله الذهبي وهو يعزف على قيثارته في حديقة «شتاوت» التي يُقال إن اسمهان أنشدت فيها «ليالي الأنس في فيينا»، ومن المفارقات العربية الطيبة ان أحد مباني السفارة العراقية يطل على خاصرة تلك الحديقة ويتمدد بارتياح بين تمثالي شتراوس وبيتهوفن غير معني بكل ما يدور في الدنيا من أحاديث الحروب، ففي فيينا لا يجوز إكراماً لصعاليكها وعباقرتها غير أحاديث الأنس والفن.

ومتع شبابك في فيينا وغيرها، فالشباب متعة في حد ذاته، وما فيينا ككل المدن غير أحجار وأشجار على ضفة نهر طويل كأحزان الأرامل، وكان يمكن أن تظل ضحلة المظهر خامدة الذكر لولا أولئك الصعاليك العظام الذين أبدعوا فيها ثم مضوا بعد أن زرعوا الفرح في كل قلب وغرسوا في كل ساحة أرغناً أو ناياً أو قيثارة تعطّر فضاء المدينة وتعزف لزوارها أحلى الألحان.