لوحات ومنارات ومحبة في مدينة الغزاة والسلاطين والعميان

بين مسجد السلطان أحمد الأزرق وكنيسة «آيا صوفيا» القرمزية في استانبول مساحات حوار متسامح ودماء

TT

تقول الاسطورة، وخلف بناء كل مدينة اسطورة جميلة، ان الكورنثيين ذهبوا الى عراف دلفي وسألوه ان ينظر في نجومه، ويدلهم على مكان بهي المنظر عذب المياه والمخبر، فقرأ عزائمه وتعويذاته ولو كان مسلماً لبسمل وحوقل ثم التفت الى من أتوا لاستشارته، وقال: اذهبوا الى المكان الذي امام مدينة العميان واقيموا تأتيكم الصحة والهناء.

وما كان احد يعرف اين تقع مدينة العميان، فاستسلم الكورنثيون لقدرهم، وابحروا ليلا الى ان رست قواربهم على شواطئ بحر مرمرة، فناموا ليفيقوا صباح اليوم التالي على منظر كأنه الجنان، فقد كانت منطقة «سراي بورنو» امامهم، وامامها على مد البصر «ينداح البوسفور» بفضته الزرقاء وعلى شمالهم كان مضيق القرن الذهبي يساعد البوسفور على احتضان منطقة «غلطة» في استانبول، فنصبوا أوتادهم واقاموا، ولسان حالهم يقول: من يعيش امام هذا الجمال ولا يراه لا بد ان يكون اعمى، وبالفعل فإن غلطة من أجمل اصحاحات الطبيعة.

واعمى استانبول غير اعمى غرناطة مع الاعتذار من الشاعر لوركا ومواطنه الاندلسي انطونيو جالا صاحب كتاب «الوله التركي» فالوله في استانبول ليس له طعم الشفقة لكنه مثل كل حب عظيم جريء ومقتحم ومولد للبهجة والتسامح كعناق الصليب والهلال.

وما دمنا قد فتحنا سيرة التسامح، فذاك تجده على اصوله في البراح الممتد بين الجامع الازرق، وكنيسة «آيا صوفيا» في استانبول فذاك الميدان المعروف باسم السلطان احمد ساحة خيالية لمن يود توليد افكار التسامح بين الأديان والبشر والغيوم.

في منتصف الساحة تماما وامام النافورة التي توزع رذاذها بالقسط للعشاق، والسياح المتعبين تنظر الى يمينك، فترى الكنيسة بقبابها البيزنطية ولونها القرمزي الحائل الذي يوشك ان يكون ورديا، تمد مناراتها الاربع لعناق الجامع الازرق بمآذنه الست، ففكرة بناء جامع دون ايذاء الكنيسة اشارة تسامح ووئام بحد ذاتها، لكنها لمن يعرف التاريخ لا يمكن ان تفهم هناك في هذا السياق لأن الكنيسة نفسها تحولت منذ ايام محمد الفاتح الى مسجد، وجاء اتاتورك ينهي الخلاف حولها ويحيلها الى متحف، فالفن في سياقه الحضاري والروحي شكل من اشكال العقيدة، وكل المدن التي تخضبت اسوارها بالدم تدرك هذه الحقائق وتحاول ان تتصالح مع تناقضاتها مرة بالدين، وأخرى بالفن، وثالثة بخلطة من الاثنين فوقها رشة علمانية تغطي الازرق والوردية.

والعلمانية أتت مع اتاتورك لا لتجعل حياة «رجب اردوغان» صعبة في رمضان انما لتضع حدا للصراع باسم العقائد والاديان، وهذه مسألة خلافية لم يفهمها الشاعر احمد شوقي في هذا السياق، فالتركي الذي صار اميرا لشعراء العربية ناح نواح الثكلى يوم اقدم مصطفى كمال على الغاء الخلافة الاسلامية، ونفي الخليفة من تركيا، وقد نظم شوقي وقتها قصيدته النائحة المعروفة باسم «خلافة الاسلام» ومنها:

عادت اغاني العرس رجع نواح

ونعيت بين معالم الافراح

ضجت عليك مآذن ومنابر

وبكت عليك بمدمع سحاح

والشام تسأل والعراق وفارس

أمحا من الارض الخليفة ماح؟

أدوا الى الغازي النصيحة ينتصح

ان الجواد يثوب بعد جماح

وشوقي اعرف بقومه منا فهو في البيت الاخير يلمح الى لقب اتاتورك الاصلي «الغازي» الذي حمله بعد انتصاره على اليونانيين، والتاريخ في استانبول وفي كل مكان سيرة غزاة يقتلون وينهبون ويفسدون ثم يأتي الفن المأجور، فيرسم لهم صورة زاهية وان لم تصدق فاذهب وقف امام لوحة محمد الفاتح في «دولمة بهجة» وسوف تظن الفتح بالاخضر الكموني والازرق الصافي لوحة رومانسية لرحلة صيد يقف فيها محمد الفاتح على حصانه الابيض ليشرف على نزول جنوده من القوارب الى «مدينة العميان» التي كان اسمها قبل نزوله امام شاطئ «طوب قابي» القسطنطينية نسبة الى بانيها الثاني الامبراطور قسطنطين الذي اعاد اعمارها لتكون «كواترا روما» اي روما الثانية. اما اسم بيزنطة الذي يلف المدينة ويمتد ليغطي حضارة كاملة نشأت على ضفاف البوسفور، فقد جاء من اسم استانبول الاول اللاتيني «بيزانجا» الذي حوره العرب الى بيزنطة مع انه لا صلة قرابة حميمة بين الطاء التي تخرج من اول سقف الحلق والجيم المعطشة التي تخرج بالكاد من آخره.

* الفاتح والمدينة

* وتروى عن يوم الفتح اساطير كثيرة، فحين سار محمد الفاتح من الشاطئ الى كنيسة «آيا صوفيا» في التاسع والعشرين من مايو (ايار) عام 1453م نشطت المخيلة الاسلامية والبيزنطية معاً. واحدة ترثي والثانية تفاخر، فلما جاء سليمان القانوني بثيابه الارجوانية المذهبة وحريره الغالي تحولت اساطير شراسة المحاربين الى منطقة المباهاة بالثراء والغنى والجاه، واختلط ذلك كله بسيرة المحظيات في الحرملك ليصبح التاريخ العثماني كدكاكين العطارين فيه كل شيء، ومعظم ما فيه ليس من اختراع صاحبه ولا من انتاجه.

وملكية السلاطين لكل شيء ـ قبل ان يصبحوا خلفاء في وقت لاحق ـ تبدأ من محمد الفاتح نفسه فقد قيل انه حين وصل الى ساحة كنيسة «آيا صوفيا» في ذلك اليوم المشهود شاهد محاربا من جنوده يخلع بعض احجارها المذهبة فوخزه بالسيف وسأله عن ذلك، فزعم الجندي «الممسوك» بالجرم المشهود انه يفعل ذلك دفاعا عن العقيدة، فانهال عليه الفاتح ضربا وقال: انت وامثالك يكفيكم الذهب والجواري اما الامكنة فهي ملكي. قالها ثم صلى في الكنيسة واحالها الى مسجد.

ولاحقا وحين وقفت امام «عمود الامنيات» على مدخل الكنيسة، ووضعت ابهامي في الحفرة المرمرية الصغيرة تمنيت ان تعود الى الاسلام السياسي ظاهرة عمر بن عبد العزيز العادل الذي اعاد كل كنائس دمشق الى المسيحيين باستثناء واحدة هي التي يشمخ مكانها الجامع الاموي حاليا، ولهذه الامنية اسبابها فالذي يسيح في العالم بقلب المحب وعقل المتسامح يلاحظ ان نصف دماء البشرية كان يمكن توفيرها لولا المذابح التي تحولت الى محاريب والمحاريب التي صارت مذابح.

لقد ساقني الحظ ذات يوم في جزيرة «كريت» الى كنيسة معلقة اقيمت مكان محراب، وفي الاندلس عشرات امثالها في قرطبة وغرناطة ومالقة، و«آيا صوفيا» (المسجد والكنيسة) المثال الحي على تلك التقلبات العقائدية، فقد ظلت كنيسة لمدة 921 سنة ثم صارت مسجدا لفترة 481 عاما، وهي الآن تزهو بالاثنين، ويمكن ان تقدم كمثال على تعايش الاديان حين تبعدها عن المطامع السياسية، واين ذاك الذي يستطيع تخليص الدين السمح من السياسة السمجة.

في «آيا صوفيا» وفوق المحراب تماماً وكما تجد في معظم المساجد التي صارت كنائس في الاندلس لا بد ان تطالعك الآية الكريمة «وكلما دخل عليها زكريا المحراب...» وفي «آيا صوفيا» تجد الآية وحولها آية الكرسي على شكل نصف دائرة، وفوقهما في القبة الكبرى مريم العذراء بالاسود وطفلها عيسى عليه السلام بالذهبي، والهالتان النورانيتان تشعان سلاما ومحبة وسط الآيات القرآنية.

وحين تحدق الى الاعلى حيث الالوان التي عاشت اكثر من خمسة عشر قرنا ويكون المحراب على يمينك تنظر الى اليسار فتطالعك الحكمة الاسلامية التقليدية «رأس الحكمة مخافة الله» التي تجدها بكثافة في المساجد وقصور الحكم، فتظن انها تفعل فعلها وان القوم اتعظوا، ثم تنظر، فإذا العدل هو الغائب الاكبر بشقيه الاجتماعي والسياسي، في بلاد ظل الاستبداد والحكم المطلق يسوسانها وغيرها عدة قرون.

والمنبر الموجود بـ«آيا صوفيا» هذه الايام يرتدي طربوشا ازرق مذهبا، وهناك من يقول ان رهبان الكنيسة شاركوا في بنائه تأكيدا على التسامح. وآخر الاضافات التحسينية اضيفت اليه في القرن السادس عشر. اما موزاييك الكنيسة امامه وعلى بعض الاعمدة فيعود الى القرن التاسع الميلادي، وامام المحراب تماما المستطيل المرمري المزخرف الذي اضافه السلطان مراد الثالث للمؤذنين، والاضافة قريبة من دائرة تتويج الاباطرة البيزنطيين، وامام الأباطرة والمؤذنين على الجهة المقابلة اضافة أخرى لحريم السلاطين.

ولن نفتح سيرة «الحرملك» اليوم فذاك حديث نتركه الى ان نصل الى قصر «طوب قابي» الذي صُنعت في زواياه معظم حكايات الحس الشرقية، فهناك عاش السلاطين ومحظياتهم، وخصيانهم عدة قرون، وذهبوا بعد ان تركوا للعالم ارثاً رهيباً من الشبق الذي يفضل ان نتناساه ونحن نقف في كنيسة «آيا صوفيا» ومسجدها، حيث الصالة الفسيحة المرتفعة لعنان السماء مزدحمة بتناقضها المنسجم، فاسماء الله الحسنى واسماء الرسول الكريم وصحابته تتآخى على الجدران مع اقدم لوحات الموزاييك البيزنطي، واشهرها في ذلك المكان الروحي القابل لكل الاديان لوحة المدخل الضخمة للعذراء مريم ويعود تاريخها للقرن العاشر للميلاد وفيها عيسى الطفل على حضن امه المستوية على عرشها الازرق الذهبي وعلى يسارها قسطنطين الكبير باني المدينة ومجدها يقدم لها نموذج مدينته، وعلى يمينها الامبراطور جوستنيان يحمل موديل كنيسة «آيا صوفيا» الاول ليقدمه للعذراء مريم.

* هالات الاباطرة

* ولا يضاهي هذه اللوحة دقة على مدخل آيا صوفيا الا لوحة متحفها، حيث الامبراطور محاطا بالامبراطورة وجبرائيل عليه السلام يظهر كما في اللوحة الاولى والهالة حول رأسه وتلك قداسة لم يدعها أباطرة روما الاولى على عكس روما الثانية بيزنطة، حيث اعطى الاباطرة لانفسهم صفات القداسة ورسمهم الرسامون بالهالات النورانية.

ولا تستطيع وانت تجتاز ساحة السلطان احمد من «آيا صوفيا» الى المسجد الازرق إلا ان تثني على تسامح ذلك السلطان الذي طلب من معماره ان يقيم مقابل الكنيسة مسجدا يضاهيها في الفخامة، وهو مسجد المآذن الست الذي تحكى عن بنائه عشرات القصص واشهرها ان السلطان طلب من مهندسه المعماري ان يجعل المآذن من الذهب ولما لم يكن في السلطنة كلها ما يكفي ذلك المقدار العظيم، تلاعب المعمار باللغة وساعدته التركية على ذلك فكلمة «ألطن» فيها تعني الذهب، و«ألطب» تعني «ستة» وهكذا جعل المعمار للمسجد ست منارات وترك الذهب للزخرفة الداخلية الدقيقة التي اصبحت متاحة في ذلك الوقت بعد ان فرغ سليمان القانوني القاهرة، ودمشق من كل ما فيها من «الصنايعية» الذين وضعوا داخل ذلك المسجد فناً عريقاً لا يضاهى، وبالصدفة البحتة فقد تم انجاز ذلك المسجد بمآذنه الست عام 1616، فصار فيه بمناراته ثلاث، ستات، متلاحقة وذاك كما هو معروف رمز الشيطان الرجيم الذي تستعيذ بالله منه جانب منبر المسجد الازرق ثم ترفع رأسك، فترى بحر مرمرة من النافذة يصخب بود جميل ليذكرك بأن المدينة لم تعد مدينة دم وشعوذة، بل واحة روحية ومدينة سلام تتآخى فيها الأديان فهي اليوم كما قال شوقي:

خلقت كأنني عيسى حرام

على قلبي الضغينة والشمات

وتلك صفة كل مدينة كوزمبوليتانية حقيقية.

ولا تسلني من أين تدخل الى استانبول فهي ليست كبيروت تدخلها على طريقة الشعراء من بوابات النساء والفقراء، ففيها الشعر وفيها الانوثة وفيها الفقر وهي في الواقع عدة مدن في مدينة واحدة وكل اسم لا يعني تماما ما قد تفهمه منه بالعربية، فمنطقة «فندقلي» مثلا ليست منطقة الفنادق انما حي السلاطين في أواخر أيامهم قبل غروب شمس الخلافة ويتوسط ذلك الحي «دولمة بهجة» والدولمة لا علاقة لها بورق العنب هنا، فالاسم لمسجد من أجمل مساجد استانبول واسم ايضا لواحد من افخر قصور المدينة، فقد تم بناء قصر دولمة بهجة بعد ان بعُد عهد العثمانيين بالبداوة، وصار الذهب يصب في خزائن الخلفاء من ثلاث قارات.

وبما اننا فتحنا سيرة البهجة سنترك هذا القصر مع قصر مغامرات السياسة والحريم «طوب قابي» الى الاسبوع المقبل لنطل من «فنار بهجة» وبمساعدة البحارة والشعراء والنساء على عالم استانبول السري، حيث تحت كل حجر في سور تلك القصور وساحاتها حكاية تقطر بالعطر والظلم في عالم اختلطت مقاييسه ورومانسياته وتحكمت به بعد عصور المحاربين الشرسين، الغواني والجواري، والقهرمانات..

أمان جانم أمان.... أمان ربي أمان.....