لغة ساحرة و«خيانات فنية» في أساطير الحب والجمال الإغريقية

دريني خشبة والمترجمون الأوائل اشتغلوا على روح النص ورموزه ونافسوا الرسامين في وصف الطبيعة

TT

الاسطورة ليست في المعنى وحده، فنصف سحرها في لغتها وثلثه في رموزها البدائية التي تخاطب اعمق ما فينا، والباقي لمن يريد ان يحيلها الى سمر وحكم ومواعظ للتأمل والاعتبار.

ومن بين جميع الذين ترجموا الاساطير الاجنبية للعربية يحتل دريني خشبة مكانة ممتازة في قلوب محبي الاساطير بسبب لغته الساحرة في الترجمة التي لا تخفي نفسها لكنها تتبرقع بغلالة شفافة من الرومانسية حتى في المشهد الدموي الذي لا يحتمل الرومانسيات.

وان كنت من الذين قرأوا اسطورة «ابنة نيزوس» الخائنة التي فتحت اسوار «مدينة» ابيها للغازي انسياقا وراء حبها المدمر فسوف تدرك عظمة ذلك المترجم وخصوصا في المشهد الاخير حين يكتشف الملك خيانة ابنته، ويأمر بقتلها، فتحيلها آلهة الاولمب الهازلة الى عصفورة بيضاء، وتحيل الأب الى نسر لا يزال الى اليوم كلما رآها ينقض عليها ويمزقها اربا، فكأن موتة واحدة لا تكفي ولا تكفر عن خيانة الأب والوطن، فيا للعصفورة التي تتعذب اكثر من بروميثوس.

وبدلا من ان اواصل مديح لغة دريني خشبة وحسن اختياره نظريا وعن بعد لماذا لا نقرأ معا طريقة وصفه للشابة «هيرو» في اسطورة «هيرو ولياندر» لتحكم بنفسك على خصوصية لغة ذلك المترجم الفنان «.. وشبت هيرو، وتفتح الورد في خديها الناعمين، واستيقظ النرجس في عينيها الناعستين، وضحكت فينوس في شفتيها الحمراوين ونبت المخمل يطري صباها الغض وشبابها الفينان».

صحيح ان لفظة «الفينان» لم تعد تستخدم كثيرا لكنها في موقعها في السياق اللغوي لا تبدو غريبة ابدا، ولا مستهجنة، فهي كالتطريز الانيق على ثوب مليء بالجواهر.

وفي اسطورة «ميداس» عبد الذهب والمال الذي منحته آلهة الاولمب نعمة اصعب من النقمة حيث صار كل ما يلمسه يتحول ذهبا بما في ذلك طعامه وشرابه قدم دريني خشبة تلك الاسطورة باسلوب اقل ما يقال عنه انه ساحر منذ اول صفحة حيث موكب باخوس اله الكروم والرياض الخضر ينتشي ويتفتح مع الكون ويسير البشر على ايقاع الارض في «هارموني» ابدي لن تجده بعد اساطير الاغريق الا في رومانسيات القرن التاسع عشر التي اعادت الشعراء الى الطبيعة بعد ان تختخوا وتعفنوا في ازقة المدن الرطبة.

يقول دريني في وصف موكب باخوس:

«وكانت النسوة المنتشيات يتقدمن الركب ويتواثبن على الكلأ، ويرسلن في الطبيعة الناعمة اعذب الالحان، فيوقظن الورد، ويفتحن اعين النرجس، ويشعن النشوة في الارض الهامدة فتربو، وتهتز، وتكاد من خيلائها تمشي في الموكب العظيم».

ان اللغة الجميلة تأتي دائما مصاحبة للذوق الرفيع، واختيارات هذا المترجم الذي تم قذفه بحجارة وصواعق لمجرد «خروجه على النص» من الاختيارات التي تدل على ذكاء وتعمق وفهم حقيقي لدور الاسطورة، فهناك اساطير كثيرة طويلة ومملة ولا يضيرها ان تختصر، فهذا العصر غير ذاك، وتلك الايام المديدة الرخية التي كانوا يصرفونها في القص والسرد والاسطرة هي غير ايامنا التي نمضيها، باللهاث والركض وغابة الناس، وبالكاد نجد وقتا للنظر الى وجوهنا مرتين واحدة في الصباح والثانية قبل النوم او قبل ان نهم بالكرى، فيأتينا ليداعبنا الارق.

* لعنة سولمانوس

* ان اسطورة «لعنة سولمانوس» التي تجدها في اصولها الاولى محشوة بالتفاصيل الطويلة تتحول على يد هذا الذواقة الى اسطورة رشيقة زالت زوائدها وشحومها، وظل فيها ما يفيد العقل والقلب، ويلخص حالة اولئك المتمردين الذين لا يعجبهم شيء ويريدون تغيير كل شيء بما في ذلك نظام الكون فيفشلون لانهم لا يدركون ان خلف كل حركة كونية حكمة. وهذا ما حصل مع «سولمانوس» الذي ظل يتأفف من كل شيء، فلما أُعطي القدرة على رسم خريطة الكون على هواه لحل مشاكله نظر «سولمانوس» الى اسباب الشقاء الذي يملأ الارض، فوجده في الفقر والمرض والجهل والموت، فقرر بالقوة التي اعطيت له بالاسطورة وبتفويض «زيوس» ان يقضي على تلك الشرور وارسل اوامره عبر الريح وافاق في اليوم التالي على مشهد هو لب تلك الاسطورة الممتعة:

«واصبح سولمانوس، واصبح الناس، اصبح ذاهلا لا يدري ماذا يأتي، وماذا يدع، واصبح الناس حيارى لما اصاب الدنيا، لقد صح كل مريض، وسلم من الموت كل محتضر، والناس لا يستطيعون ان يشقوا طريقهم في الشوارع لكثرة ما بها من الاقوات والارزاق، وهم جميعا يفلسفون ويتحاورون في نظريات العلم العميق المعقد بكلام سهل مفهوم، وسولمانوس ينظر اليهم فاغرا فاه من الدهش لا يدري كيف حدث هذا كله في ليلة، ولا يدري كيف يبلغهم انه هو الذي امر بهذا كله، فحدث في ليلة..».

وفي سياق تلك الاسطورة يذهب سولمانوس الى حبيبته «كاكيا» سكران بصنيعه، فيتزوجها ويقيم في بيتها متفرغا لملذاته تاركا الدنيا وقد ظنها على احسن حال لكنها لم تكن كذلك فالناس سئموا حياتهم الرتيبة دون كدح، وتوقفوا عن التفلسف والعلوم الكلامية، فالفلسفة النظرية التي لا تهدف الى غرض بائسة والعلوم التي لا تثمر شيئا ينفع الناس لا قيمة لها. لكن الخطر ليس هنا بل في اكتظاظ الارض بالبشر والدواب، واختناق هوائها بكثافتهم بعد ان غاب عنهم المرض والموت، وهكذا بدأ هؤلاء يفكرون بالتعاسة التي سببها لهم سولمانوس ويقررون الانتقام منه.

والنتيجة ان ذلك الانسان الذي امتلك القوة ولم يتعلم التسامح والرحمة يفكر وهو ذلك الثائر، والمتمرد القديم ان يرسل صواعقه على الثائرين ليدمرهم عن بكرة ابيهم قبل يوم من نهاية العام الذي منحته اياه الهة الاولمب لاصلاح شؤون الكون، ويفشل الانتقام طبعا لأن من اعطوه قوة الفعل وخولوه احكام التغيير كانوا يراقبون تحركاته ويعرفون انه مجرد انسان محكوم بالحماقات وغرائز الانتقام وقدرته يستحيل ان تتجاوز الجزئيات الى الكليات والصورة الناقصة المجتزأة الى اللوحة الكونية الكلية.

ان النفس البشرية والطبيعة الصامتة والناطقة هما الميدانان المفتوحان لمباريات الريشة والقلم، وبعض الاقلام تنتصر على الريشة معظم الاوقات في وصف النفس، اما الطبيعة ورسمها فيكون النصر فيها للريشة الا في حالات نادرة منها هذا المترجم المبدع الذي يبرع قلمه في الوصف الطبيعي، فيعطي للاسطورة الاصلية جمالا فوق جمالها الاصلي كوصفه الاخاذ في اسطورة «دموع تمثال»:

«كان القمر الجميل يسكب لجينه في ارجاء الليل الساجي، وكانت الطبيعة الرائعة تغازل احلام النائمين، وتبسط عليهم سلامها، وكانت انفاس الربيع ترشف العطر من اكمام الزهر لتعبق به في عيد «لاتونا» ذلك العيد الذي يداعب العذارى بأعذب الاغاني، ويغري الشباب في كل ربيع بأحلى الاماني، ويكسب الحياة دفئا والعيش مسرة، ويجعل لكل شيء بهجة ويشيع في الوجود جورا..»

* القبلة الغائبة

* لقد اعتاد اصحاب الخبرة القليلة باللغة ان يصفوا امثال هذه المقاطع بـ «الانشاء» الذي اوشك ان يصير تهمة، وهو ليس كذلك، فهناك جسر رفيع بين تكلف الانشاء وروح اللغة البازخة لا يستطيع العبور عليه الا اولو العزم من اللغويين والمترجمين، اما غيرهم فسرعان ما يسقطون ـ وان بدأوا بدايات جيدة ـ في وادي التكلف الانشائي، وما ذاك الا لان العبور فوق ذلك الجسر يحتاج الى مهارات، والى معرفة عميقة بروح اللغة المترجم عنها والمترجم اليها وتلك ميزة لا تتوفر لكثيرين، فهناك من يتقن اللغة التي يترجم عنها دون المام بخفايا العربية واسرارها، وهناك من يمسك بزمام الفصحى باقتدار لكن معرفته وامتلاكه لروح اللغة المترجم عنها تظل دون عربيته فيظهر الميل والعرج، وتتشوه نصوص كثيرة بسبب فقدان هذا الميزان الدقيق.

ان اكبر المآخذ على دريني خشبة عدم التزامه بالنصوص الاصلية، وهذه تهمة وخيانة غير ضرورية ان كنت تترجم وثيقة تاريخية او قانونية لكنها في الشعر والاسطورة ليست كذلك والمطلوب فيها خيانة المترجم قبل امانته، ففي ذلك المجال الرحب الخصب يكفيك ان تفهم روح النص لتعيد خلقه بلغة اخرى، فالمترجم في بعض المذاهب هو الخالق الثاني للنص وزارعه الاول في ارض ولغة اخرى، فالخيانة هنا فنية وضرورية وليست خيانة اخلاقية مستهجنة.

لقد اعاد هذا المترجم المميز صياغة الاساطير وخصوصا الاغريقية منها، وقدم للمكتبة العربية اكثر من مجلد عن اساطير الحب والجمال عند اليونانيين، وربما يكون قد اخطأ بعدم توضيح قصده واسلوبه ومنهجه لكن الامور بخواتيمها وما بين ايدينا من نصوص مشعة لاساطير الاغريق كما قدمها هذا العاشق المتيم بالاسطورة تدل على ان النتائج مقبولة ان لم تكن ممتازة، فما كل الناس تقرأ الاساطير لغرض البحث العلمي والدراسات اللغوية المقارنة انما الاغلبية تمر عليها للمتعة، وهذه لا تكتمل وتبلغ ذروتها بغير الاسلوب الجميل واللغة الفاتنة لاولئك الخونة المتمكنين من اللغات.

لقد كانت الاسطورة على الدوام تعبيرا رمزيا لامتلاك العالم ومرحلة اكتشاف بشرية مثيرة تعكس طفولة العقل الانساني، فهي والحالة هذه تحتاج الى لغة خاصة تقف وسطا بين الشعر والنثر، وتمتلك القدرة على الرسم التصويري والايحاء التعبيري، وقبل هذا وذاك البساطة والاختزال وكلها صفات تجدها عند دريني خشبة الذي يدهشك باقتداره على تكثيف مسألة متشعبة بعبارة واحدة، ففي اسطورة «هرقل» وحين اراد وصف علاقات «زيوس» النسائية الكثيرة السرية منها والعلنية اكتفى بالقول «كان قلب الاله الاكبر شيوعية في دولة الحب» وانطلق بعدها ليحكي عن غرامه بألكمين ام هرقل وكله ثقة بان القارئ فهم قصده واستعد لما يأتي دون حاجة لحشو او تطويل او ابتذال.

ولا اعرف ان كان قد تم تكريم ذكرى هذا المترجم ـ الفلتة من جيل الرواد، فإن لم يكن فهذا هو وقت رد الجميل لاولئك الذين شكلوا جسورا للتلاقح بين اللغات والحضارات ولعل ولده الكاتب المسرحي سامي خشبة والدكتور جابر عصفور الامين العام للمجلس الاعلى للثقافة هما الاقدر على تنظيم احتفالية للاحتفاء به وبترجماته ودوره وادوار جيله من المترجمين الاوائل الذين ندين لهم بالكثير رغم الملاحظات الكثيرة على صنيعهم.

في المجلد الثاني من اساطير الحب والجمال عند اليونانيين اسطورة اسمها «القبلة التي انقذت العالم من الطوفان» وتحكي عن حبيبين «ديوكالين وييرها» في اللحظات الاخيرة من العصر الحديدي الذي قرر فيه «زيوس» ان يغرق العالم، فطفح الماء ليغطي كل شيء ووصل الى القمة التي يقف عليها الحبيبان وفي لحظة الحب الوداعية تلك نظر العاشق في العينين الخضراوين الزبرجديتين للمحبوبة وهي تقول له: لن ادع يدك تفلت من يدي. واراد ان يقبل تلك اليد لكن الحبيبة ابت الا ان تذهب «القبلة الثمينة الخالدة الى مكانها الخالد المقدس عند قرمز الشفتين المرتعشتين».. فلما كان لها ما ارادت رق قلب زيوس ورهطه وتراجعوا عن قرار اغراق الارض اكراما لتلك القبلة الصادقة التي ولدت تحت هاجس الخوف من الفقدان.

ان الترجمة هي القبلة التي ستنقذ الثقافة العربية من الجفاف، وليس من الطوفان، ومن شأن تكريم دريني خشبة وجيل المترجمين الرواد ان يذكر الجيل الحالي بقصوره او يغريه بالمزيد من تلك القبل الثقافية الممتعة التي تعيد لثقافتنا ألقها الذي بلغ ـ لمن يريد ان يتذكر ـ الذروة في عهد مدرسة بغداد للترجمة في عهد المأمون ثم في عهد مدرسة طليطلة ايام المجد العربي في الاندلس.