آر. إس. توماس.. شاعر الطبيعة البرية

فوزي كريم

TT

قبل موت الشاعر آر. إس. توماس عام 2000، كنا نتوقع فوزه بجائزة نوبل، فقد كان مرشحا لها، ولكن الاصوات المحكمة ذهبت الى الشاعر الايرلندي شيموس هيني، وتركت الشاعر الويلزي، الذي بلغ السابعة والثمانين، في عزلته المختارة، داخل الأبرشية المهجورة بين الوديان.

على غلاف الكتاب، الذي صدر الآن (دار بلوداكس) لقصائد توماس غير المنشورة، نقع على لوحة معبرة لبضعة بيوت ريفية داخل واد جهم عبوس، يلوح فيه نثار الثلج على الطرقات الخالية وفوق اسقف البيوت الهامدة دون اضاءة. مشهد على درجة عالية من الخشونة والوعورة في رؤية الطبيعة والكون المحيط، والانسان اللائذ في الركن غير المرئي.

اللوحة على الغلاف اختيار موفق لأنها تعكس طبيعة شعر توماس منذ قصائده المبكرة في الثلاثينات، يوم اختار ان يصبح قسا، بعد تخرجه من جامعة ويلز عام 1936.

هذه الخشونة ليست بعيدة عن طبيعة الانسان فيه. فحول شخصه وتعامله مع الآخر يروى الكثير من القصص. فهو شأن الطبيعة البرية لا يحسن اللياقة ورقة اللمس. وشعره يعكس تساؤلات لا تنتظر اجابة، تتفجر من روح لا يقينية، ولكنها على حافة يقين يشبه الهاوية. فمن موضوعاته الاثيرة هذا التلاشي المأساوي المنذر لسبل الحياة، واحداً إثر آخر. والحقيقة الضاغطة ابداً بشأن العلاقة بين الكائن وخالقه أو ظاهرة الثقافة التي تفرضها سطوة اعلام واحدة في العالم، وتحت عجلتها تمحي الثقافات. أو مشكلة هويته كويلزي. أو مشكلة الطبيعة، في مقابل.. صناعة.. الانسان.

إن ثمة هوة بين حقيقة «الطبيعة» وبين الافكار التي صاغها المثقفون عنها في لغة، من أجل فهم هذه الحقيقة والتواصل معها. إلا ان اللغة بالنسبة للشاعر توماس عاجزة في النهاية عن طمر الهوة وبناء جسور اتصال بينها وبين الحقيقة:

«القصيدة في الصخرة

والقصيدة في الذهن

ليستا قصيدة واحدة

وإنما بموتي

حاولت ان أجعلهما كذلك».

الشاعر في احدى مقالاته يستخدم عبارة «انتحار الشاعر» بدل موته من أجل تحقيق هذا التوافق، الذي يبدو مستحيلا، بين الغريزة والفكر، وبين البدن والعقل، وبين اللغة والحقيقة الواقعية.

ان آر. إس. توماس مدهش في هذا التداخل بين حياته وفكره. وروحه المتشككة لا تترك فرصة للتعامي عن اية ملامح للهوة السوداء بين الطرفين اللذين اشرت لهما. هذه الهوة التي تشكل قاعدة مؤسسية يعتمدها الشعر العربي منذ قرون وقرون. وما من متسائل!

شعره يسعى باتجاه الفكر ولكن، عن طريق القلب، على حد تعبيره فلنتأمل معاً هذه الترجمة القاصرة لاحدى قصائده بهذا الشأن:

ثمة جائعان: جائع للخبز

وآخر جائع الروح الفظة لجلال النور

رأيت كليهما

ومن أجل انتباهة سمحة للعالم

اخترت حكاية من رُضت يداه

على أبواب الحياة المغلقة

ومَن قلبه، وقد غصّ أكثر من قلبي بالدموع

هو البئر المظلم الذي يمتح منه

قطرةً قطرة.. أكثر الشعر مرارة

القصائد التي صدرت مؤخرا تحت عنوان «فضلات»، هي بقايا أوراق شعرية عثر عليها بين أوراق الشاعر بعد موته، ولقد وضعها في ملف تحت هذا العنوان، دون ملاحظة حول صلاحية نشرها إلا ان ابنه وين توماس وجدها ارثا صالحا وهي كذلك.

في آخر المجموعة قصيدة «لا تسلني..» يعرض فيها الشاعر موقفه من القصيدة تحت انارة مباشرة وحادة:

«لا تسلني،

فما من وصفة جاهزة لديّ

أنت تعرف اللغة

تعرف اين ينتهي النثر ويبدأ الشعر

القصيدة لا تتطلب افتتاحية قداس

فعلى المستمع، اذ يدخل

أن يحس بأن الشعر متواصل منذ زمن

ولا سعال مسموح به أو تنهدات

الشعر رقية منسوجة

من الحروف الصحيحة وحروف العلة

عند غياب المنطق

لا تنشد قافية للقصيدة

إلا تلك التي تصون الايمان

بايقاع الحياة

ستخدعك اللغة ما استطاعت

الاعراب هو سبيل اللغة لاعاقة الروح

الشعر هو ما يبلغ العقل

عن طريق القلب»

آر. إس. توماس