لماذا ظلت تهمة الارتداد عن الشعر الحديث تلاحق نازك الملائكة (2-2)

د. عبد الرضا علي

TT

نشت امس حلقة عن بدايات الشاعرة نازك الملائكة وتأثرها بالشعر الانجليزي. وفي هذه الحلقة، يتناول الكاتب مواقفها النقدية اللاحقة وآراءها في الشعر الحديث، والسمات الشعرية التي ميزتها عن تجارب زملائها.

ليس سهلا على شاعرة «مجددة» ان يحكم عليها بالارتداد عن الحركة التي كانت هي من روادها الاوائل، لأن ذلك يعني في محصلته النهائية ان ما جاءت به من ابداع شعري، وما كان قد تلاه من تنظير نقدي، لم يكن غير صرعة او فورة مرحلية بنيت على خطأ في التقدير، فقادت الى نتائج موهومة وليست الحال كذلك لاسباب كثيرة، منها:

1 ـ ان الشاعرة كانت مؤمنة بقضية التجديد التي دعت اليها، وظلت تؤكدها في كل المناسبات واللقاءات. ولعل في ردودها الصارمة على ما تناقله الكتاب، ووصفها لما رددوه بـ «الاشاعات والتقولات الاعتباطية التي هي أحد اسباب تخلفنا في العالم العربي» ما يفصح عن موقف ثابت من التجديد والدفاع عنه، على الرغم من كل ملابسات الاتهام واسبابه ودواعيه.

2 ـ ان خطأ نازك الكبير الذي قادها الى تغيير موقفها من الشعر الحر كان بسبب تعنت مزاجي لمخالفة المهاجمين ومناكدتهم. ولعل ما يؤكد ذلك تراجعها عنه، ومحاولة تفسيره فلسفيا بالقول «ان لفتات الذوق تتبدل تبدلا محتوما من عصر الى عصر» حين توقف المهاجمون.

ولتوضيح ذلك نقول: ان الناقدة حينما درست عيوب الشعر الحديث لم تستشهد الا بشعر المتضامنين معها من الرواد، فاظهرت عيوبا في شعر: السياب والبياتي وبلند الحيدري وشاذل طاقة. ففسر ذلك على انه ارتداد عن الحركة وتنصل منها، فهوجمت هجوما عنيفا، وعدت محاولتها في تقعيد الشعر وضبطه على وفق آرائها التنظيرية محاولة رجعية للعودة الى قيود شعر الشطرين، وافراغ الحركة من محتواها الاصيل المتمثل بالخرق المفضي الى الابداع، فكان ان قادها هذا الهجوم الى التمسك المتعنت بآرائها، فلجأت الى الدعوة الى الاوزان الشطرية امعانا في مخالفة المهاجمين لها، واغاظتهم ليس غير. لأننا وجدناها تعود الى موقفها الاول في آخر دواوينها الشعرية «للصلاة والثورة» 1978م، محتضنة الشعر الحر، مدافعة عنه، داعية اليه بقولها: «انني منذ ثلاث سنوات كاملة ملتصقة اشد الالتصاق بالشعر الحر، غير راغبة في تخطيه والعودة الى شيء من الشطرين».

3 ـ اذا كانت عشر قصائد حرة في (شظايا ورماد) سنة 1949م من مجموع اثنتين وثلاثين قصيدة قد جعلت نازك من اوائل رواد حركة الشعر الحديث في العراق، وتسع قصائد حرة في (قراءة الموجة) 1957م، من مجموع اثنتين واربعين قصيدة قد اوضحت اسلوب نازك الشعري، وبحثها عن الجديد، فليس من المعقول ان تظل تهمة الارتداد عن الحركة، والتنصل منها تلاحقها حتى بعد مرحلة «شجرة القمر» 1968م، لأن موقف الشاعرة قد تغير، فقد اصدرت مجموعتين شعريتين لا تكاد قصائد الشطرين تذكرها فيهما اذا قيست بالقصائد الحرة. ففي «يغير الوانه البحرُ» 1978م، لا تجد قصيدة واحدة من شعر الشطرين، وفي «للصلاة والثورة» بيروت 1978م، لا تجد غير قصيدة يتيمة من شعر الشطرين هي «الخروج من المتاهة» اذا استثنينا قصيدة «تحية للطفلة دالية» لكونها قصيدة تجريبية تطرح اول مرة، فكيف ظلت تهمة الارتداد تلاحق نازك؟ اغلب الظن ان خصومها استطاعوا ان يزعزعوا الثقة بتجديدها، فانحسر النقد العلمي عنها، وبات مكتفيا بما قاله الخصوم، ولولا جهود عبد الله احمد المهنا واستجابة نخبة من اساتذة الجامعات، لما صحا النقد الجامعي من غفوته، وتنبه قبل فوات الاوان، وانصف الشاعرة، واعاد ثقة القراء بها.

4 ـ في شعرها الحر ظواهر فنية لا يمتلك القارئ الفاحص ازاءها، الا ان يشيد بجرأتها، ريادة واصالة، فقد كانت فيها من اسبق شعراء الحركة محاولة في الجدة والجودة، شكلا ومضمونا، ومن هذه الظواهر:

أ ـ القصة الشعرية:

ففي «الخيط المشدود في شجرة السرو» قدمت نازك حكاية حب مأساوية رسمت صورا لانفعالات محب كان قد ترك حبيبته من غير سبب، وعندما احس انه اضاعها ظن ان مجرد زيارتها كفيل بأن يذيب الثلج، ويمحو ما علق في قلبها من اسى، فكان ان اقدم على التوجه الى دارها بكل جرأة، هازئا انه سيقول لها كذبا إنه ندم على ما اقترفه من ذنب تجاهها. وما هي الا لحظات حتى يصر الباب، وتخرج اختها شاحبة الوجه، فيحدس من خلال نظراتها ان الفاجعة قد وقعت، فلا يستطيع ان ينطق الا بكلمة «هل» اذ يتوقف لسانه بعدها عن الحركة، لأن اختها تجيبه: «انها ماتت» اذ ذاك يصاب بشرود عميق، فتعتريه حالة من الهذيان الداخلي، ويبدو انه لم يسمع النبأ، فيلتفت حوله فتعلق عيناه بأول شيء تصادفانه، فيغرق في التفكير فيه، وهذا الشيء هو خيط مشدود في شجرة سرو تقوم عند الباب، فينشغل العقل المصدوم فيه، فيمد اليه يده، ويقوم بلفه على ابهامه من غير وعي، لان لفظة «ماتت» كانت بمثابة مطرقة جوفاء ظلت تتردد في اذنيه حتى جعلته يحسها افعوانا خانقا قد التف على رقبته، فيقف مذعورا من غير حراك:

ثم ها انت هنا، دون حراك

متعبا، توشك ان تنهار في ارض الممر

طرفك الحائر مشدود هناك

عند خيط شد في السروة، يطوي الف سر

ذلك الخيط الغريب

ذلك اللغز المريب

انه كل بقايا حبك الذاوي الكئيب

ان الخيط في القصيدة رمز للحب، لذلك كانت الشاعرة موفقة حين جعلت الحبيب يقطعه ويلفه على ابهامه، ويعود به من غير وعي منه، لأن قيامه بذلك تلميح الى تحمله مسؤولية ما حدث، فكان ان عاد به مقطوعا، وهو تلميح آخر الى الانفصام الذي لم يعد بعده يمتلك غير الذكرى التي حاول الاحتفاظ بها:

ويراك الليل تمشي عائدا

في يديك الخيط، والرعشة، والعرق المدوي

«انها ماتت..» وتمضي شاردا

عابثا بالخيط تطويه وتلوي

حول ابهامك أخراه فلا شيء سواه،

كل ما ابقى لك الحب العميق

هو هذا الخيط واللفظ الصفيق

لفظ «ماتت» وانطوى كل هُتاف ما عداه

ان هذه القصة من نتاج سنة 1948م، فهي بذلك تعد من بواكير الشعر الذي اعتمد الاسلوب الدرامي، ان لم تكن الباكورة الاولى فيه، لذلك فهي تؤرخ لبداية هذه الظاهرة التي شاعت بعد حين.

ب ـ الرمز:

في شعر نازك كثير من التجارب، التي عالجت فيها حالات تتعلق بأعماق الذات الانسانية، ودواخلها على نحو رمزي. ويبدو ان استخدام الرمز كان ضرورة فنية الجأتها اليها تلك الحالات التي لا يمكن التعبير عنها مباشرة. لأن المباشرة تغدو عاملا محبطا لدى التعبير عن الذات الباطنية، ومناطق اللاوعي فيها.

ففي قصيدة «الافعوان» عبرت الشاعرة عن الاحساس الخفي الذي يعتري النفس الانسانية احيانا بأن قوة مجهولة تطاردها مطاردة نفسية ملحة، حتى لا تجد مهربا للخلاص منها:

اين امشي؟ مللت الدروب

وسئمت المروج

والعدو الخفي اللجوج

لم يزل يقتفي خطواتي، فأين الهروب؟

ان هذا الخوف الذي يطارد الذات الانسانية «خوف مبالغ فيه، ومرضي من نوع المثيرات والاوضاع، وانواعه كثيرة» وهو يختلف من انسان لآخر، لذلك عبرت عنه الشاعرة ترميزا بـ «الافعوان» وحاولت الخلاص منه باللجوء الى (متاهة) سحيقة، واستعلمت طريقة الايحاء الذاتي بتطمين نفسها بأنه لن يلحق بها ما دامت قد دخلت هذه المتاهة:

انه لن يجيء

لن يجيء وان عبر المستحيل

ابدا لن يجيء

لن يراه فؤادي البريء

غير انه سرعان ما لحق بها، وسدى كان ذلك التهرب بالايحاء:

واسمع قهقهة حاقدة

انه جاء.. يالضياع رجائي الكسير

وهو تعبير رمزي يكشف عن تحكم هذه القوة الخفية في نفسية من يعتريه هذا الاحساس، وحتمية معاودتها، وان ظن انها فارقته.

واذا ما علمنا ان تاريخ نظم القصيدة يعود الى سنة 1948م، ايضا، فاننا نستطيع ان نشير مطمئنين الى ان نازك كانت من اسبق شعراء جيلها ارتهانا بظاهرة التعبير الرمزي في حركة الحداثة الاولى.

توظيف أسلوب الحكاية الشعبية:

في اعماق نازك صور من حكايات شعبية عاشتها في مرحلة الطفولة على نحو من الادهاش جعلها تستقر حية حتى بعد مرحلة النضج والاكتمال، حين برغت ثانية على شكل قصائد ذاتية تذكرية.

غير ان احدى تلك الصور كانت حكاية شعبية اتخذت شكل الاغنية المتسلسلة طريقا للتأثير. ولما كانت هذه السلسلة الغنائية مثيرة لدهشة الطفل، فان الشاعرة حين ارادت ان تغني لطفلها لم تجد افضل من توظيف اسلوب هذه الحكاية القائم على التكرار والموسيقى اللفظية ـ الظاهرية. فكانت قصيدتها «اغنية لطفلي» قائمة على الاسلوب الشعبي عينه، تكرارا وموسيقية:

براق الحلو اللثغة ينوي النوما

والنوم وراء الربوة هيأ حلما

والحلم له اجنحة ترقى النجما

والنجم له شفة ويحب اللثما

واللثم سيوقظ طفلي..

فقد بدأ كل شطر بالكلمة عينها التي جاءت في آخر الشطر السابق، فلفظة «النوم» التي ابتدأ بها الشطر الثاني كانت تكرارا للفظة عينها في نهاية الشطر الاول. ولفظة «الحلم» التي ابتدأ بها الشطر الثالث كانت تكرارا للفظة عينها في نهاية الشطر الثاني.. وهكذا. وهو توظيف لاسلوب الحكاية الشعبية المتسلسلة:

يا خشيبة نودي نودي

وديني على جدودي

وجدودي بطارف عكا

يعطوني ثوب وكعكة

والكعكة وين اضمها؟

اضمها بصنديكي

وصنديكي يريد مفتاح

والمفتاح عند الحداد

والحداد يريد فلوس

والفلوس عند العروس

والعروس بالحمام

والحمام يريد قنديل... الخ

وليس يهمنا هنا ما انتهت اليه القصيدة، ولا الحكاية الشعبية، فتلك امور لها مجالها الخاص، انما المهم هنا هو تذكير القارئ بتوظيف نازك لهذا الاسلوب الشعبي الذي تفردت به شكلا، والتقت فيه مع غيرها من الرواد مضمونا حين ادخلوا بعضا من الاغاني الشعبية، والحكايات في شعرهم.

د ـ توظيف التراث العربي الإسلامي:

على الرغم من ان قصيدة «الماء والبارود» اقرب الى الترهل منها الى التماسك لكثرة ما فيها من تكرار معنوي ممل اوصلتها الى طول غير مبرر، فإن محاولة توظيف التراث فيها تجعلنا نقف عندها وقفة فاحصة.

فكرة هذه القصيدة تقوم على رواية سمعتها الشاعرة ايام حرب (اكتوبر) رمضان 1973م. وملخصها ان جماعة من الجنود المصريين كانوا صائمين وحان موعد الافطار، وقد نفد الماء عندهم، فراحوا يتضرعون الى الله، فجاءت طائرات صهيونية، وقصفت المعسكر، فتفجر الماء من الارض حيث كانت مواسير مياه الصهاينة مدفونة.

غير ان الشاعرة وهي تعبر عن هذا الحدث الذي تلبسها لم يفتها ان تستلهم ما كان في الموروث العربي الاسلامي من حالات تخدم هذا الحدث لقربها منه في المحصلة النهائية، فكان ان وحدت بين عطشى اولئك الجنود، وعطشى الطفل ـ النبي اسماعيل (عليه السلام) حتى فجر الله تعالى له ماء زمزم. وصولا الى تحقيق غاية الري اخيرا بعد عذاب العطش:

وانبجس الماء النمير حيث عسكروا

ونام طفل الضوء اسماعيل: حول وجهه يضوع عنبر

واشرق العالم بالضياء

سبحان معطي الماء

مفجر الندى من الصحراء

ومنبت الزنبق، معطينا نهور الشعر والغناء

ان هذا التوظيف الفني هو الذي انقذ القصيدة في ظننا من الاخبارية التي ازرت بها، فلولاه لظل الاداء سطحيا في تقديم الحدث، سرديا تقريريا في رسم الصورة.

ولعل في هذه الظواهر الفنية ما يؤكد اقتدار نازك، ودورها في الجدة والجديد.