قصاصات من ذاكرة خصبة

رحيل الكاتب العراقي عبد الغني الخليلي في منفاه السويدي

TT

كان يخشى من مجيء مثل هذا اليوم، لكنه جاء. كان الشاعر عبد الغني الخليلي يخاف أن يدفن في صقيع أرض لا يسمع فيها «هديل الحمام الخافت الرقيق عند الغبش»، وهو «يستقبل نجمة الصباح فتبتهج لمنظرها البهي المآذن» تلك الصورة التي كان الخليلي يحملها في ذاكرته الطرية عن «النجف» مسقط رأسه.

ففي يوم الجمعة، الخامس عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) حمل «شيخ الشباب»، كما سماه صديقه الشاعر الراحل مصطفى جمال الدين، على اكتاف محبيه نحو مقبرة في شمال العاصمة السويدية استوكهولم، حيث ووري ثرى ارض غريبة، حاملاً معه ذكرياته عن المخزومي وحسين مروة والجواهري وعلي جواد الطاهر وغيرهم.

كان عبد الغني الخليلي شاعرا وناثرا مبدعا هضم تراث ابن عربي والمتنبي وحافظ ابراهيم، حيث نشأ في اسرة الخليلي العريقة التي سكنت النجف منذ اواسط القرن الثامن عشر، ومنها نبغ مشاهير في العلم والادب والشعر والصحافة، ومنهم القاص جعفر الخليلي والشاعر الناثر عباس الخليلي. وكانت مدرسة الخليلي منارة للعلم والمعرفة حيث خّرجت علماء وادباء ومثقفين تتلمذوا على ايدي اساتذة كبار مثل حسين مروة ومحمود الحبوبي ومحمد جمال الهاشمي وغيرهم.

ففي هذه البيئة الثقافية صقل عبد الغني الخليلي موهبته في الشعر والنثر ونشر اولى كتاباته في الصحف النجفية وهو ما يزال دون الرابعة عشرة.

كان الخليلي مولعا، ومنذ صغره بكتابة الرسائل. كان يراسل شخصيات ثقافية وادبية عربية وعراقية كثيرة.. وفي احدى المرات كانت قد وصلت اليه رسالة من الشاعرة مي زيادة عنونتها الى الاخ الشاعر الكبير عبد الغني الخليلي. يقول، في آخر مقابلة اجريتها معه، انشرها هنا لاول مرة، ان هذه الرسالة اطلع عليها عمه الكاتب جعفر الخليلي فكتب الى زيادة يقول ان الاخ الكبير عبد الغني الخليلي ليس إلا صبيا لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره.

ولد عبد الغني الخليلي في النجف عام 1925 وفي اواسط الاربعينات غادرها الى بغداد بحثا عن وظيفة. فعمل معلما في مدرسة بالكاظمية. يقول عن ذلك في حوار أجريته معه ولم ينشر: «خلال فترة عملي في وظيفة التعليم لم اكتب شيئا، حتى ان مطالعاتي قلت، بسبب التعب الذي كان ينالني جراءها. ثم فصلت من العمل بسبب نشاطي السياسي وعدت الى مدينة النجف، حيث بقيت فيها سنوات، عدت بعدها الى بغداد لأعمل في مطبعة الزهراء التي كان يملكها عمي، رحمه الله، وبعدها بعامين انتقلت للعمل في البنك اللبناني المتحد، ثم في مصرف الرافدين ببغداد».

وفي عام 1976، بعد اثنين وعشرين عاما من عمله في البنك يحيل الخليلي نفسه الى التقاعد ليتفرغ للكتابة، ويدوّن ذكرياته عن مدينته العريقة النجف.

«في آواخر السبعينات بلغ ما كتبته الفي صفحة. ثم جاءت عملية التهجير الظالمة فاستولى الجلاوزة على البيت وما فيه من كتب ومن ذكريات مدونة على الورق».

وفي وصفه لرحلة التهجير السيئة الذكر إلى إيران بحجة التبعية الإيرانية، وهو يسير بين الادغال حاملاً أمه على ظهره، لا ينسى الخليلي ذكر الربيع الذي بدأ «يفرش الوديان والجبال والسهوب، بالاعشاب البرية، فخفقت اولى وريقاتها الخضر، وتغلغل الدفء الى عظام أمي التي مسها البرد، وأضناها التعب. فتململت بحركة شفتيها تطلب مني شيئاً من الطعام، إذ داهمها الجوع، فمنذ ثلاثة أيام، لم تذق خلالها طعاماً ولا شراباً، سوى جرعات من ماء المطر المتجمع في الحفر. كنت أغرفه لها بيدي فتشرب.. وبينما كنت أبحث لها عن أعشاب ندية في مساكب الخضرة يمكنها أن تسد بها جوعها عثرت على الخباز البري. وحين عرفت أنها تعجز عن مضغه، رحت أمضغه لها وأدسه في فمها».

ويقول عن أسباب عدم نشر أعماله ومذكراته:

ـ «ما كتبته لم يكن لتسمح به الرقابة، إذ أن كتاباتي لا تخلو من السياسة والاشارة الى الاضطهاد الذي كان يعانيه الشعب من الحكم الملكي آنذاك. اتذكر وأنا في الثانية عشرة من عمري وربما اكثر بقليل عندما خرجت من بيتي في حي العمارة الى صحن الامام علي ـ كرم الله وجهه ـ فوجدت الصحن غابة من الجنائز، صفوفا ممتدة حتى باب السلام، ثم ذهبت الى والدي فوجدت عنده علي الشرقي وابراهيم الوائلي والزعيم عجمي ابو كلل يتحدثون عن مجزرة في الجنوب، في اطراف الرميثة، قام بها رشيد عالي الكيلاني. وهذه الجنائز كانت ضحايا المجزرة، كان من بينهم مئات الاطفال. هذه الحادثة دونتها، وهي ما زالت تثير الرعب في نفسي كلما تذكرتها. وأنت تعرف ان هذه وامثالها كثير ترعب السلطة الحاكمة آنذاك».

بعدها جاء البعثيون وما قاموا به من قمع و تعذيب ضد المعارضين، فنصحني البعض ومنهم الدكتور علي جواد الطاهر ومحمد المخزومي ألا يطلع على تلك المذكرات أحد. هذه الظروف كانت منعتني من طبع ما كتبت.

في منفاه السويدي وبعد إلحاح من محبيه، تمكن الخليلي من جمع قصاصات من ذاكرته الخصبة واصدر كتابين لهما ذات العنوان «سلاما يا غريب»، الاول عن دار المنفى في السويد والآخر عن دار المدى بدمشق وفي ثناياهما تغور حكايات وحكايات عن تلك الربوع الخصبة والذكريات الجميلة، ومعها بعض من الرسائل التي كان يتبادل بها مع اصدقائه الذين شاركه جلهم صقيع المنافي والتغرب.

«أكثر كتاباتي عبارة عن رسائل، فأنا مولع بها. كنت اراسل كثيرا ادباء من مصر والعراق وسورية ولبنان، من بينهم بشارة الخوري ومارون عبود وبدوي الجبل والحبوبي والجعفري والوائلي والهاشمي وغيرهم. كنت احتفظ بصندوق مليئ بمثل تلك الرسائل».

أهتم الخليلي كثيرا بأدب الرسائل، وكتب الشعر كذلك. وله، كما ذكر لي، ديوان كان معدا للطبع، ويضم اكثر من الف وخمسمائة بيت.

ومن علاقاته التي يعتز بها علاقته بالجواهري التي يقول عنها:

ـ «علاقتي بالجواهري قديمة فعائلتانا كانتا متجاورتين. اتذكر محمد الجواهري عندما كنت في الثانية عشرة من عمري، كنت ازور عمي الطبيب محمد الخليلي حيث كان يقيم في الكوفة. وكان الجواهري يعمل استاذا للادب العربي في ثانوية النجف. وكان بيت عمي مرتاد الادباء والشعراء النجفيين وغيرهم. كنت احفظ ديوان الجواهري الذي اصدره عام 1935 بيتا بيتا عن ظهر قلب».

=